كثر اللغط والحديث في الآونة الأخيرة عن مفهوم "المرتد" وعن عقوبته في الدين الإسلامي، بين وزير الأوقاف السيد التوفيق الذي أطلق إشارات حول الموضوع قبل مدة وجيزة، والشيخ الفيزازي الذي أصابته في مقتل، مصادقة المغرب مؤخراً على وثيقة دولية تصون حرية الاعتقاد، ما دغدغ فيه غرائزه ومكبوتاته السلفية، والتي لم نتوقع يوماً أن تزول، فمن شب على شيء شاب عليه، وليست عقوبة سجينة هي الكفيلة بتغيير هذا المعطى. كثيراً ما نسمع مصطلح "المرتد"، ولأننا أمة "سمعنا وأطعنا"، نمر عليه مرور الكرام دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث ولو قليلا في معناه أو السياق الذي نزل فيه. وبغية فهم سليم للمصطلح، وجبت العودة إلى أصله اللغوي، فحسب المعجم العربي : "ارتدَّ أي رجَع وعاد"، طيب، رجع وعاد إلى ماذا ؟ هنا، وللإجابة عن هذا السؤال، ينبغي استحضار السياق والملابسات التي أدت إلى استعارة المفردة للحقل الديني. المرتد أو المرتدون، في عهد النبي (ص) وخلفاءه، هم أولئك الذين تركوا عبادة الأوثان وانخرطوا في العقيدة الإسلامية، بمحض إرادتهم، ثم بعد مدة رجعوا وارتدوا إلى عقيدتهم السابقة، وحصل هذا الأمر تاريخيا بشكل كبير بعد وفاة النبي (ص)، واستلام أبي بكر للخلافة، فارتد العرب عن الإسلام ورفضوا إيتاء الزكاة وعادوا أدراجهم إلى الوثنية. في ضوء هذا الكلام، يمكن الجزم قطعاً بأن هذا لا ينطبق على أي من مسلمي هذا الزمان، ولا يجوز وصف أي منهم اختار تغيير معتقده الإسلامي ب"المرتد"، وذلك لغياب شرطين أساسيين للردة : 1 – أولهما غياب مبدأ "الاختيار"، فالمرتدون الأوائل اختاروا دخول الإسلام طواعية ولم يفرض عليهم بأي شكل من الأشكال، وهو الأمر الذي لا ينطبق على أحد في العصر الراهن سواء أكان مسلما أم مسيحيا أم يهودياً أو غير ذلك... فالغالبية العظمى فينا لم تختر دينها بل فُرض عليها عن طريق "التنشئة الاجتماعية"، أي وبتعبير أكثر عمقاً، فان أيا منا كان ليكون يهودياً حتى النخاع لو أنه نشأ في مجتمع يهودي لأسرة يهودية من تل أبيب، وأي منا كان ليعتقد من صميم قلبه في الخلاص المسيحي، لو نشأ في كنف أسرة أوروبية محافظة وهكذا... قليلون فقط من يجرؤون على إعادة النظر في معتقداتهم الموروثة عن آباءهم، خاصة أن التنشئة الاجتماعية التي نتعرض لها خلال الطفولة والمراهقة، كما يقول علماء النفس، تلعب دوراً حاسما في تشكيل شخصياتنا وتنميط معتقداتنا طوال الحياة وفي مختلف الأعمار. إذن لنتفق على مسألة مهمة : لا أحد منا اختار دينه بمحض إرادته، كما اختاره الأولون، وبالتالي فلا أحد منا يصح أن يوصف بالمرتد. ومبدأ الاختيار هذا، منصوص عليه بوضوح وصراحة في النص القرآني " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، فلفظة "شاء" تحيل مباشرة على حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، ومن ينسب إلى النبي (ص) أحاديث تتعارض في مضمونها مع هذا النص القرآني إنما هو يشكك في ترابط وتناغم واتساق النصوص المقدسة بين ما هو الهي وما هو نبوي، وفي ذلك مساس بجوهر الدين، "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" 2 – ثاني الشروط الغائبة هنا، "الرجوع"، إذ أن الارتداد كما تم وصفه آنفاً هو ترك الدين الإسلامي قصد الرجوع إلى ديانة سبق للفرد اعتناقها قبل أن يغدو مسلماً. وهذا كذلك غير متوفر في أي من أولئك الذين تركوا الإسلام، بحيث لم يسبق لهم أن كانوا على معتقدهم الجديد من قبل، مما يبرز الاختلاف البين بينهم وبين المرتدين أيام النبي والخليفة أبي بكر، والذين تركوا إسلاما اختاروه غير مكرهين، وعاد أغلبهم إلى عقائده الجاهلية. ثم إن ما يثير حفيظتي واستغرابي، ما يدعوا إليه بعض المتشددين، خاصة ما يتعلق بقتل من اختار الخروج عن ديانة آباءه في حال لم يتب، هل يعتقدون أن فرض الدين بالقوة على إنسان ما سيجعله فعلاً يقتنع ويعود إلى الإيمان ؟ سخيف، لأن الإيمان والاعتقاد مسألة وجدانية وعقلية، فما إن يقتنع الفرد بشيء حتى يصبح من المستحيل نهائيا تغيير قناعاته، إلا إذا غيرها من تلقاء نفسه مجدداً. فرض معتقد بالقوة من شأنه فقط أن يصنع مجموعة من "المنافقين" الحاقدين والناقمين على المجتمع، والمستعدين لطعنه من الظهر عند أول فرصة، انتقاماً لأنفسهم من حالة القمع والتسلط الفكري التي مارسها عليهم، وحين يحقد إنسان على مجتمعه يصبح هذا الأخير عرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى، فما دمر الأوطان إلا الخونة الناقمون على مجتمعاتهم، والعكس يحصل حين يلتف ويتوحد الجميع على اختلاف أجناسهم وأديانهم وثقافاتهم حول الوطن، يصبح هذا الأخير حصناً منيعاً أمام كل الأخطار التي تتهدده، خارجية كانت أم داخلية. كما أن سلب الإنسان حقه في الحياة لمجرد اختلاف نمط تفكيره وعقيدته لهو أمر ينافي كل أشكال الذوق السليم والسلوك الإنساني والحضاري، بالإضافة إلى كونه يعد تدخلا سافراً في الشأن الإلهي، إذ أن محاسبة الناس على معتقداتهم شأن يخص الله وحده دون البشر لقوله :" فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب"، فهل يُعجز الله أن لا يخلق، أو أن ينتزع الحياة من إنسان يعرف، بعلمه الواسع، أنه سيكفر به، حتى ينتظر من البشر أن يفعلوا ذلك نيابة عنه؟ مستحيل... إن مصادقة المغرب مؤخرا على ميثاق دولي يكفل حرية العقيدة يعد خطوة تاريخية، ينبغي تعزيزها ليس فقط بتكييف النص الدستوري والقانوني معها، بل كذلك بملائمة كل ما يمكن أن يسهم في تشكيل الوعي الجمعي المغربي، من مؤسسات تعليمية ومنابر إعلامية... حتى تساير هذا التحول التاريخي وتعمل على ترسيخ مفاهيم التسامح والتعايش السلمي والحضاري بين الأديان والثقافات، وتقطع الطريق على الخفافيش الظلامية التي تحاول نشر التطرف وزرع الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، مقابل بضع ريالات بيترودولارية... قاتلهم الله !