لحسن بروكسي مؤلف و باحث من أوائل المتخصصين في إعداد التراب الوطني لحسن بروكسي، دكتور الدولة في القانون العام و العلوم السياسية، من الرعيل الأول للمغاربة الذين تخصصوا في إعداد التراب الوطني. اضطلع بملفات الجهوية في بذاياتها، عاين واقع حال العمل الجماعي، كمسؤول بوزارة الداخلية و كمنتخب (برلماني) لدائرة أولماس، أجرينا معه الحوار التالي لاستكشاف دروب الجهوية بالمغرب منذ انطلاقتها. - كيف كانت الانطلاقة بخصوص الاهتمام بالجهوية بالمغرب؟ إن الاهتمام بالجهوية ببلادنا ليس وليد اليوم، وإنما قد انطلقت منذ سنة 1968، ومنذئذ والمغرب يفكر في منهجيات جهوية طرحت بعضها على بساط الحكومة. للحقيقة والتاريخ، إن صانعي الجهوية بالمغرب آنذاك هم نخبة من الفرنسيين استقطبتهم وزارة الداخلية، آنذاك كان التعمير والإعمار تابع لها، ومنذ سنة 1969 إلى حدود 1971 ظلت هذه المجموعة تعد الدراسات والأبحاث حول الجهوية مرتكزة على سياسات إعداد التراب الوطني، وخلال هذه الفترة هيأت هذه المجموعة عدّة ملفات مكّنت بلادنا من احتلال مقدمة القافلة المهتمة بالجهوية حتى على الصعيد الأوروبي، سيما فيما ارتبط بالتفكير الجهوي واستراتيجية إعداد الترابي. - ماذا أنجزت هذه المجموعة الفرنسية؟ ضمت هذه المجموعة باحثين متخصصين في مختلف المجالات والميادين (الاقتصاد، المال، علم الاجتماع، الإحصاء، الديمغرافية...)، كما ضمت باحثين متعددي الاختصاصات. وهذه المجموعة هي التي هيأت قانون الجهوية وميثاق إعداد التراب الوطني، هذان النصان كانا جاهزين وقابلين للتطبيق منذ سنة 1972، إلا أن وزارة المالية تلكأت باعتبارها مكتظة بالتكنوقراط المنحدرين من البورجوازية الذين لم يكن في صالحهم تطبيق سياسة إعداد التراب الوطني مفضلين الإبقاء على "قطب المارشال ليوطي": القنيطرة، الرباط، الدارالبيضاء، واعتبارا أيضا للسياسات المالية المعتمدة وقتئذ وللمضاربات العقارية. آنذاك وصل التفكير إلى بلورة جملة من المعطيات عبر ثلاث مراحل. - المرحلة الأولى: جهوية دراسية اهتمت بالمضمون والمحتوى والفحوى والمرامي. - المرحلة الثانية: الوصول إلى تقطيع إداري أخذا بعين الاعتبار توجيهات الحكومة. - المرحلة الثالثة: بث آليات للجهة تضمن التكامل والاتزان اجتماعيا واقتصاديا لتمكين الإنسان المغربي من العمل والنشاط أينما كان. - لكن ماذا حدث بعد هذا؟ حدث انقلابان عسكريات وتلتهما أحداث وحوادث مولاي بوعزة في مارس 1973، وكانت القطيعة مع مسار الجهوية، آذاك صارت الدولة تفكر، فقط في تقطيع إداري أمني وليس تقطيع اقتصادي اجتماعي. هكذا تم تسجيل تراجع كلي عن الجهوية واعتمادا على الرؤية السابقة الشاملة والمتكاملة، آنذاك أحدثت 12 جهة ثم 16، إلى أن وصلنا حاليا إلى ما يناهز 60 عمالة. - وكيف تصرفت الحكومة؟ أما الحكومة، فقد اختارت الحل الوسط الرامي إلى خلق جهوية إدارية رصدت لها أموال الدولة وحددت مشاريع تنموية، ووقتئذ كان ولادة الصندوق الخاص للتنمية الجهوية (FSDR)، اضطلعت بتدبير شؤونه وزارة الداخلية ، وكانت البداية الاهتمام بالمناطق الجبلية جراء الاضطرابات الاجتماعية التي عاشها المغرب وقتئذ. - ماذا كانت النتيجة؟ بقيت درا لقمان على حالها من 1972 إلى الثمانينات، حيث كان الملك الراحل الحسن الثاني يفكر بجدية في الاستقلال الذاتي للصحراء وإعادة رؤية الجهات بالمغرب. في تلك الفترة تسلم إدريس البصري مقاليد ملف الصحراء والوحدة الترابية وبدأ يكفر من جديد في إشكالية الجهات، وأحاط نفسه ببعض المفكرين الذين أرشدوه إلى التجربة الألمانية "لاندر" (LANDER). آنذاك أخرج البصري وأطروحته "النظام والتنمية" (ORDRE ET DEVELOPPEMENT) وقتئذ تمت استشارتي كعضو سابق في "الخلية الفرنسية" التي كانت قد قعدت للجهوية بالمغرب، حيث كنت آنذاك قد التحقت بوزارة الداخلية وكلفن بملفات الجهوية، إلا أنني عارضت أطروحة البصري، وقدمت أطروحتي بجامعة "ليون" الفرنسية بعنوان "التنمية والنظام" (DEVELOPPEMENT ET ORDRE) حيث قلبت الآية، وبينت فيها أن مغرب الثمانيات غير مستعد لتطبيق الجهوية المستقلة، وذلك لأنها تتطلب المال الوفير، كما تستوجب أيضا رؤية جديد بخصوص صلاحيات المخزن وصلاحيات الدولة، علما أن الجو العام وقتئذ كان مطبوعا بالأزمة السياسية والاضطرابات الاجتماعية وتراجع الديمقراطية خصوصا على مستوى الجماعات المحلية. كان المغرب يعيش آنذاك "إمبراطورية مخزنية"، وكان "البصري رجلها". لقد تناولت في أطروحتي إشكالية صلاحيات رؤساء الجهات وصلاحيات الولاة وطبيعة العلاقة بينهما، هذا في وقت يمثل فيه العامل الملك والدولة، في حين إن الجهوية مبنية على اللامركزية واللاتمركز، وبالتالي تبرز ضرورة تخلي الدولة على جمل من صلاحياتها. - هل كان المغرب المخزني وقتئذ مستعدا للقيام بذلك؟ وهل المناخ السياسي العام كان يسمح بجهة مستقلة؟ كان الجواب واضحا آنذاك، وبدت أطروحتي صائبة، وفي استشارة مع الألمان حول تجربة "لاندر" بالمغرب، كان جوابهم صريحا، إذ قالوا إن "بلادكم غير مستعدة بعد لمثل هذه التجرية". وقتئذ كان شبح قضية الصحراء بدأ يهيمن على الملك الراحل الحسن الثاني، وبرزت ضرورة الحفاظ على الاستقرار وإعطاء جهات المغرب صلاحيات لتدبير شؤونها، لكن برزت كذلك تناقضات هذا المسار مع الطقوس السياسة، وعموما ظل الحال على هو ما عليه، وفي نهاية الثمانيات وبداية التسعينات أنشأ الجهات الحالية، وهي جهات تقنوقراطية تحت هيمنة وزارة الداخلية. - هل هذا المشكل ما زال قائما؟ يبدو أن نفس المشكل طرح على جلالة الملك محمد السادس، بخصوص الاستقلال الداخلي للصحراء، علما أن هناك اختلاف بين هذا الاستقلال والاستقلال الداخلي للجهات (سياسيا وديمقراطيا)، إلا أنه نفس التساؤلات ظلت قائمة، سيما السؤال المركزي: أية جهوية يريد المغرب، هل جهويات استراتيجية تنظر نحو أوروبا وإفريقيا والمغرب الكبير، أم جهوية تسعى إلى إخراج البلاد من نفق محور "المارشال اللوطي" (القنيطرة، الدارالبيضاء)، الذي أكل عليه الدهر وشرب، إذ أن العاصمة الاقتصادية أضحت مخنوقة حاليا والعاصمة الإدارية أصبحت مجر ملتهمة للميزانيات بدون جدوى، والقنيطرة في المرحلة الأخيرة من الاحتضار. - لكن هل حصل جديد؟ نعم حصل جديد، فمنذ تولي جلالة الملك محمد السادس عرش البلاد نشأت نخبة محلية اقتصادية، قوامها الجالية المغربية بالخارج والجيل الثالث في العالم القروي الذي درس وتعلم وهذه النخبة ليست كالنخبة السابقة لم تعتمد وتركز على الدولة، وإنما اعتمدت بالأساس على نفسها (نعم استفادت من التجهيزات الأساسية والأرض والطرق..)، كما وقع نضج في المحيط الاجتماعي بفعل الثقافة والإعلام ووسائل الاتصالات والتواصل الحديثة، وبدأنا نلاحظ تدريجيا ميولا إلى الاقتصاد والابتعاد عن السياسة. لكن مع تدهور الاستقرار الأمني منذ 11 شتنبر 2001 ومع احتدام الأزمة أصبحت أوروبا والولايات المتحدة مضطرتان إلى ترحيل وحداتها الإنتاجية إلى الخارج، وقد شكل المغرب وجهة مرغوب فيها بفعل توفر اليد العاملة الرخيصة والتسهيلات الضريبية وتوفر الأرض، ومنذ أوائل الألفية الثانية عرفت بلادنا قدوم رؤوس أموال إسبانية وفرنسية وخليجية، في إطار رؤية جعل بلادنا رئة أوربا، إلا أن هذا المسار كان يتطلب مسؤولين وقائمين على الأمور أكفاء ويتوفرون فعلا على سلطة، ولهم القدرة على المحاورة والبرمجة والتقرير السريع، في حين ظلت البيروقراطية سائدة عندنا. هذا في وقت فرضت العولمة الانفتاح الليبرالي، وكان على المغرب إيجاد آليات للتكيف مع الوضع الجديد المفروض. - لكن ماذا بخصوص الرؤية الجهوية؟ هناك تساؤلات أخرى مطروحة، فهل سنحافظ على المستويات المعتمدة إلى حد الآن: وما هي الصلاحيات التي ستُخول للجهات؟ وهل رؤساء الجماعات مستعدين فعلا للجهوية؟ وهل لهذه الأخيرة خلايا التفكير والبرمجة؟ وهل هناك استراتيجية للدولة للتشغيل طويلة المدى مرتكزة على الجهات؟ وكيف ستعامل الوالي (الممثل للملك والدولة)، مع رئيس الجهة (ممثل السكان)؟ كما سيطر مشكل الانتماء هذا الأخير السياسي؟ وكذلك مشكل التقطيع الإداري الساري المفعول حاليا والمعتمدة منذ 1972؟ وهل الداخلية بادرت في دراسة الخريطة الإدارية المؤهلة لاستيعاب الجهة؟ وما هي علاقة الجهات مع سياسة إعداد التراب الوطني، باعتباره عنصر أساسي للجهات؟ ومن سيفكر في بلورة هذه السياسة؟ كما أنه لا يجب أن ننسى أن إسبانيا وإيطاليا وألمانيا كسرت أسنانها في الجهوية إذ تناسلت مشاكل ثانوية لم تكن في الحسبان، حيث خلقت "بارونات محليين" لكن هل المخزن مستعد أن ينبت "بارونات" داخل الجهات. الجهة أيضا متعلقة بإصلاح الدولة، وهذا الإصلاح الذي سيعتمد، هل يستطابق مع التقاليد المخزنية؟ وأين ضمانات المخزن في الجهة؟ هذه، وأخرى غيرها، تساؤلات تتطلب خلية تفكير قبل الشروع في تطبيق الجهوية، وهي خلية لا يمكن تشكيلها من أساتذة ومنظرين (لأنهم، إذ كانوا على دراية كافية نظريا إلا أنهم يظلون بعيدين عن الخبرة الميدانية، ولا لرجال السلطة (الولاة والعمال) لأنهم عاجزين عن التخلص من منظورهم المخزني، ولا السياسيون المتحدثين سياسيا، ويتساءل لحسن بروكسي، فما الحل إذن؟ ثم يجيب: يتوفر المغرب منذ 1968 على المجلس الأعلى لإعداد التراب الوطني برأسه الملك ويضطلع وزير الداخلية بكتابته العامة، ويشكل إطار مواتيا أكثر من غيره لبلورة الرؤية الجهوية واستراتيجيتها بمساهمة الاقتصاديين والماليين وأهل التسيير والتدبير والسوسيولوجيين والسياسيين المنبثقين من التراب الأصلي والذين على دراية عميقة بالمشاكل الفعلية. علما أن الثلاثي: المجلس الأعلى إعداد التراب الوطني/ الغرفة الثانية / الجهة، يمكنه أن يلعب دورا مهما في بلورة الرؤية. الجهة فرضت نفسها في الواقع، وذلك بفعل الممارسة ومعاينة واقع الحال على أرض الواقع، لننظر مثلا إلى جهة الشاوية، برشيد، سطات، أنجزت فيها مشاريع وضخت فيها رؤوس أموال صينية وإسبانية وغيرها ورساميل محلية وسُلمت أراضي الجموع لإحداث مطار ومشاريع المكتب الوطني للكهرباء وغيره، وكذلك الأمر بالنسبة لبنكرير وتعاملها أراضي الجموع لخلق دينامية اقتصادية واجتماعية.. هذه الوضعية وهذا المسار، عن العناصر التي فرضت الجهوية، وهناك جهات سيصب اقتصادها في جهة الصحراء (مثل سطات وسوس) وستكون الاستفادة مهمة لا محالة. فمن المعلوم أنه منذ 1968، ظل المغرب يفكر في الجهوية وكيفية تدبيرها وتصريفها على أرض الواقع، فالأمر ليس جيدا. - هل الجهوية أضحت ضرورة بالمغرب؟ بالتأكيد أن الجهوية أضحت ضرورة حاليا بالنسبة لنا، علاوة على ذكر سالفا، هناك كذلك تنامي الوعي بنفعية الجهوية، فالملك محمد السادس منذ سنة 2000 وهو يتجول عبر المغرب ويعاين الاختلالات (انفكو، تافيلالت، الريف، المغرب الشرقي، كلميم...)، وقد لمس عن كتب هذه النفعية، كما لاحظ جمود الإدارة المركزية، وتبرز أكثر نفعية الجهوية، أكثر من أي وقت مضى، حينما نأخذ بعين الاعتبار أن سياسة الملك محمد السادس تسعى إلى إصلاح الديمقراطية المغربة بإصلاح الاقتصاد، وهذا عين العقل، لأنه لا يمكن تكريس الديمقراطية والبطون فارغة، ومن هناك الانشغال بإشكالية الشباب العاطل. - لكن ما هو دور الرأسمال المحلي في الجهوية، وهل يمكنه منافسة غريمه الأجنبي؟ وهل أعد نفسه لذلك سيما وأنه عاش كعنصر مستهلك ونادرا جدا ما لعب دور المنتج؟ لقد استفاء الرأسمال المحلي من المديونية والتسامح الضريبي والتسهيلات الجبائية، وكان من المفروض أن يلعب الدور الأساسي والحيوي في الجهة، لكن لا يمكن نكران بروز عناصر محلية مستعدين بأموالهم وخبرتهم وأفكارهم للمشاركة في تكريس جهوية فعالة، ولا ننسى أن المغرب غني لكن أموره مدبرة بشكل رديء وسلبي وذلك بفعل تكريس سيادة الرؤوية التقنوقراطية التي ظلت تعمل خارج دائرة الواقع المغربي وعلى هامشه، وقد غاب عن أصحابها أن حل المشاكل الترابية وتلبية حاجيات السكان، الفعلية والملحة (وهذا هو لب المنظور الجهوي)، كان من شأنها أن تقلص كثيرا من أسباب ودواعي الاضطراب الاجتماعي الذي يعيشه المغرب لماذا؟ لأن المجتمع المغربي ينتج مشاكل أكثر مما تنتجه الدولة باعتبار أن القاعدة السائدة ظلت محكومة بعلاقة الضعيف بالقوي، مما ساهم في تراكم اليأس والإحباط والشعور بالدونية و"الحكرة"، وهذا وضع لا يمكن التخلص منه إلا بانطلاقة فعلية لاقتصاد ترابي. -هل العقلية السائدة تساعد على تكريس الجهوية بالمغرب؟ فيما يتعلق بالجهوية، أكثر الناس (والكثير من المثقفين) يربطونها بالهويات المحلية ل (الأمازيغية، الريف، الاستقلال..) لكنه منظور ظلت النخبة المغربية تحمله من 1956 إلى يومنا، علما أنها لا تمثل إلا 4 أو 5 بالمائة من المغاربة. حقا اللامركزية الثقافية غنية، لكن سواء الأمازيغي المحلي أو ساكن بالرباط أو الدارالبيضاء أو طنجة، يوحدهم، كلهم الخصاص، علما أن ما يغفله هؤلاء، هو أن الهوية المغربية في منظور الشباب حاليا مرتبطة أولا وقبل كل شيء، بموقع مشرف تحت شمس الوطن، أي أنها قرينة العيش الكريم وصمون الكرامة أكثر من ارتباطها بالعنصر الثقافي كما كان في السابق. كما أن خوف البعض من ترسيخ الجهوية مرتبط بالفكرة المركزية وذيولها واجتراراتها منذ سنة 1956، إذ هناك هاجس خوف عميق من اللامركزية الأمازيغية، أتكون ريفية أو سوسية وزيانية، وهذا نقاش بين المثقفين، في حين إن الجوهر يجب أن يرتبط بالأرض الأم التي تجمع كل المغاربة بتعدديتهم وبمشاركتهم المتساوية في الوطنية والمواطنة، وهذه إشكالية مهمولة حالية. - هل هناك جهويات متعددة و ليس جهوية واحدة؟ من السذاجة اعتبار الجهوية ستكون بمثابة محطة فضائية تدور لوحدها، إذ لا مناص للدولة من آليات تنظيم وتنسيق، لاسيما وأن الإشكالية الأساسية للجهوية في المغرب الحالي تكمن في التصدي للبطالة واختلالات منظومة التشغيل، وهي معظلة تخرق مجموع الفضاء الحضري، فمشكل المغرب الحالي هو البطالة. كما أن هناك ثوابت "الملكية" باعتبار أن الملك هو ضابط التوازنات وضامن وحدة التراب الوطني في إطار مفهوم التكامل بين جميع مناطق المغرب وأطرافه. - هل نخبتنا مستعدة للجهوية؟ في أكثر من كتاب تطرقت لدارسات وحوارات مع الشباب، حيث وجدت عندهم ملل كبير وأنهم ينسبون مسؤولية وضعيتهم الحالية للأجيال الماضية التي لم تهتم بمستقبل أبناء المغرب (مثلا مصيبة التعريب وحرص النخبة على تعليم أبنائها بالخارج). فالنخبة التي تكونت بالداخل، أغلب عناصرها ظلت مهمشة، فهي لم تخترق جملة من المجالات المهمة ظلت حكرا لمن تكونوا بالخارج (الأبناك، قطاع التصدير والاستيراد، فضاء الأعمال عموما، الصناعة...). هؤلاء الشباب عقدوا الأمل الكبير في الملك محمد السادس اعتبارا لأنه من جيلهم ويتفهم أوضاعهم، وتزامن ذلك مع ما تحقق على صعيد الصحافة الحرة وتألق بعض جمعيات المجتمع المدني، وهذا ما أعطى نفسا لهذا الجيل، وهو الآن ينتظر إشارات، فلا شك أن وطنيتهم قوية لكنهم حاقدين على الأجيال الخاصية وعلى النخبة البيروقراطية الحاكمة. - أي دور وجب أن يلعبه المجتمع المدني؟ عند الحديث عن المجتمع المدني لا مناص من ربطه بالانتلجانيا ونهد التفكير، إن الانتلجانيا بالمغرب في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت إما مسيسة وإما أنها "دخلت سوق راسها" بفعل هاجس الخوف وإما تسلط عليها إدريس البصري ودجنها، إذن فأين هو الفكر الحر والفنون اللذان يعتبران عنصرين أساسيين في التنمية الوطنية أو الجهوية، علما أنه يمكن نعت الفكر الذي يحمله المجتمع المدني بكونه مطبوع بعيدا عما يسمى ب "المراقبة المواطنة" (بكسر الطاء). في هذا الصدد وجبت الإشارة إلى أن المجتمع الكدني الحي هو الطي يكسر الجمود البيروقراطي رغم استمرار مقاومة هذه الحركية والتي يقوم بها المدافعين على الجمود وإبقاء الحال على ما هو عليه، لأن أصحاب المصالح لا مصلحة لهم في التفكير، في حين إن الجهوية لا تطبق الجمود، إنها حركية دائمة لذا فأعداؤها في المغرب لا شك هم أصحاب المصالح. - و ماذا عن الأجيال الحالية ؟ العنصر الأساسي الذي خلق العراقيل والمثبطات في صفوف الأجيال الحالية هو الخوف ليس الخوف من السلطة، بل خوف من نوع آخر وأخطر منه، إنه الخوف من المستقبل، من عدم القدرة على توفير القوت اليومي، وهذا مرتبط بالفقر والتهميش والإقصاء والمستوى المعيشي، ومرتبط كذلك بالإهمال واعتماد نهج الفرز بين المغاربة، فهناك "أوليغارشيا" داخل الإدارة المغربية تفرق المناصب بين الأصدقاء والمقربين بدون اعتبار للكفاءة