قراءة سريعة في رواية الطريق لكورماك مكارثي ما هو أسوا ما يمكن انتظاره لو حلت كارثة عظمى بكوكب الأرض؟ أن ينتشر الدمار والخراب! أن يعم الموت سائر الكائنات الحية بما في ذلك الانسان! أن تنتفي تقريبا كل مقومات الحياة على الكوكب الازرق! كل ذلك على شدة سوئه لن يكون ابدا أسوا من أن يفقد ما قد يتبقى من بشر على وجه البسيطة انسانيتهم! أن تتحطم انسانية الانسان! أن تطغى الغريزة الحيوانية! أن ياكل بعضهم بعضا! أن يخشى بعضهم بعضا! أن يعود عداد الكوكب الازرق الى حالة الصفر بفعل كارثة كونية كاحتمال علمي هو سوء نسبي فقط. السوء المطلق هو أن تعود الانسانية بعد كل ما عرفته من تقدم طيلة الاف السنين الى حالة الصفر! تلك اسئلة عميقة، تتناسل وتتماهى بين الخيال والعلم، بين الرواية والواقع، بين الأدب والفلسفة، حملتها إلينا رواية "الطريق" لمؤلفها كورماك مكارثي في ترجمتها العربية الصادرة في سلسلة ابداعات عالمية العدد 380 اكتوبر 2009 التي ترجمها وقدمها أ. د. محمد علي فرغل. رواية على بساطة متنها وشبه خطية حبكتها تبقى ذات ابعاد فلسفية وفكرية عميقة. هل يبقى الانسان انسانا في عالم لا تفوح منه الا رائحة الموت والدمار؟ ما الذي يدعو "الانسان" إن بقي انسانا في مشهد رمادي كئيب الى التمسك بالحياة؟ ما هي حدود قدرة التحمل لدى "الانسان" لوقع الكارثة المعممة؟ كيف يصير الانسان "آكل السندويتش" وكل الاطباق اللذيذة وشارب "الكوكاكولا" والمياه المعدنية والباذخ في استعمال الماء والطاقة، عندما لا يجد ما يسد به الرمق غير "حفنات من الثلج المتسخ"(ص 101)، أو حفنة من الحبوب الجافة والخشنة والمغبرة(ص 115)؟ وعندما لا يروي العطش الا بماء قدر؟ عندما يمضي الليالي في ظلام دامس؟ عندما يصبح فريسة بين مخالب الطبيعة؟ عندما تؤثث المشاهد الرمادية الكئيبة فضاءه البصري باستمرار؟ عندما لا تندرج الايام والليالي الطوال في أي تقويم؟ عندما "ينكمش العالم ليحيط بجوهر الأشياء المتحللة"؟(ص 89)... كيف يصير الانسان البادخ في شتى اصناف المساكن إن فقد المأوى على حين غرة واصبح مأواه الوحيد هو الطريق الذي لا ينتهي؟ كيف يصير حال الانسان عندما تصير الاسماء والمسميات الى النسيان "بما فيها الالون واسماء الطيور والاشياء التي تؤكل واخيرا اسماء الاشياء التي يعتقد المرء انها حقيقية" (ص89) ؟ يصير الانسان بدون هوية. هو رجل أو امراة، صبي أو عجوز. بدون بوصلة: "اخرج من ذهنه وجود شيء يمكن أن يسترشد به"(ص113) أو "لاح قمر في مكان ما من وراء الغيوم الرمادية"(ص113). بدون صلة مع الزمن: الايام لا تندرج في أي تقويم. تطرح له بالحاح تساؤلات حول كم يوما سيبقى حيا بدون طعام؟ (ص100). تكون النار "هي الملاذ الوحيد". لكن الصعب ليس كل هذا المشهد الكارثي، كل هذا الدمار، كل هذا الموت، كل هذا الجوع، كل هذا التعب، بل أن اصعب اللحظات التي تخللت المتن الروائي واهولها على الاطلاق هي لحظات الخوف بل الهلع الشديد من الانسان الذي فقد انسانيته، الذي تكسرت انسانيته، لحظات فقدان الامان لحظات اكل الانسان للحم الانسان، لحظات الاضطرار لقتل الانسان... رواية كورماك مكارثي لم تكن سوداوية رغم هول الكارثة ووقعها في نفوس الناجين وانتشار سلوكات لاإنسانية بينهم، فقد تمكن ببراعة أن يزرع الامل في القارئ باصرار الاب وابنه الصبي، الشخصيتين الرئيسيتين للرواية، على تحدي كل الاهوال، وكلما ساعدهم الحظ في ايجاد الطعام اوالنجاة من قبضة "الوحوش الانسانية". كما اختتم روايته على نبرة حزينة ولكن ايجابية اذ مع وفاة الاب المريض ظهر وان بالصدفة رجل من "الاخيار" اختضن الصبي في اسرته. رواية مكارثي تجعلنا نتساءل حول ماهية الانسان؟ هل صحيح أن الانسان قد لا يفقد انسانيته الا في ظروف استثنائية كالكوارث الكونية؟ هل يجوز للانسان أن يسمح لقوى الكون التي تستطيع تحطيم مجاله بتحطيم انسانيته؟ الواقع اننا لا نلمس حقيقة الاثر المدمر لتجرد الانسان من انسانيته الا في ظل سناريو كارثة كونية كما في رواية الطريق. في هذه الحالة استطعنا مع مكارثي تلمس ذلك الاثر المدمر المتمثل في تحول الانسان الى فريسة، بالمعنى الحرفي للكلمة، للانسان. يصير الانسان غداء للانسان. يصطاد الانسان الانسان. يخشى الانسان الانسان. يفر الانسان من الانسان. لا يامن الانسان الانسان. لا يمكن للانسان مساعدة الانسان. يضع الانسان نفسه و"سلامته" الجسدية فوق كل اعتبار. يتساوى الغذاء والانسان في ميزان الانسان. اثر مدمر ولاشك. لكن هل يقتصر فقدان الانسان لبوصلته الانسانية على الظروف الاستثنائية؟ الا نجد من الناس من يضع مصالحه الشخصية الضيقة فوق كل اعتبار؟ كيف سيكون الحال لولا الدولة ولولا القانون؟ الم تظهر السلطة لمواجهة هذه النزعات الحيوانية لدى الانسان؟ الا تطفو الغرائز الحيوانية لدى الانسان في حالات الازمات أو الكوارث الطبيعية؟ الا يطرح السؤال: كيف يمكن حماية الانسان من نفسه؟ هل تكفي الدولة والقوانين؟ كيف يمكن الاطمئنان على مستقبل الانسان أن لم نوفر له شروط حمايته من امكانية التجرد من انسانيته؟ هل الانسانية تتملك حقا "مشروعها الانساني"، ام انه لايزال مفروضا فقط بقوة القوانين وسلط الدول؟ ذلك في نظري السؤال الفلسفي الذي طرحته علينا رواية الطريق لكورماك مكارثي. قراءة ممتعة كورماك مكارثي مسرحي وروائي امريكي معاصر، الف عشر روايات وعدد من الاعمال المسرحية. تميزت اعماله بكون الكثير منها عرف طريقه الى الصناعة السينمائية بما في ذلك رواية الطريق التي ينتظر أن تكون جاهزة للعرض في نهاية سنة 2009. حصل المؤلف على العديد من الجوائز على الساحة الادبية الامريكية. رواية الطريق من احدث أعماله التي نشرت سنة 2006، فازت بجائزة بليتزر عام 2009. الرواية تنتمي لاحد الانماط الفرعية لما يسمى بادب الخيال العلمي post-apocalyptic الذي يعنى بوصف الحالة التي تعقب تعرض كوكب الارض لكارثة عظمى. [email protected] mailto:[email protected]