لم أكن الأول ولا الأخير، لكنها تجربة لا تنسى، يحس فيها المرء أنه يصارع لوحده موجا عاتيا لم يكن ينتظره. إنها حماقة خوض تجربة النشر، الأولى بالخصوص، بمعنى أن تصبح كمبدع في متناول الجميع، في حضرة الكل، في حوزة الآخر حيثما كان، هذا الآخر الذي لا تعرفه شخصيا ولكنك تلاقيه ويلاقيك عبر مؤلَّفك المنشور. خضت هذه التجربة في أواخر التسعينيات حيث جمعت نصوصا نثرية سبق أن نُشرت لي في الثمانينيات و بداية التسعينيات في جرائد ومجلات مختلفة وجعلت منها مجموعة قصصية حفزتني على نشرها رغبة شخصية تشبه تلك الرغبة في البقاء إضافة إلى تشجيع وإيعاز من الأصدقاء والمقربين. صحيح أن هناك محظوظين لم يعانوا قسوة التجربة التي سأتحدث عنها وذلك بفضل مؤسسات حزبية أو غيرها ساندتهم وآزرتهم، وفي كثير من الأحيان جعلت منهم - في تلك السنوات بالذات حيث لم يكن هناك وجود لمنابر للنشر إلا المنابر الحزبية - كتابا و شعراء و... غير ذلك، وفرضتهم على الجميع، وتلك معضلة أخرى وموضوع آخر لست بصددهما الآن. شيء مؤلم حقّاً أن يتحول الكاتب إلى تاجر "يستجدي" في نهاية المطاف أصحاب الأكشاك والدكاكين والمكتبات أن يؤدوا له حقه من كتابه الذي باعوه، بعد الاتفاق حول نصيب كل واحد، وبعد البيع أخذوا يتماطلون في تسديد ما عليهم من دين. ويزداد الأمر تعقيدا وإثارة للأعصاب حينما يتعلق ب "كْتاتْبي" مثلي يعيش في بلاد المهجر! ها تلخيص ما حصل: التجربة الأولى خضتها سنة 1998. أصدرت حينها مجموعتي القصصية "أصوات في الجسد" http://opac.bnrm.ma:8000/cgi-bin/gw_48_1_2/chameleon?sessionid=2009022805024425976&skin=archimed&lng=fr&inst=consortium&conf=.%2Fchameleon.conf&host=localhost%2B1111%2BDEFAULT&SourceScreen=INITREQ&scant1=%D8%B9%D8%A8%D8%A7%20%20%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89%20&scanu1=1003&elementcount=1&t1=%D8%B9%D8%A8%D8%A7%20%20%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89%20&u1=1003&op1=0&pos=1&itempos=1&rootsearch=KEYWORD&function=INITREQ&search=AUTHID&authid=42174&authidu=1003 في إطار ما يسمى بالنشر الذاتي (Auto édition)، وذلك تجنباً لأن "أحاشيه" لبعض دور النشر (رغم قلتها آنذاك) والتي كانت تابعة إما لمؤسسات حزبية أو لشلة من المثقفين (يعتبرون أنفسهم تقدميين في الغالب) وفي كلتا الحالتين كان على المتطلع لنشر مؤلَّفه أن يكون إما متحزبا مخلصا (متملقا ومقدِّسا لحزبه) أو ذا اسم لامع في الميدان لكي يُباع ويجلب الربح بالنسبة لدور النشر "المستقلة". فضلتُ إذاً أن أقوم بإنتاج العمل بنفسي على مستوى التمويل، أما فيما يخص التوزيع، وتفاديا للدوران على أصحاب الدكاكين والأكشاك و... دققت باب مؤسستين مشهورتين في مجال توزيع الكتاب والمطبوعات. غير أنني وُجهت بلطف إلى "دار الآفاق الجديدة" بشارع الزرقطوني بالدار البيضاء حيث استقبلني، وبمعيتي الفنان المسرحي سعيد لهليل، مديرُها اللبناني الأستاذ "زهير بعلبكي" بحفاوته المصطنعة ووقعنا العقد على أساس أن أزوره بعد ستة أشهر من أجل المحاسبة على حد تعبيره. صحيح أنه قام بتوزيع النسخ توزيعا جيدا حسب لائحة "نقط البيع" التي وصلتني منه، ولكنني لمّا عدت بعد سنة (بحكم أنني أعيش خارج المغرب) للقائه رفقة صديقي الشاعر محمد الصابر، وكان في جعبتي مشروع كتابة "طموح" كنت أزمع القيام به بعد تناول حقوقي، وجدته قد "سد الحانوت" واختفى عن الأنظار بذريعة "الإفلاس"! إنه أكبر شعور بالمهانة والظلم حينما تجد نفسك في مثل هذه الحالات وحدك رغم مؤازرة صديقيَّ الشاعرين اللذين أعبر لهما هنا عن امتناني وهما توفيقي بلعيد ومحمد الصابر الذي أشار إلى ما حدث لي في مقال له نشره في يومية "الإتحاد الإشتراكي" آنذاك. لا أريد أن أصف للقارئ هنا مدى المعاناة والإحساس بالغبن والحقارة الذين عشتهما، فهذا أمر من السهل تكهنه. إنها لحظة أبدية تلعن فيها كل شيء بما في ذلك الكتابة نفسها. المؤسف أيضا أنك حين تقرر النشر اعتماداً على المجهود الذاتي، فعلى مستوى الدعاية أو الكتابة حول مؤلَّفك لا يمكن أن تعول إلا على نفسك! ومن المحزن أيضا أننا في المغرب لا زلنا نتبنى مبدأ "أكتب عليا نكتب عليك" وقلما أن يتعامل الناقد أو "الصحفي الثقافي" أن يتناول بالتعريف أو النقد غير أعمال المعارف أو المقربين والمتملقين و... (زيد من عندك، راك ولد البلاد وعارف بالأمور وهذا موضوع آخر). عدت إذا إلى فرنسا بلدي الثاني، ومن هناك، وبعد انطفاء الأجيج، قررت أن أراسل بعض المسؤولين على شؤون الكتاب والثقافة ببلدنا الجميل المغرب. كنت أود كأي ساذج أن لا يتكرر ما حصل لي. كنت أود أن يعير هؤلاء المسؤولون (خصوصا وأنهم مثقفون تقدميون!) اهتماما ما لهذه الظاهرة والتصدي لها من مواقعهم التي وصلوا إليها بفضل مسيرة معروفة ليس هنا مجال الخوض فيها، وكم كانوا يستطيعون لو أرادوا!. وأنا أسلك هذا السير لم يكن في نيتي بتاتا أن أعيد الاعتبار لنفسي أو أن أطلب أي تعويض شخصي ولكن لكي أثير الانتباه لظاهرة معاناة الشعراء والكتاب والمبدعين عموما مع دور النشر والموزعين وغيرهم من "الشلاهبية" إضافة إلى محنة أولئك الذين يخوضون مغامرة النشر على حسابهم الشخصي. وهكذا راسلت في شأن ما حصل ل "أصوات في الجسد"، عن طريق البريد المضمون انطلاقاً من فرنسا، كلا من الشاعرين الاتحاديين الأخ نجمي حسن رئيس اتحاد كتاب المغرب والسيد وزير الثقافة محمد الأشعري آنذاك. الجميل والمضحك مرارةً في الأمر أن هؤلاء "أولاد الشعب" لم يكلفا نفسيهما حتى "عناء" الإجابة عن مراسلتي! (وأترك للقارئ استخلاص ما يريد). وأنا أختم هذه الشهادة تحضرني إحدى المكالمات الهاتفية التي جرت بيني وبين المرحوم محمد زفزاف الذي كان قد حصل على نسخة من "أصوات في الجسد" والذي ترجمتُ له للفرنسية روايته "الثعلب الذي يظهر ويختفي" (لا أدري حتى الآن مصير النص المترجم بعد وفاته وتلك تجربة/قصة أخرى) حيث أكد لي حينها (أياما قبل رحيله إلى باريس من أجل العلاج) أنه عاش نفس التجربة مع نفس الموزع الذي يتقن "منهاج" الإفلاس ليفتح محلا آخر باسم آخر يعاود فيه نفس الشيء على حساب المصطلين بحر الكلمة. كانت هذه الشهادة محفزا كبيرا آخر لي على الاتصال بالأخوين المناضلين المذكورين اللذين أصابهما الصمم فجأة. سنة 2000 تمخضت ذاتي عن مجموعة شعرية نثرية باللغتين العربية والفرنسية، أعطيتها عنوان « Souffles Mixtes » اطلعت عليها إحدى الصديقات المثقفات هنا بفرنسا، فأبت على نفسها إلا أن تخرجها للوجود وألحت كأي "محسنة – mécène " أن تتكلف بمصاريف الطبع على أن أقوم بعملية التوزيع في المغرب وهذا ما أذعنتُ له. كانت هذه تجربتي الثانية رغم أنفي حيث قمت بتوزيع مئات النسخ في كبريات المدن بالمغرب مقابل "توصيل" (ريسيبو) ثم قامت صديقتي بتوزيع الباقي في بعض مدن فرنسا بطريقتها الخاصة. في فرنسا "حقوقي" وصلتني حتى البيت، أما حقوقي في أرض الوطن فقد مزَّقتُ "التواصيل/الريسيبوات" واعتبرت ذلك هبة مني ومن المحسنة صديقتي الفرنسية للقارئ وأصحاب الدكاكين والأكشاك والمكتبات حتى أتفادى صداع الرأس وأؤجل بذلك مرض السكري وضغط الدم. يبقى أن الغريب في الأمر أخيراً أنني حتى الآن أرى مجموعتيَّ « Souffles Mixtes » و "أصوات في الجسد" معروضتين للبيع عبر الشبكة العنكبوتية دون أن أكون وراء ذلك ودون أن أوافق على ذلك ودون أن أفهم كيف حصل ذلك! وا سيرأنشر أنت آسي واكتب. وبمناسبة الكتابة (رغم أنني لا أعتبر نفسي كاتبا أو شاعرا ولا هم يحزنون فالقارئ وحده له حق منح هذه الكليشيهات) فهي لا تزال هناك، تواسيني وأشاطرها الآخرين مهما كانت الصعاب، لكن أن أعيد الكرتين مرة أخرى؟ أُوهُويْ! أُوهُو! أُوهُو! حتى يوم النشور. Promis, juré, craché ! http://mostafaabba.blogspot.com http://mostafaabba.blogspot.com