طنجة أو طينجيس، اسم واحد لمدينة مغربية تقع في أقصى الشمال الغربي، مدينة ساحرة، ساقها تاريخها لتكون مدينة دولية بتمثيليات أجنبية على أرضها. إنها مدينة سلبت لب العديد من الكتاب والفنانين والرسامين والمسرحيين والموسيقيين العالميين، فاختاروها مكانا لإقامتهم الدائمة، أو وجهتهم المفضلة كلما زاروا المغرب، فحضرت في المتخيل الإبداعي والفني المغربي والعربي والعالمي، من خلال قصص شفهية، وروايات، ومسرحيات، ولوحات فنية، وأعمال سينمائية خلدت اسمها، وأبرزت فضاءاتها وأمكنتها الساحرة، التي ما زالت إلى اليوم تستهوي العديد من الفنانين والمخرجين المغاربة والعالميين، الذين يختارونها فضاء لأعمالهم السينمائية. واستوعب فضاء مدينة طنجة كتابا أجانب عالميين، إلا أنه يصعب حصر جميع هؤلاء الذين أنشدوا "أسطورة طنجة" على مدار الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وأبدعوا فيها أو حولها، فقد خلف هؤلاء ما يمكن الاصطلاح عليه ب"النص الطنجي" ذي البعد العالمي. فمدينة طنجة كانت في تلك المرحلة عاصمة للكتاب الأمريكيين، وجنة للمترجمين، وفضاء للرسامين والمخرجين، لكنهم مع ذلك لم يتوانوا عن نعتها ب (طنجة – الخطر) (Tanger- Danger)، لكونها تجمع الكثير من المتناقضات، ولسيادة الحرية المطلقة بها. تينيسي وليامز، وجون جونيه، وبول بولز، وزوجته جين آور، وكور فيدال، وجاك كيرواك والأخوان لوميير، وأليكسندر ألكادي، ومحمد شكري، أسماء لمخرجين وفنانين، وكتاب عالميين، كتبوا عن مدينة طنجة، وساهموا في إخراج تراثها الشفوي، وأخرجوا أولى أعمالهم السينمائية فيها. طنجة واكتشاف السينما إن موقع مدينة طنجة وانفتاحها على العديد من الثقافات جعل العديد من الكتاب والفنانين والرسامين يختارونها لمزاولة أعمالهم، ولتجريب أولى اكتشافاتهم، حيث كانت مدينة طنجة أول مدينة تلتقط بها أول صور عن المغرب، وفضاء لتصوير أول الأعمال السينمائية للأخوين أوغست ولوي لوميير الفرنسيين. وفي هذا الصدد، قال الناقد السينمائي المغربي أحمد بوغابة لوكالة الأناضول، إن "علاقة مدينة طنجة بالسينما تعود إلى أكثر من قرن، فمخترعا السينما الأخوان أوغست ولوي لوميير، اختارا مدينة طنجة لتصوير أول عمل سينمائي لهما "الفارس المغربي"، بجهاز أسمياه "السينما توغراف" عام 1897، وهو جهاز متطور عن سابقيه، ومنه اشتق اسم "سينما". وأضاف بوغابة، ابن مدينة طنجة والمطلع على خباياها، أن "أول قاعة سينمائية بنيت بالمغرب كانت في طنجة، وهي قاعة "ريفولي"، التي صنعت من الخشب، وكانت أمام الميناء القديم بالمدينة، ولكنها احترقت بعد ستة أشهر من وجودها، لأن آلة العرض ساعتها كانت تشتغل بالفحم، ونسي حارس القاعة أن يطفئ النار، فاحترقت القاعة عن آخرها". وأوضح بوغابة أن "أول جمهور كان يؤدي ثمن التذكرة ويدخل القاعة الصغيرة، التي كانت بمثابة مقهى تعرض فيه أفلام من 5 أو 6 دقائق على إيقاع البيانو، كانت بمدينة طنجة"، مشيرا إلى أن "ما ساعد على ذلك هو نظام المدينة السياسي، حيث كانت طنجة مدينة دولية توجد بها مختلف الجنسيات، إضافة إلى أنها أول مدينة في القارة الأفريقية والعالم العربي وجدت بها ممثلية للولايات المتحدةالأمريكية". وعن دوافع اختيار مدينة طنجة كفضاء للعديد من الأعمال السينمائية العالمية والمغربية، أشار الناقد أحمد بوغابة إلى أنها كثيرة، أهمها أنها "المدينة التي سكنتها الجاليات الأوروبية والآسيوية إبان المرحلة التي كانت فيها تحت النظام الدولي ومحطة أساسية للعبور بين القارتين، ومركز تجاري هام بفضل مينائها قبل أن تظهر نقاط أخرى في حوض المتوسط". وأوضح بوغابة أن "سر اختيار مدينة طنجة من قبل العديد من المخرجين أيضا يكمن في سحر طبيعة المدينة، وجغرافيتها التي تتيح إمكانية التصوير الجميل، كما أن وجودها على قمة الجبل، وشروق الشمس البهي بها يمنحها صورا جميلة، كما أن دروبها وأزقتها الصاعدة والنازلة تمكن المخرجين من التقاط صور جميلة". وعلى رأس هذه الإبداعات السينمائية بطنجة، كما ذكر الناقد أحمد بوغابة، يأتي "مسرح سيرفانتيس" الإسباني العريق (افتتح بطنجة عام 1913، وكان يسمى بالمسرح الكبير، عاش عصره الذهبي في خمسينيات القرن الماضي، وكان يعد أكبر وأشهر مسرح بشمال أفريقيا، وهو حاليا يعاني الإهمال الشديد وآيل للسقوط في أي لحظة)، والذي استعمل كديكور في فيلم "آخر صيف بطنجة" للمخرج أليكساندر أركادي. طنجة الدعارة والمخدرات الجاسوسية ظهرت مدينة طنجة في مجموعة من الأعمال السينمائية العالمية كوكر للدعارة، والمخدرات، والجاسوسية، وكل شيء سلبي، وهذا لم يكن بالأمر الخاطئ، حسب الناقد أحمد بوغابة، لأن المدينة كانت تجمع كل المتناقضات، حيث توجد بمدينتها العتيقة الكنيسة أمام المسجد، والمعبد اليهودي، وبالقرب منهم توجد دور الدعارة. ولهذا فقد تناولت الكثير من الأفلام ذلك الصراع الديني، وتلك التناقضات، من خلال مواضيع، تطرح الصراع الأمريكي الأوروبي، باعتبار المدينة دولية، ومنطقة عبور، يمكن أن يختفي بها الجواسيس. ومن بين تلك الأفلام يمكن أن نذكر: "طنجة" لجورج فاكنير (1946)، و"مهمة بطنجة" لأندري هونيبيل (1949)، و"رجل جامايكا" لموريس دوكانونج (1950)، و"سارق طنجة" لرودولف ماتي (1951) وغيرها من الأفلام. لكن مدينة طنجة عاشت فترة من الاندحار على المستوى السينمائي بسبب التهميش الذي طال المنطقة، غير أنها في السنوات الأخيرة استرجعت هذه الأهمية السينمائية بفضل احتضانها المستمر للمهرجان الوطني للفيلم، ولمهرجانات سينمائية أخرى، وإقبال المخرجين العالميين والمغاربة عليها من جديد، حيث تحتل مدينة طنجة المرتبة الرابعة في تصوير الأفلام بعد ورزازات، ومراكش، والدارالبيضاء، حسب مصدر من المركز السينمائي المغربي (الهيئة المشرفة على القطاع السينمائي بالمغرب). طنجة تؤرخ للسينما المغربية شكلت مدينة طنجة فضاء متخيلا للعديد من الكتاب المغاربة، أمثال محمد شكري، الذي لم تخرج جل أعماله عن دائرة مدينة طنجة، التي عاش بها الفقر والحرمان، وعاش بها أيضا أزهى أيامه لما اشتهر ككاتب عالمي، ومحمد برادة، الذي اتخذها فضاء لروايته الثانية "الضوء الهارب"، كما كتب عنها الروائي محمد عز الدين التازي، والطاهر بنجلون، والمسرحي الزبير بن بوشتى، الذي يسعى إلى التأريخ لمدينة طنجة في أعماله الأدبية والمسرحية، حيث كتب عنها في "مقهى الحافة"، و"يا موجة غني"، و"للا جميلة"، و"النار الحمرا"، و"زنقة شكسبير"، و"أقدام بيضاء". وكما هو الشأن مع الكتاب فقد اتخذها العديد من المخرجين المغاربة كديكور لتصوير أعمالهم السينمائية، سواء كان أولئك المخرجون من أبناء المنطقة كالمخرجين: فريدة بليزيد، ومومن السميحي، والجيلالي فرحاتي، وحمال السويسي، وعبد السلام الكلاعي، ومحمد الشريف الطريبق، أو خارجها أمثال: عبد الرحمن التازي، وليلى المراكشي، ورشيد الوالي، وعثمان الناصري، وليلى الكيلاني، وهشام عيوش، بل إن منهم من كانت مدينة طنجة مفتاحا لباب الشهرة بالنسبة إليهم مثل الممثل والمخرج رشيد الوالي. وارتبط اسم المخرج المغربي الجيلالي فرحاتي بمدينة طنجة، التي صور فيها أغلب أفلامه السينمائية، منذ باكورة أعماله "جرح في الحائط" 1978، الذي كان ثمرة لقائه بالمخرجة المغربية فريدة بليزيد، التي كتبت له سيناريو الفيلم، ليتلوها بأعمال: "عرائس من قصب"، و"شاطئ الأطفال الضائعين"، و"خيول الحظ"، و"المنديل الأزرق" (فيلم قصير أخرجه احتفاء بالذكرى المئوية لميلاد السينما)، و"ضفائر"، و"ذاكرة معتقلة"، و"عند الفجر"، ثم فيلمه الأخير "سرير الأسرار"، الذي خرج فيه عن القاعدة وصوره بمدينة تطوان، القريبة من طنجة. الشيء نفسه يمكن قوله عن المخرجة المغربية فريدة بليزيد، التي ارتبط اسمها وأعمالها بمدينة طنجة باستثناء فيلمها "الدارالبيضاء"، الذي صورته بالعاصمة الاقتصادية، فيما تظل أعمالها الأخرى: "باب السما مفتوح" أول عمل سينمائي طويل لها، و"كيد النسا"، و"خوانيطا بنت طنجة"، (المقتبس عن رواية "الحياة الكئيبة لخوانيتا ناربوني" للكاتب أنخيل فاسكيس) مرتبطة بمدينتها التي تعشقها، مثلها مثل المخرج مومن السميحي، صاحب ثلاثية طنجة ("لاحظ لك السي موح"، و"العايل"، و"الطنجاوي")، وأفلام: "الشركي"، و"قفطان الحب"، و"سيدة القاهرة". وإلى جانب هذه الأفلام نجد أفلام محمد الشريف الطريبق وعبد السلام الكلاعي من العرائش (القريبة من طنجة)، التي تحضر فيها فضاءات مدينة طنجة، وكذا ليلى الكيلاني في فيلم "على الحافة"، وهشام عيوش في "شقوق"، وحسن لكزولي في فيلم "طينجا"، ومنير عبار في فيلم "باريس على البحر"، ومحمد عبد الرحمن التازي في بداياته في فيلم "ابن السبيل" 1982، الذي كتب السيناريو الخاص به وحواره نور الدين الصايل، مدير المركز السينمائي المغربي الحالي، وأخيرا في بعض أفلامه التلفزيونية، وعلى رأسها "محاين الحسين". وحول مجموع الأفلام المغربية التي صور جزء منها أو كلها بمدينة طنجة، رأى الناقد السينمائي أحمد بوغابة أن "هناك تباينا كبيرا في مستوياتها، فهناك من استطاع برأيه الولوج إلى عوالمها السحرية والكشف عنها من خلال التصوير السينمائي، وأخرج أعمالا سينمائية متميزة، وهناك من صور بها بشكل عادي وسطحي، ولم يستطع النفاذ إلى عمقها وجماليتها"، وهو ما عزاه بوغابة إلى "عدم حبهم للمدينة"، قائلا: "طنجة من المدن التي إن لم تحبها فهي لن تسلمك مفاتيح مفاتنها". الطريبق: طنجة فضاء ضروري في أعمالي وقال المخرج المغربي محمد الشريف الطريبق في تصريحات لوكالة الأناضول إن "مدينة طنجة فضاء ضروري في أعمالي، فهي حاضرة في سيناريو أفلامي، لأنها المدينة التي يسافر إليها أبطال أعمالي من المدن القريبة (العرائش، أصيلا، والقصر الكبير) من أجل الدراسة، أو العمل في الدعارة الراقية، أو تجارة المخدرات، وغيرها". وأضاف الطريبق (صاحب أفلام: "تسقط الخيل تباعا"، و"ثمن الرحيل"، و"غزل الوقت"، و"باب المدينة"، و"زمن الرفاق"، وفيلمه الأخير "أفراح صغيرة" الذي يصوره بمدينة تطوان)، أنه شأنه شأن المخرجين المغاربة يختار مدينة طنجة لتصوير أفلامه لرمزيتها، ولكونها مدينة عاشت مرحلة دولية، وكانت بوابة المغرب على أوروبا والعالم، وبحكم تاريخها، مشيرا إلى أن اختيار العديد من الكتاب والفنانين العالميين الإقامة بها، أعطاها بعدا أسطوريا، وهو ما يجعلنا نأتي للتصوير بها. وأوضح الطريبق أن تلك الأبعاد كلها التي تختزلها مدينة طنجة تحضر لديه في كتابة السيناريو، وحتى في تصوير الفيلم، ف"طنجة مدينة دولية ذات بعد متوسطي، ومدينة الليل لا تنام، ومسار الشخصيات المنحرفة ينتهي بهذه المدينة". الوالي: طنجة مفتاح الرزق والشهرة من جهته، ذكر الممثل والمخرج المغربي رشيد الوالي، الذي صور أول أفلامه الطويلة بمدينة طنجة بأن والدته من هذه المدينة، وأنه يعشق هذه المدينة وأناسها الطيبين، وأماكنها الجميلة والساحرة. وأوضح الوالي، الذي يجمع بين التمثيل والإخراج والإنتاج، أن قصة الفيلم هي التي جعلته يختار مدينة طنجة، باعتبارها بوابة المغرب نحو أوروبا، وللتقارب الكبير بينها وبين كورسيكا، فهي تشبه جزيرة نائمة في وسط البحر. وعن الأماكن التي اتخذها ديكورا لفيلمه "يما"، الذي توج بجائزة أحسن مونتاج في الدورة الأخيرة من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، قال إنه صور في مدخل المدينة حيث توجد محطة الطاقة الريحية، وبعض الأحياء الشعبية، كما أنه صور العرس الذي من المفروض أنه يجري بكورسيكا في مدينة طنجة، خفضا للتكاليف. الكلاعي: طنجة صانعة للأحداث في أفلامي أما المخرج المغربي والمنتج وكاتب السيناريو عبد السلام الكلاعي، الذي حصد بفيلمه "ملاك" 3 جوائز في الدورة الرابعة عشرة من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة عام 2013، فقال إن "مدينة طنجة صانعة للأحداث في أفلامه وفاعلة فيها، تساعدني على إبراز الانهيار الداخلي للشخصيات والأماكن". وأضاف الكلاعي، الذي لم تمنعه إعاقته من مزاولة مهنة السينما، أن جزءا كبيرا من فيلمه "ملاك" صوره بمدينة طنجة، المدينة التي تلجأ إليها بطلة فيلمه وتهرب إليها من العرائش، بعد أن تكتشف أنها حامل، حيث ستشتغل في البداية في أحد المعامل، وتتعرض للمضايقات، ما سيؤدي بها إلى الخروج إلى الشارع وامتهان الدعارة. وأوضح أنه صور في العديد من الأماكن والأحياء القديمة والحديثة بمدينة طنجة، من مثل السوق الداخل، والقصبة، وشارع إيطاليا، الشارع الجميل ذو العمران المبهر، مشيرا إلى أنه تعمد التصوير بالقرب من بعض البنيات كمسرح "سيرفانتيس"، الآيل للسقوط، والذي كان من أجمل المسارح الموجودة في شمال أفريقيا، وكان يضاهي المسارح الكبرى بأوروبا في أربعينيات القرن الماضي. وأشار إلى أن الكثير من الأماكن والبنايات التي صور بها في السابق لم يعد لها أثر اليوم، لأنها تعرضت للهدم، وعوضت ببنايات أخرى حديثة، وفي هذه الحالة يرى أن السينما برأيه وثيقة تاريخية للذاكرة، ذاكرة العمران والمآثر التي نفقدها بسبب الإهمال، والعصرنة الزاحفة. *وكالة الأناضول