تطلع علينا وسائل الإعلام بين الحين و الآخر بأخبار أصحاب ملايين متسربلين في ثياب متسولين ، كما أنه أصبح من الشائع الآن بعد تواتر تلك الأخبار أن كثيرا من المتسولين هم في حقيقتهم أغنياء يفتقرون إلى العفة أكثر مما يفتقرون إلى شيء آخر . و من بين آخر الأخبار التي قرأنا عنها في هذا الأمر ما أوردته جريدة التجديد في صفحتها الإلكترونية ليوم 11 فبراير 2010 عن ضبط ما يقرب من 03 ملايين درهم لدى متسولين بمدينة الدارالبيضاء في حصيلة لحملة تمشيط شملت المدينة من مارس 2007 إلى فبراير 2010 ، و أشار تقرير الجريدة إلى أن المتسولين المعنيين بالأمر هم في أغلبهم في صحة عادية تؤهلهم لاكتساب أرزاقهم بطرق كريمة عفيفة ..، غير أنه يبدو أنهم آثروا تلك الطريقة بعدما تمكنت منهم جرثومتها التي جففت ماء وجوههم ... ومن المعروف أن من بين الدوافع الأساسية التي تدفع بالسلطات إلى تحريك عمليات التمشيط تلك هو تلك الصورة التي يبدو بها المغرب من خلال مشاهد أولئك المتسولين ، و كذلك للسمعة السيئة التي ينتشر صداها عن هؤلاء من أساليب الاحتيال و استغلال القاصرين : هناك توجه عام إذن يدعو إلى وضع حد لهذه الظاهرة الاجتماعية السيئة السمعة . هي بادرة حسنة تلك التي تريد أن تنظف شوارعنا من مشاهد الخزي و العار تلك (1) ، غير أنها و في المقابل تحمل مفارقة عجيبة لسياسة تعج بالمتناقضات . فإذا كانت الدولة تحارب ظاهرة التسول التي يمارسها هؤلاء الأفراد ، فإنها تشجع التسول نفسه في إطارات أخرى تأخذ لها مسميات مختلفة من قبيل المساعدات و الهبات التي تقدمها دول أو منظمات أجنبية لجمعيات مغربية أو للدولة نفسها . و يمكن لأي ملاحظ أن يشاهد مثلا العديد من التجهيزات مثلا التي تحمل شعارات دول و منظمات إلى جانب العلم المغربي : فهذه هبة يابانية ، و هذه هبة بلجيكية ، و هذه هبة أمريكية ،إلخ . وإنه إذا أجرينا مقارنة بين ذلك التسول الفردي و هذا التسول الجماعي ، فإنه من أوجه التشابه بينهما أنهما معا يحاولان إخفاء حقيقة ثرائهما ( التي تنتظر فقط من يكشف عنها ) ، و يحاولان الظهور في مظاهر مأساوية حزينة تبعث في الآخر أحاسيس العطف و الرحمة بحيث أنهما يتفننان في أساليب الاستجداء . تكشف حملات التمشيط التي يتعرض لها المتسولون عن الثراء المخفي لعدد من المتسولين ..؛ و تكشف بعض لجان تقصي الحقائق البرلمانية عن الثراء المخفي لهذا البلد ؛ ثراء يغنيه عن إهراق ماء وجه أبنائه بالتسول لدى الدول و المنظمات الأجنبية الشامتة . ولنتذكر مثلا ما كشفت عنه لجان تقصي الحقائق ( للولاية التشريعية 1997 2002 ) من خبايا الاختلاس ، و نهب وتبذير المال العام و اختلالات خطيرة أخرى في مؤسستي القرض العقاري و السياحي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (2) أ) ففيما يتعلق بالقرض العقاري و السياحي نتذكر : حجم القروض المشكوك فيها أو الميئوس منها التي تجاوزت قيمتها 13 مليار درهم : * أي ما يكفي لبناء أزيد من 134 ألف قاعة مدرسية ، أو 192 مؤسسة جامعية ..، و بالتالي الرفع من مستوى التعليم بالمغرب !!..؛ * أو ما يكفي لبناء 269 مستشفى إقليمي ..، و بالتالي الرفع من مستوى الصحة بالمغرب !!..؛ * أو ما يكفي لبناء أكثر من 44 ألف شقة ..، و بالتالي إيواء أكثر من 200 ألف أسرة مغربية في ظروف سكن كريمة !!..؛ * أو ما يكفي لشق أكثر من 16 ألف كلم من الطرق المعبدة في مستوى الطرق الوطنية ..، و بالتالي فك العزلة عن الكثير من القرى المغربية !!.. و جم التبذير الفادح في الأجور الخيالية التي يتقاضاها كبار موظفي هذه المؤسسة ؛ فأجرة الرئيس المدير العام لوحدها ( 258 ألف درهم ) تكفي لتشغيل 107 من الأطر المتوسطة ..، مما كان سيمكن مثلا من تحسين مستوى دخل العديد من المغاربة ..، و بالتالي إخراجهم من دوامة الفقر !!.. والتبذير الفادح كذلك في النفقات الشخصية لكبار الموظفين هؤلاء التي تعادل قيمتها قيمة عيش الآلاف من المغاربة البسطاء !!. ب) أما فيما يتعلق بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فلنتذكر : حجم الضرر المالي المهول الذي حددته لجنة التقصي في 115,4 مليار درهم ... أي ما يقارب حوالي ثلث الناتج الداخلي الخام لسنة 2000 !!.. و حوالي 80 % من حجم المديونية الخارجية التي على كاهل المغرب سنة 2001 !!.. إنها أرقام رهيبة تعبر بجلاء عن ضخامة الأزمة الأخلاقية التي يعانيها المغرب في مؤسساته العمومية ، و ما من شك في أن الرقم سيزداد ضخامة و تزداد الصورة قتامة لو أنه كُشف عن وضعية باقي المؤسسات العمومية الأخرى ، و هذا ما قاد السيد عبد الله آيت شعيب (2) إلى القول : إلا أنني أكاد أجزم أن مؤسسات عمومية أخرى تعرف نفس التبذير أو أكثر ، و بالتالي أكاد أجزم أن المغرب كان يمكن أن يكون في مصاف الدول المتقدمة منذ عقود لو وضعت خيراته و ثرواته في أيادي أمينة ، ثم يقول عن المغرب أن له من المؤهلات ما يجعله في مصاف الدول المتقدمة باستثناء مقوم واحد : العنصر البشري المتشبع بروح المواطنة . تؤكد تلك الأرقام حقيقة أن المغرب ضَيّع من عمره الكثير ، فلو أن الصورة كانت على خلاف ما كشفت عنه تلك الحقائق لتمكنا منذ وقت مبكر أن نرفع من مستويات التعليم و الدخل و الصحة عندنا ، و لأمكننا بذلك أن نتبوأ مراتب عالمية متقدمة مشرفة تجعلنا محط إعجاب و احترام و تقدير ... غير أنه للأسف ، ما أن يمر عام حتى نفاجأ بأننا ننحدر نحو أسفل القائمة ؛ فقد تراجع المغرب كما يعلم الجميع إلى المرتبة 130 عالميا ( مما مجموعه 182 دولة ) في الترتيب العالمي للتنمية البشرية (3) لسنة 2009 بعدما كان في المرتبة 126 سنتي 2007 و 2008 . و تزداد صورتنا قتامة عندما نعلم أننا نأتي في مراتب متأخرة حتى عن دول كنا نظنها أسوأ حالا منا ... إلى ما نفتقر إذن ؟ * * * * * تؤكد عدة تجارب عالمية أن السر في التقدم أو التخلف يكمن أساسا في العنصر البشري قبل البحث عن الإمكانيات التي يوفرها المجال الطبيعي لصالح البلد . الحمد لله ، بلدنا هذا حباه الله عز و جل بنعم طبيعية تفتقر لها الكثير من البلدان ، و هذا مكسب لنا جميعا يكفينا معاناة كثيرة نراها هنا و هناك . يبقى إذن أن ننكب على عنصرنا البشري ؛ فمنه الداء و منه الدواء ، هو الذي بيده معاول الهدم أو البناء . و إلا فبماذا تبوأت اليابان مثلا مكانتها العالمية الراقية الحالية ؟ أبزلازلها و براكينها و أعاصيرها و ضيق مساحتها و ندرة ثرواتها الطبيعية ؟ أم أن السر كله يكمن في عنصرها البشري الذي أبهر العالم بأخلاقه المتميزة قبل أن يبهره بإنتاجاته البديعة ؟ خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية رمادا ، غير أن ذلك الرماد كان يخفي تحته جمرا متقدا سرعان ما قام لهيبه يعلو حتى ناطح لهيب الدول المتقدمة في ظرف لا يتجاوز العقدين : عقدان اثنان كانا كافيين لكي يجعلا من اليابان عجيبة من عجائب الدنيا : ثاني قوة اقتصادية عالمية ..، و نحن ما نزال نتخبط في عثراتنا منذ ما يتجاوز الخمسة عقود !.. لماذا ؟.. سؤال يطرحه الكثيرون ممن تابعوا مسيرة التقدم اليابانية و مسيرة التخبط المغربية . قام المغرب و اليابان في نفس الفترة تقريبا ( القرن التاسع عشر ) بمجهود كبير في سبيل عملية التحديث ، و كان على رأس تلك الجهود إرسال بعثات طلابية إلى أوربا ؛ غير أن النهاية التي انتهى إليها كل طرف على حدة كانت متناقضة : المغرب غرق في وحل من الأزمات إلى حد الخضوع للاستعمار الأوربي ثم الخروج منه بعد مخاض عسير قاده إلى استقلال منقوص ما يزال ينتظر الاستكمال ؛ و اليابان صعد نجمها عاليا إلى حد المشاركة الند للند مع الدول العظمى منذ مطلع القرن العشرين . إنها عظمة التربية التي خرّجت هذا النموذج الذي أبهر الغرب قبل أن يبهر الشرق ، تربية خرّجت شخصية يعزّ نظيرها : فالشخصية اليابانية منضبطة ، تقدس الوقت ، و تحترم النظام ، و تبدع من ضمن الفريق الواحد ، و تلتزم و بشدة بآداب التعامل ، و أخلاقيات المتاجرة رفيعة و موصوفة بالصدق و الأمانة . وهناك إحساس عام بالأمن والأمان في اليابان لتوافر الوظيفة المنتجة و التأمين لمعظم الخدمات الاجتماعية . وهذه الأخلاقيات نابعة من الاهتمام بالبرامج التعليمية المتعلقة بالأخلاقيات و السلوك للمواطن ، ومنذ الصغر في البيت والمجتمع و المدرسة . كما أن محاسبة القانون صارمة للمخالفين ، والإحساس بالعيب المجتمعي الذي يُخلق بالمواطن الياباني منذ صغره قاسي . ولا يرحم القانون الياباني الغني أو الفقير ، الوزير أو الغفير ، فحينما تكتشف المخالفات ، تدرس أسباب حدوثها ، و يحاسب مرتكبوها ، ويمنع تكرارها . بالإضافة إلى أن القيم المجتمعية اليابانية تفرض على الشخص الاعتذار ؛ لذلك يعتذرون ويعترفون بأخطائهم في معظم الأحيان (4) إنها مجموعة أخلاق تُغرس في النفوس من طرف الأسرة والمدرسة والحي قبل أن يفرضها القانون ، لهذا لا نستغرب أن هؤلاء يمارسون حياتهم بتلك المواصفات دون أي تصنع أو تظاهر ، لأنها أصبحت من قبيل العادي المتعارف عليه (5) ... وهو افتقارنا نحن إلى مثل تلك الأخلاق هو الذي يفسر عجزنا نحن عن تخطي عثراتنا المتكررة ، وعن تجاوز ركب الدول الضعيفة بله اللحاق بركب الدول القوية و مزاحمتها ... نفتقر إلى مواطنين مشبعين بمعاني : الانضباط ، و تقديس الوقت ، وحب الجماعة ، والصدق ، والأمانة ، والتواضع ، و العدل وغيرها من القيم النبيلة ... نفتقر إلى أسرة ومدرسة وحيِّ تغرس في النفوس تلك الأخلاق السامية فنخسر بذلك عقودا من عمر هذه الأمة ..، و نمنح لغيرنا عقودا أخرى يتجبر فيها علينا و يعلو و يتكبر ... نفتقر إذن للتربية المنشودة . هي أزمة أخلاق إذن لأن هؤلاء القائمين ( المشار إليهم أعلاه ) على تسيير تلك المؤسسات العمومية هم بدون شك من أصحاب الشواهد العلمية العليا و الخبرة الكبرى ، غير أن قلوبهم الخربة و ذممهم الفاسدة المفتقرة للأمانة و العفة قادتهم إلى استغلال علمهم و خبرتهم تلك للنهب و السلب دون أن تعلو وجوههم مُسحةُ حياء أو خوف . إننا بحاجة ماسة إلى أن تتبوأ التربية مرتبة الصدارة في مشاريعنا الإستراتيجية ، تربية تتجاوز ما هو نظري إلى ما هو عملي ، تربية تطبق مبادئها على أرض واقع المؤسسات التعليمية و يكون في رجال و نساء التربية و التعليم المثل و القدوة ..، تربية تنشر مبادئها عبر وسائل الإعلام التي تخترق البيوت لكي تعيد بناء ما خربته في مرحلة سابقة ..، تربية تشارك في نشرها مختلف قنوات التنشئة الاجتماعية بالبلاد في تنظيم عامّ يحرص على التكامل و يتجنب التناقض و الفوضى ..، تربية تؤسس لجيل جديد يبني مغربا جديدا ... * * * * * إنه من غير العفة إذن دفع المغرب إلى إهراق ماء وجهه باستجداء أية جهة أجنبية كيفما كانت نيتها في المساعدات التي تقدمها ، لأن الأصل أن اليد العليا تزدري اليد السفلى ، و اليد السفلى تكبر اليد العليا ..، و نحن بإرثنا الحضاري العريق لا نرضى لأنفسنا أن يزدرينا أحد ، أو أن يمن علينا من أعطياته أو فضلاته أحد ..، و لأن المغرب في أصله ليس في حاجة إلى أعطية يجود بها عليه أحد ، بل هو بحاجة إلى أبنائه ، كل أبنائه ، من خلال عطائهم و من خلال تفانيهم في خدمة البلاد و العباد كل من موقعه . ------ (1) لا نستطيع هنا إنكار مسؤولية الدولة عن تلك الظاهرة . (2) ذ. عبد الله آيت شعيب : " المشاركة السياسية و تحديات الواقع " ؛ الرباط ؛ سنة 2002 . (3) مؤشر يعتمد على معايير لها علاقة ب : التعليم ، و الصحة و الدخل . (4) د. حسن الباتع عبد العاطي : " التجربة اليابانية ... نموذج الترقي بعد التردي " ؛ مقال ورد في مجلة : " المعرفة " ؛ العدد 173 ؛ السعودية ؛ سنة 2009 . (5) حبذا لو يشاهد القارئ الكريم حلقات سلسلة " خواطر خمسة " للإعلامي أحمد الشقيري التي خصصها لليابان ، فإنها سلسلة ممتعة تخفي الكثير من المفاجآت و الصدمات . [email protected] mailto:[email protected]