أنا " زيد " رجل رومانتيكي جدّا , كان لي صديق يدعى " عمرو " و هو رجل عقلاني مترفع موضوعي لدرجة لا تحتمل . يقرأ قصائدي فيحللها تحليلا نفسيا , ثم يقول لي بكل برودة دم : أحسنت , و لكن , اعلم أنك قمت بعملية نفسية يطلق عليها اسم " التسامي " أو " الاعلاء " و هذه العملية تعني تحويل غريزة ما إلى هدف اخلاقي ابداعي ثقافي , إنها حيلة من الحيل الدفاعية التي تمارسها النفس الإنسانية في صراعها مع الكبت . كنت مؤمنا بجوهرين للإنسان جوهر النفس و جوهر المادة . أما صديقي " عمرو " فكان مؤمنا بجوهر واحد هو جوهر المادة . كان يقول لي في أكثر من مرة أن الجنة نستطيع أن نحققها على هذه الأرض عن طريق العلم . كان يأله العقل . أما أنا فقد كنت كافرا بإلهه . كنت ادافع عن المشاعر و الانفعالات و الحدّس . كنت أحبّ العيش في خطر , نعم .. كنت أحب ذلك بصدّق . أحبّ المغامرات و الطبيعة و الحرّية . أمّا هو فكان كمعظم العقلانيين يحبّ الأمان و الراحة و النظام . عشق صديقي " عمرو " المدينة الحديثة بضجيجها و مصانعها و معاناتها . أما أنا فكنت أعشق الطبيعة , لقد كانت تبدو لي المكان الوحيد القادر على احتوائي و تخليصي من بشاعة المدن الصناعية . كنت أحلم أن أمتلك مزرعة صغيرة أحيا فيها حياة بسيطة , كانت صورة " تولستوي " و مزرعته تحضرني دائماً . أمّا المدينة فلم أكن أطيقها . حتى انسانها المتحضر لم أحتمله رأيته انسانا فاسداً لا يحمل الفضيلة التي يحملها الانسان الهمجي النبيل . كرهت الأعراف الخانقة . احتقرت الأفكار التقليدية الساذجة . كنت متمردا حرّا أعيش و جودي بالشكل الذي أختاره أنا لا بالشكل الذي يختاره لي مجتمعي . و هذه الصفة هي احدى الصفات القليلة التي أتشاركها مع صديقي " عمرو " و لكن اختلافي الكبير معه كان في مسألة " المثالية " أستطيع القول أن صراعي مع صديقي صراع بين المثالية و الواقعية المادية . كنت أتبع انفعالاتي و عواطفي . أما صديقي فكان أشبه ما يكون بالآله . كان يعتبر القدرة الذهنية من خلق العالم المادي , فليس هناك ربات الشعر و لا إلهام و لا وحي .. كل شيء ينتجه العالم المادي . ارتكز نظري في الحياة على الجمال , و خصوصا , ذلك الجمال العنيف الذي نبصره في الطبيعة . أستحضر " جبران خليل جبران " و مزاجه الرومانتيكي . أستحضر كل الشعراء الرومانسيين .. شعراء الطبيعة و الكآبة و الحرّية . أستحضر أيضا " سارتر " ففي أحيان كثيرة كنت أحمل تقزز و غثيان رجل وجودي المذهب , و في أحيان أخرى كنت أتقمص شخصية " برجسون " و ايمانه بالحدس . كنت أرى أن العقل يضللنا و يقدم لنا صورا مشوهة عن العالم , و أنه يخنق غرائزنا الطبيعة و بالتالي يسلب منا الحرية . أحببت " برجسون " لأنه يعارض العقل العلمي بالحدس الذي يعتبره وسيلة لادراك الواقع في عمقه النابض بالحياة و المعنى . " عمرو " في هذه المسألة كان يعارضني بشدة , يعتبر أن العقل قوة تحقق لنا التحرر و التقدم . كان صديقي كما بدا لي يحارب الأفكار المستبدة بالعقل , إلا أنه لم يفطن لأمر مهم و هو أنه كان مستبدا بدوره , ايمانه بالمستبد العقل كان وهما كلفه الكثير . في الدين , كنت مؤمنا بوجود الله , و لم أكن أحتاج لبراهين وجوده . كان ايماني ينبع من قلبي , لم أكن أفسح المجال للعقل في هذه النقطة . كنت أتعبد , بل أتصوف أحيانا . أما " عمرو " فقد أدار ظهره للدين و رجاله لم يكن يحب أقوال الشيوخ , بل كان يعتبر كل قصة دينية محض اسطورة أو خرافة . بدا لي مثل عضو في جماعة " الموسوعة " لأن العقل بالنسبة له كان مثل النعمة بالنسبة للمسيحي . كان " عمرو " يعشق ترديد كل الاعلانات المنادية بالغاء الدين , قرأ لنيتشه .. أعجب بديدرو .. بدوركايم .. فرويد و حتّى ماركس مع أنه لم يكن شيوعيا . في الحقيقة , لم يكن صديقي يرفض تصوفي بل كان يتمنى أن يكون كل المؤمنين مثلي . ببساطة عدوة " عمرو " هي المؤسسة الدينية الرسمية . كان يعتبرها أضحوكة أو خدعة . و رأى مما رأه أن المؤسسة الدينية تخدم المصالح الخاصة للحكام و رجال الدين . ردد كثيرا عبارة قالها ماركس ذات يوم " الدين أفيون الشعوب " . أين صديقي " عمرو " الآن ؟ لقد مات .. انتحر في احدى الليالي الشتائية الباردة . قتل نفسه لأنه لم يعثر على مبرر لبقائه . شعر أن الوجود عبثي فوضوي لا قيمة له . " عمرو " رجل أخذه عقله إلى الهلاك . لقد مات صديقي لأنه أفرط في العقلانية . رحمه الله فقد كان انسانا مفكراً.