يتصدر فيلم "جزيرة مغلقة" "Shutter Island" إيرادات السينما في أمريكا الشمالية للأسبوع الثاني على التوالي إذ حقق 22.2 مليون دولار في فترة ثلاثة أيام ليصل إجمالي ما حققه منذ بدء عرضه إلى 75.1 مليون دولار . في المقال النقدي التالي الذي ترجمه الزميل مالك عسّاف ، لا تتوانى صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية الشهيرة في توجيه سهام النقد السينمائي لفيلم "جزيرة مغلقة " آخر أعمال المخرج الأمريكي المبدع مارتن سكورسيزي. " جزيرة مغقلة " .. متاهة مغلقة وعديمة التهوية ومضات من الإتقان والبراعة* تجري أحداث فيلم "جزيرة مغلقة" قبالة سواحل ماساتشوستس في العام 1954. آسف، كان يجب أن أضع علامتَي تعجب بعد "ماساتشوستس" و"1954"، لأن جميع تفاصيل وأحداث الفيلم، مهما كانت صغيرة، تتعرض لقدر هائل من الإسهاب والإطالة. أما موسيقى التشيللو المخنوقة، فهي ترافق صور جزيرة مغلقة، التي يتخذ الفيلم منها اسماً له، وهي عبارة عن مكان موحش وكئيب يحتضن مستشفى للمجانين من ذوي السلوك الإجرامي! وإذا ما تأملنا الألوان المستخدمة في الفيلم فسنجد أنها شاحبة على نحوٍ مخيف، في حين أن تنقلات الكاميرا تنبئ بالقلق والترقب. كل شيء هو في الحقيقة بخلاف ما يبدو للوهلة الأولى؛ ثمة أمرٌ كارثي على وشك الحدوث. للأسف، يتبين لنا فيما بعد أن هذا الأمر الكارثي هو الفيلم ذاته، الذي قام بإخراجه مارتن سكورسيزي. ومثلما تتبدى لنا جزيرة مغلقة في المشاهد الافتتاحية شيئاً فشيئاً، فإن الأبعاد الكاملة للكارثة تتضح أيضاً على نحوٍ تدريجي. في البداية يبدو كل شيء على ما يُرام، حيث يستخدم سكورسيزي مهاراته الأسلوبية الفائقة، والمتمثلة في فهمه العميق والشامل لآلية التفاعل بين الصوت والصورة، من أجل ابتكار المعاني والحالات النفسية، وذلك بهدف استحضار جو مشحون بالشك والخوف. الوسيلة التي يتم من خلالها إيصال هذه المخاوف تتمثل في النجم ليوناردو ديكابريو، الذي يؤدي دور تيدي دانييلز، المارشال الأميركي الذي يستقل قارباً إلى تلك الجزيرة المعزولة للتحقيق بقضية اختفاء أحد المرضى. وديكابريو، الذي يبدو أنه أضحى مهووساً باللكنة التي تحدث بها في فيلم «الموتى»، يستعيد تلك اللكنة مرة أخرى خلال ركوبه القارب، فتنتشر كالمرض المُعدي في كافة أرجاء الفيلم. أما شريك تيدي، تشاك أول، والذي يؤدي دوره مارك رفالو، فيُفترض أن يكون من دول شمال غرب المحيط الهادي، لكن من خلال حديثه يتبين لنا أنه ربما نسي جميع أحرف الراء (R) في سياتل. في حين أن النجمة ميشيل وليامز، التي تؤدي دور دولوريس، زوجة تيدي الميتة، فتظهر أحياناً ضمن اللقطات الخاصة بالذكريات والهلوسات، وهي مغطاة بالبقع المتسخة والألوان بينما تتحدث بلكنة ثقيلة. هذه التغييرات في إيقاع اللهجة تهيمن على «جزيرة مغلقة»، لكنها ليست الأصوات الوحيدة المسموعة في محيط ذلك المصح العقلي، الذي يتنقل فيه المرضى بتثاقل، فيما يسير المشرفون والممرضون في أرجائه كأشباح تتربص للانتقام. بن كينغزلي، الذي يؤدي دور الدكتور كولي، الطبيب النفسي المسؤول، ينضح صوته بالهيبة والتهديد اللذين يتمتع بهما أبناء الطبقة العليا، فيما تغطي ذقنه لحية صغيرة توحي بالنزعة الشريرة. أما ماكس فون سيدوف فتتدفق منه الفرويدية، عندما يقوم بدس اللهجات الألمانية التي تذكِّر تيدي- وبالطبع ليس فقط تيدي- بالنازيين، الأمر الذي يمهد السبيل أمام سلسلة من اللقطات التي تُظهر، على طريقة الخطف خلفاً، الجثث المكدسة أمام ثكنات معسكرات الموت. هذه الصور تنبعث من ذهن تيدي المشوَّش، والذي تُعتبر حالته من الألغاز الكبيرة في الفيلم. بالطبع هناك الكثير من الألغاز الأخرى، مثل التلميحات حول المؤامرة والإيمان بالقدرات الخارقة، وخدع الحرب الباردة، والكثير من الأمور الأخرى التي ينضح بها الجو العام، الذي يتعكر صفوه إما بسبب سوء الطقس، أو التغضن الذي يصيب جفن ديكابريو. أثناء لقائه بالمرضى والموظفين، في محاولة للتعرف إلى كيفية اختفاء سيدة، تُدعى ريتشل سولاندو، من زنزانتها وهي حافية القدمين، يصاب تيدي بآلام صداع وكوابيس وجنون ارتياب. فجميع الذين يلتقيهم يبدو عليهم أنهم يخفون سراً ما، لكن ماذا عساه أن يكون؟ هل ما يجري هو عبارة عن اختبار لوسائل نفسية جديدة لها علاقة بالتجسس؟ أم إنه متصل بطريقة أو بأخرى بالأبحاث الطبية المروِّعة التي أُجريت في عهد الرايخ الثالث؟ هل الوسائل المستخدَمة من قبل الدكتور كولي، والتي يدعي أنها متطوِّرة من الناحية الإنسانية، مقارنةً بما شهده الماضي من وحشية وخرافات، هي بحد ذاتها شكلٌ من أشكال الجنون؟ وماذا بشأن تلك المصادفة الغريبة المتمثلة في أن جزيرة مغلقة تؤوي ذلك المهووس بإشعال الحرائق، الذي كان تسبب بوفاة دولوريس؟ كل هذه الألغاز توحي بمضامين تؤدي في نهاية المطاف إلى خنق الفيلم، الذي تتباطأ حبكته عن التدفق إلى درجة التخثر. وبالرغم من أن سكورسيزي لا يفتقر إلى الإمكانيات والبراعة في هذا المجال، إلا أنه يستسلم لتأثير ألفريد هيتشكوك، الذي يُعتبر أستاذاً في إثارة الاضطراب النفسي، كما أنه لا يخفي تأثره بماريو بافا، أستاذ أفلام الرعب الإيطالية، والذي تؤكد أفلامه بشكلٍ دائم على تغلب الإحساس على الحاسة. صحيحٌ أن مهارة سكورسيزي في استخدام الكاميرا تملأ كل مشهد من مشاهد الفيلم بالإحساس بالقشعريرة، لكن يبدو أن القدرة على مواصلة التشويق الآسر خارج متناوله. وهكذا فإن المشكلة الدرامية الرئيسية في الفيلم- أي الحدود غير المستقرة بين واقع جزيرة مغلقة والصورة الموجودة في ذهن تيدي عنها- تفقد إثارتها تدريجياً مع التوالي البطيء لأحداث القصة. وعندما تبدأ الإطالات والالتفافات والتفاصيل غير الهامة في القصة بالتكاثر والانتشار، يساورنا شعور بأن القصة خرجت عن مسارها. لكن في اللحظة التي يجب أن يتسارع فيها الكشف عن اللغز، يبدأ الفيلم بالتباطؤ، الأمر الذي يفرض على تيدي المسكين الالتقاء بنخبة من الممثلين، مثل إيملي مورتيمر وجاكي إيرل هايلي وباتريشا كلاركسون، الذين يقدمون شرحاً مسهباً ومملاً لأمور يعتقد الجمهور أن لا علاقة لها على الإطلاق بقصة الفيلم. بالنتيجة ينجح سكورسيزي في إجبارنا على تأمل خيوط البساط الذي ينسجه، ليقوم في نهاية المطاف، وبمنتهى التأني، بسحبه من تحت أقدامنا. مع اقتراب الكشف عن الحقائق النهائية، تتضاءل الرهانات بشكلٍ كبير، ثم يساورنا إحساس بأن الفيلم كان عبارة عن ابتكارٍ موتورٍ ومتكلف لا هدف له. هناك بالطبع من يفضل عدم التوصل إلى مثل هذا الاستنتاج، وذلك إلى حدٍّ ما بدافع الولاء لسكورسيزي، هذا المخرج الذي يؤثر بعض النقاد تجيير الشك لمصلحته. لكن في هذه الحالة يبدو أن الشك ينبع من صانع الفيلم نفسه، الذي بدا غير قادر على تحديد الأمور التي تشغله، بمعزل عن أي هواجس شكلية محلية خاصة. صحيحٌ أنه استخدم في الماضي شخصيات تمتلك تصوراً هشاً للواقع- أو شخصيات تعيش على نحوٍ أعمى ضمن واقعٍ من صنع يديها- كوسيلة لإيصال الاستكشاف النفسي والنقد الاجتماعي؛ لكن كلاً من ذهن تيدي وعالم جزيرة مغلقة يمثلان نظامين مغلقين وعديمي التهوية، تضيئهما ومضات الإتقان الشكلي والبراعة الفنية، إنما من دون أي نوع من أنواع الحرارة أو القناعة أو الهدف. *عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية