أن تكوني محجبة في أمريكا ربما يجعلكِ تواجهين لحظات صعبة، لكن الحجاب برغم ذلك استطاع أن يشق طريقه وسط هذه العواصف، من قلب بوسطن أتيناكم بهذه المشاهد... أعرف أنني كنتُ في مأزق تلك اللحظة التي جلستُ فيها. كنتُ للتوِّ قد اتخذتُ مقعدًا بجوار امرأة آسيوية مسنة بأحد القطارات، وأنا في طريقي إلى الجامعة العام الماضي. فورًا تصلَّبت المرأة. شرعْتُ في قراءة كتاب. بدأَت تلتفت وتنظر في أنحاء القطار. تخطينا المحطة الأولى. أخرجَت الكتاب المقدس التي تحمله في جيبها، وشرعَتْ في القراءة بسرعة وبصوت مرتفع، بينما كانت تتأرجح للخلف والأمام، بشكل يثير القلق. شعرتُ بالرعب، لكني لم أدرِ كيف أهدِّئ من روعها. وقبل أن نصل للمحطة التالية، جمعَتْ حقائبها، وأسرعتْ تنهب الممشى نهبًا، واتخذتْ مقعدًا آخر بجوار شخص غيري. لقد أفزعتُ للتو امرأة مسنة بحجابي، مما جعلني أشعر وكأني وحش! شعرتُ بالإحباط لأن حجابي أصبح مثقلاً بالصور السلبية التي تثير مثل هذا الارتياب. لقرونٍ، كان الغرب ينظر للحجاب باعتباره رمزًا للاضهاد، والاستعباد، والقمع، والولاء لعقائد التطرف. وبينما يعتبر ذلك حقيقة بالنسبة لبعض المسلمات حول العالم، فإنه ليس صحيحًا بالنسبة لي أو النسوة اللاتي أعرفهن. نحن متعلمات ولدينا صلاحيات، وقد اخترنا أن نرتدي الحجاب لأننا فخورات بهويتنا. وبشكل عام فإن تجربتنا بهذا الصدد تعتبر إيجابية. تحت الأضواء يوجد قرابة 7 ملايين مسلم في أمريكا، كثيرون منهم وُلِد ونشأ هنا، مثلي. هؤلاء يلفتون الأنظار إلى الإسلام من خلال إسهامات بناءة (داليا مجاهد، أصبحت هذا العام أول امرأة محجبة تعين ضمن الفريق الاستشاري الرئاسي)، أو من خلال عنفٍ مدمر (كما في قضية فورت هود، تكساس). تقول السيدة داليا مجاهد، المدير التنفيذي لمركز جالوب للدراسات الإسلامية: "الإسلام هو الدين الأكثر تناولاً في الإعلام سواء بالسلب أو الإيجاب". ونتيجة لذلك، فإن أمريكا الآن في مواجهة مع الإسلام –والحجاب- كما لم يحدث من قبل. ورغم عدم وجود دراسات دقيقة تحصر عدد المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب في الولاياتالمتحدة، يقول الخبراء إن الحجاب ظاهرة متنامية. يقول جون إسبوزيتو, بروفيسور الأديان والعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون: "بالتأكيد، ترى نساءً أكثر يرتدين الحجاب خلال العقدين الماضيين. إنه جزء من الفسيفساء الأمريكية، تلك النقطة التي تجدك فيها تقول لنفسك: كيف لي أن أخلط بين المكان الذي أتيتُ منه، والمكان الذي أتواجد فيه، والمكان الذي أنا ذاهب إليه؟ المرأة المسلمة ببساطة تؤمن بأنها قادرة على أن تكون هي –صغيرة، لامعة، صاعدة- دون أن تتخلى تمامًا عن هويتها. صراع الهوية بدأتُ ارتداء الحجاب منذ الصف التاسع، ليس لأن أحدهم طلب مني ذلك، بل لأني آمنتُ بفرضيته في الإسلام. كنتُ الوحيدة التي أرتدي الحجاب في مدرستي بنيويورك. وقد جعلني غطاء رأسي أحيانًا أشعر بالإحراج، لكنه في الوقت ذاته حماني من قلق الهوية الذي كانت تعاني منه زميلاتي غير المسلمات. كنتُ أشعر بالراحة مع حجابي، وهويتي. بعدها، قام 19 مسلمًا باختطاف طائرات وتوجهوا بها صوب مركز التجارة العالمي، ساعتها عرفتُ أن عالمي قد تغير جذريًا. أغضبني هذا العنف الأحمق، الذي لا يميز، كما أغضب كل أمريكي، لكني أدركتُ أن حجابي يضعني في موقف غير ثابت. ولخوفهما من رد الفعل السلبي، نبهني أبواي أن أتخذ حذري. ورغم أنني واجهتُ قدرًا من إساءة المعاملة، وسمعتُ أكثر من مرة أحدهم يصرخ "إذا لم تكونوا تحبون هذا البلد فارحلوا"، وقرأتُ الأخبار اليومية عن المساجد المحترقة والمسلمون الذين يُعتدى عليهم –رغم ذلك- فقد شهدتُ روحًا كريمة من رفاقي الأمريكيين؛ إحدى مجموعات حوار الأديان شكلت سلسلة بشرية لحماية مسجدنا في نيويورك. مدرسة علم الاجتماع نصحت طلابها بالتواصل مع المسلمين، الذين ربما يكونون مذعورين، في حرم الجامعة. وكوجه جديد في الجامعة، وتحديدًا في الأسبوع الثاني، كنتُ مذعورة، وقد منحتني كلماتها راحة كبيرة. ورغم الخوف، لم أفكر يومًا في نزع الحجاب. لم أكن أتحلى بقدر خاص من الشجاعة، ولم أكن بالطبع محور انتباه. لكن بعض الأشياء حدثت خلال السنوات الأربع الماضية، فقد أصبح حجابي جزءًا مني، يدل على هويتي كاسمي. وكما هي الحياة متعبة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سيكون من الصعوبة أن أتخيل نفسي بدون الحجاب. اعتدتُ التعايش مع النظرات المحدقة المتشككة، وكنتُ أواجهها بدفء وابتسامة تُشعِر الآخرين بالراحة. جمعتُ تشكيلة من الحجاب بمختلف ألوانه وطرازاته لأرتدي منها ما يناسب حالتي النفسية. لم أشْكُ يومًا بسبب تصفيفة شعري، وحتى إن واجهتني مشكلة ما، فلن يعرف أحد بها. ما وراء الحجاب بفخرٍ وجبنٍ (مزيج عجيب) ارتديتُ حجابي من الصف إلى التخرج، إلى أول وظيفة أشغلها في واشنطن. وكامرأة عزباء وحيدة في مدينة العزاب، تعرضتُ لبعض المضايقات. لكن الحجاب ليس مجرد قطعة قماش. إنه الاحتشام في الملبس والسلوك. وكمسلمة ملتزمة، لم أتواعد (مع رجل)، ولم أذهب للحانات أو الملاهي الليلية. وكما تقول إحدى الزميلات: "لن يلتفت رجل لامرأة يغطيها الحجاب من رأسها حتى أخمص قدميها". لكن الحجاب ليس كما يعتقد البعض قمعًا للنشاط الجنسي، إنه يفرق بين الحياة العامة والحياة الخاصة. لذلك أرشد الله الرجل والمرأة إلى خفض الصوت وتطويل الثياب في الشارع (في الإسلام، يجب على الرجل أيضًا أن يحتشم في اللباس، ويرتدي ثيابًا فضفاضة تغطي جسده). الناشطة النسائية "نعومي وولف" كتبت مقالاً في العام 2008، قالت فيه: "خلف الحجاب توجد حياة جنسية إسلامية مزدهرة"، يوجهها الإسلام ووصايا الاحتشام نحو الزواج والحياة الأسرية: "حينما تظل الحياة الجنسية في إطار خاص-وحينما لا يكون الزوج يشاهد زوجته (أو غيرها من النساء) نصف عارية طيلة اليوم-فإن المرء يشعر بطاقة وقوة كبيرين حينما يُنزَع الحجاب في المنزل". وعلى عكس الأعراف الدينية الأخرى التي تُلبِس الحياة الجنسية رداء الإثم، فإن الإسلام يكافئ، بل يحتفل، بمثل هذه الحياة إذا ما تمت في إطار الزواج. في الحقيقة، لقد أعطى القرآن وحديث النبي محمد المرأة حق الاستمتاع الجنسي تحت مظلة الزواج، مثلما منحها حق التصويت والتعلم والعمل والتملك، وهي التعاليم التي اعتبرت ثورية وقت نزول القرآن في القرن السابع. بالطبع ليس كل المسلمين، ولا كل البلدان الإسلامية تحترم هذه الحقوق، وهذه إساءة صريحة للإسلام. منذ عام ونصف، تزوجتُ من رجل يحبني بحجابي. يدعم اختياري ارتداءه -ارتديته يوم زفافنا- ويقول: إنني جميلة وقوية بالحجاب. "لكن الجميع لا يفكرون بنفس الطريقة ياعزيزتي"، قالت ذلك لي في محاولة لمساعدتي. "لا يجب عليكِ ارتداء ذلك الشيء فوق رأسك". كانت مصففة شعري تريد تحريري من الحجاب. لكن بالنسبة لي، الحجاب هو التحرر. إنها حرية الدفاع عن هويتي والعيش وفق قيمي الخاصة. مواجهة.. بنكهة مختلفة مرة أخرى في القطار.. وأنا في طريقي للبيت بعد يوم دراسي طويل، في أحد أيام رمضان، كنتُ جائعة ومتعبة ولم أجد مكانًا لأجلس فيه. سألني رجل: "أنتِ صائمة، صحيح؟"، وقام ليجلسني مكانه. ابتسمتُ، وبامتنان شديد قبِلتُ مِنحته.