لن يصدر كلامنا عن عاطفة الانتماء إلى التراث الإسلامي لو قلنا محاولين وصفه بأنه من أرقى ما أنتجه الفكر البشري و من أجود الثمار التي جاد بها العقل الإسلامي،إن فكرنا الإسلامي استطاع أن ينفتح على جل التيارات و الأديان و المذاهب باختلاف توجهاتها فاستقطبها و جعلها تنخرط فيه و تشارك في صنع هياكله وصياغة مضامينه،من هنا جاز لنا أن نتحدث عن "عالمية" هذا الفكر البشري،لكنه بدءا تراثنا نحن العرب وهو حكر علينا و نحن نواته الأولى،لذا فهو مفخرتنا،لكنه في الآن نفسه سر تعاستنا،فذلك التناغم والتلاقح الفكري الذي يحاول البعض أن يصوره عند الحديث عن ذلك الخليط الغير المتجانس الذي خط ملامح فكرنا الإسلامي لم يكن مترجما حقيقة في أرض الواقع،بل إن قراءة تاريخ الفكر تؤكد أن فكرنا الاسلامي لم يكن "يوطوبيا" مثاليا،و فكرة "الآخر" بالتصور "السارتري" كانت حاضرة و بشدة في مخيلة صناع الفكر الإسلامي و في "لاشعورهم"،إذ الاختلافات سواء العقدية منها أو الفقهية أو حتى الابستمولوجية كانت ولا تزال تعمل على زرع ثقافة الفتنة و غرس بذور القلق و القلاقل داخل منظومتنا الفكرية.إذن كيف لنا أن نتجاوز هذه الأزمة فنبرز ذلك الوجه المشرق الخفي من تراثنا الإسلامي -الفكري منه خاصة-،و لماذا نحن في حاجة إلى قراءة هذا التراث أصلا؟ لم لا نعمل بوصية الحداثيين فنترك التراث جانبا و كل ما هو قديم زمانيا ونلحق ب"الركب الحضاري" استنادا على ما أنتجه هذا "الآخر" فقط؟ إن الحاجة إلى قراءة التراث تفرضها عوامل داخلية،و أخرى خارجية،إن التراث جزء منا و نحن جزء منه،فهو جزء لا يتجزء منا،نحن جزء منه لأننا حلقة وصل بينه و بين الأجيال القادمة،بل إن كل ما ننتجه في "الحاضر" هو من التراث،ذلك لكون الحاضر لحظة لا حقيقة لها،إن الآنية لحظة مجازية،فهي سرعان ما تنفلت منا لتصير دون استئذان من الماضي و بالتالي من التراث،و هو جزء منا لأننا نقرأ فيه تاريخنا،أجل،إنه مرآة تعكس تطلعاتنا في الماضي و استشرافاتنا،ما حققناه و ما لم نحققه،فهو الماضي الذي لا نستطيع بدونه أن نعي الحاضر و نتطلع للمستقبل، و لأنه شئنا أم أبينا يشكل عبر الصيرورة التاريخية لاشعورنا المعرفي،فهذه العلاقة الجدلية بيننا و بين التراث تحتم علينا النظر فيه، بل و أن تتعاقب الأجيال على النظر فيه كلما توفرت الأرضية الملائمة لذلك. وأما العوامل الخارجية،فهي التحديات التي نواجهها،أو ما صار يطلق عليه ب "صراع الحضارات"،و هي في الحقيقة ليست صراع حضارات و إنما صراعات ثقافية،ذلك لأن الحضارة تشكل الجانب المادي من الإنتاج البشري،فهي ليست غاية في حد ذاتها،بل إن الحضارة مجندة لخدمة الثقافة و الفكر و الدفاع عنهما،إنها حرب فكرية باردة بين المتناقضات،لكن غالبا ما يحمى وطيسها فتتحول إلى حرب حقيقية،تصير فيها الكلمة الأخيرة للقوة. إن العامل الخارجي يقتضي تحديد مكانتنا بين الأمم،و المرتبة التي نحتلها في سلم التقدم الفكري،و طبعا دون إغفال الجوانب الأخرى،و لن نكون في حيدة عن الحق إذا قلنا إن كل تلك الجوانب تابعة للفكر،و هذا الأخير هو الذي يقودنا لتحقيق نهضة اقتصادية و سياسية و اجتماعية،بل نهضة تمس سائر المجالات الحياتية.إن الفكر ليس مجرد قالب أجوف أو كلمات متناثرة يتلاعب بها المفكر كما شاء متى شاء،كلا! إن الفكر هو الأساس المتين لكل نهضة،و هل حقق الغرب نهضته إلا بالحداثة،و ماهية الحداثة فكر لا محالة،فقد كانت فلسفة قبل كل شئ و طريقة في التفكير و أسلوب في الحياة اتبعه الغرب مكنه من تحقيق التقدم و الرقي الماديين بعد أن اغتيل الجانب الإنساني فيه،و هل تجتمع المادية و الإنسانية المطلقتان؟ إن إعادة قراءة التراث و الفكر الإسلامي منه خاصة راجع إذن إلى كوننا في حاجة إلى أن نعي ذواتنا وعيا حقيقيا،ثم لكون سؤال النهضة يتطلب منا أن ننبش في ماضينا،و نقف عند أهم المحطات التي عرفت فيها الأمة الإسلامية انعطافات و انعراجات،فالنهضة لا تبنى على خواء أو سراب،بل تتم بالوعي الفكري قبل كل شئ،و وعينا الفكري يحدده ماضينا و تراثنا. لكن السؤال الذي يطفو علينا،هو كالتالي : كيف نتعامل مع هذا التراث؟ و كيف ننظر إلى تلك الصراعات الماضوية داخل فكرنا الإسلامي؟ إن الجواب عن هذا السؤال سيحتم علينا الوقوف و لو وقفة مقتضبة مع طبيعة هذا الفكر و هذا التراث.فمن المعلوم أن الأصلين الكتاب و السنة مصدرهما رباني،و هذه المسألة لا غبار عليها،و هذا ما يضفي قدسية عليهما،لكن هذه القدسية تسقط ما أن يبدأ الإنسان في محاورة النص بحثا عن تأويلات و تفسيرات،و هكذا فالنص رباني مقدس و اجتهاد الإنسان بإعماله لعقله في فهم النص بشري،يجوز أن يكون صائبا كما يجوز في حقه الخطأ،فالنص كوحي إلهي لا يمكن إخضاعه للمناهج البشرية،كما صنع ثلة من المفكرين العرب الذين وظفوا منهج التاريخية في قراءة القرآن،أو الهيرمنيوطيقا في تأويل النص الديني،كما أن المعجزات النبوية لكون مصدرها رباني لا يمكن مثلا أن نردها بدعوى عدم توافقها و القوانين التي توصلنا إليها باعتماد المنهج التجريبي..و إلخ،لكن التفسير إنساني لذا يجب أن نتعامل معه مستحضرين الضرورية العقلية "النسبية" و معتمدين المناهج البشرية سواء كانت من صنع مشارك في الملة أو غير مشارك كما يقول ابن الرشد الفيلسوف الحفيد،شرط تبيئتها حتى تتوافق مع المقروء. أجل،إن الإنسان كائن تاريخي،ففكره الذي يصدر عنه سيكون تاريخيا مؤطرا بزمان و مكان،إنه أشبه بكائن حي سرعان ما يموت إذا تم عزله عن محيطه المعتاد،فكذلك الفكر إذا نظر إليه خارج مجاله التاريخي،و يجب أن نعترف بعدم قدرتنا على الإحاطة العميقة الواعية بحقيقة فكر معين ما لم نضعه في إطاره التاريخي بكل أبعاده السياسية و الإجتماعية و الأيديولوجية و الثقافية،و بهذا جاز أن نقول بطمأنينة مع القليل من الجرأة أن سلفنا الذين "أرخوا" للمذاهب الفكرية و الملل و النحل كانت أبحاثهم لا تنبض بالحياة،و مجرد "سرد" لمعتقدات المذاهب،و ليس أدل على ذلك من الملل و النحل للشهرستاني و هو من أشهر المؤلفات في هذا الصدد،ففكرنا الإسلامي القديم لم يكتب تاريخه بعد للآسف،فكيف ندعو لكتابة تاريخ فكرنا الحديث؟ التاريخية ذلك الرهان المفقود في تراثنا الإسلامي،و هو المنهج الذي ينبغي أن نجند أنفسنا لنقرأ به فكرنا الإسلامي،و نتجاوز سطحية سلفنا في تناولهم للفرق الإسلامية،إننا لسنا في الحاجة إلى ترديد أن الشيعة يكفرون الصحابة و يقولون بعصمة الإمام،أو أن المرجئة يقولون بأن الإيمان لا يزيد و لا ينقص،و لن نستفيد شيئا لو قلنا باختزالية ساذجة إن المعتزلة يقولون بأولوية العقل على النقل،بقدر ما نحتاج لإدراك العوامل التاريخية و السوسيوثقافية و السياسية التي حملت هذه الفرق على الانحراف عن جادة الصواب،و هكذا في ظل العقلانية و الاحترام المتبادل و الحوار الهادئ يمكن لنا أن نلتمس بعض الأعذار لهؤلاء "المنحرفين" بعيدا عن منطق الفرقة الناجية و لغة التكفير و التبديع. لنأخذ على سبيل المثال القدرية،إننا نستطيع أن نجزم بأن القدرية فرقة متنورة عقلانية ثورية،لقد حاولت هذه الأخيرة أن تقف ضد إيديولوجيا جبر الدولة الأموية،تلك الدولة التي أراد بعض حكامها أن يحيوا عصور الثيوقراطية و التفويض الإلهي،فزعمت بأن الظلم و الحيف و الاستبداد و الجوع و الفقر .. كله من عند الله،و أنهم بسلطة الله و سيفه يحكمون،فما للشعب إلا أن يرضخ و يذعن لأمر الواقع،فجاء هؤلاء "الثوريون" ضدا على هذه العقيدة الفاسدة التي تتعارض على طول الخط مع ما هو مقرر في وحيينا بأنه ليس في سنة الله جبر و إكراه،بل إن إرادة الله اقتضت أن يجعل الإنسان حرا في أفعاله،فأنكرت فعل الله. والشيعة أول من تهرمس في الإسلام كما يقول "فوستيجيير" لا يمكن أن نفهم حقيقة عقائدها و منها عصمة الأئمة لو لم نعد إلى الموروث القديم السائد في العصر الهيلنستي،أعني الفلسفسة الهرمسية اللاعقلانية،فالتشيع إسلام في قالب هرمسي قح! (و سنخصص مقالا لهذا إن شاء الله). والمرجئة كفرقة إصلاحية لم تقل إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص،و حتى إن قالت ذلك فعلا فإنها اضطرت لذلك،و الضروريات تبيح المحظورات،إن المرجئة تفرخت و ترعرت في ظروف كانت الأمة الإسلامية ترزح تحت نيران الفتن والحروب،عندما سادت لغة التكفير و رخص دم المسلم،فالخارجي يكفر بالكبائر و الرافضي يهدر دم من لم يؤمن بعصمة الإمام، فتدخلت المرجئة بحزم فقالت الإيمان المعرفة،و بأنه لا تفاضل في مطلق الإيمان(أصله) لا الإيمان المطلق(كماله)،و من آمن بالله ورسوله فقد حرم دمه. هكذا بهذه الروح النقدية والرؤية التاريخية المنصفة نستطيع أن نعي تاريخنا،و لتكن أول خطوة تمهيدية لمن يصبو قراءة فكرنا الإسلامي أن يلتزم الموضوعية فيفصل بين الذات -كميولات ورغبات- والموضوع،أن يجعل سدا بينه و بين المقروء،أن لا يسابق الكلمات و يبتر النصوص بحثا عن المعاني التي تخدم إيديولوجيته. http://adiltahiri.maktoobblog.com http://adiltahiri.maktoobblog.com