تكاد لا تخلوا مهنة أو وظيفة من تنظيرات وتقعيد يروم صيانتها من الفساد والانحراف بها عن مقاصدها الإنسانية والمجتمعية النبيلة. و أصبح اليوم من أسس الحكامة الرشيدة ومعايير الجودة التوفر على مرجع يتجاوز الخطاب الأخلاقي التقليدي إلى مأسسة الأخلاق من خلال وضع مرجعيات قانونية و آليات للرصد والمتابعة والتقويم ووضع برامج تكوينية وتحسيسية. ويأتي العمل البرلماني على رأس المهام التي ينبغي أن تخضع لآليات تضمن الرفع من مستوى الأخلاقيات فيه، لكونه يشرع و يضع السياسات العامة ويراقب الجهاز التنفيذي وهو أمين على حماية المال العام وما إلى ذلك من المهام التي تتصارع فيها وحولها المصالح الخاصة والمصالح العامة، وهو ما أعلنت "مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية" إلى تحقيقه، فهل يمكنها ذلك؟ إن مناسبة إثارة هذا الموضوع هو المحطة التكوينية التي نظمها البرلمان لنواب الأمة والتي أطرتها "مؤسسة ويستمنستر للديمقراطية" يوم 11 مارس الجاري، والتي كانت عبارة عن ورشة عمل حول مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية. وحسب وثيقة عرض أعده الدكتور "شون فارين" (خبير برلماني ونائب سابق بإرلاندا الشمالية) ووزعت على المشاركين، فإن "مدونة قواعد السلوك البرلمانية" تهدف إلى تنظيم سلوك النواب من خلال تحديد ما هو السلوك المقبول وما هو السلوك غير المقبول، من خلال بث ثقافة سياسية تؤكد على اللياقة والصحة والشفافية والصدق". وحسب الوثيقة نفسها فتلك المدونة تحدد المعايير السلوكية للنواب استنادا على معايير السلوك المقبولة عموما في المجتمع، وتحدد تلك المدونة كيف يجب دعم تلك المعايير من قبل النواب، كما تحدد العقوبات المترتبة عن خرق تلك المعايير. وبالمقارنة بين ما ورد في النظام الداخلي لمجلس النواب وما جاء في تلك الوثيقة، يتبين أنه ينبغي الارتقاء ب "مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية" كما جاءت في الجزء السادس من النظام الداخلي لمجلس النواب في كثير من جوانبها. غير أننا سوف نكتفي بمسألة تضارب المصالح التي أثارتها الوثيقة التكوينية وتشكل نقطة ضعف "مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية". فالوثيقة تشدد على أن تضارب المصالح، بين المصالح الخاصة للسياسي و المصالح العامة، هو الذي يكون وراء معظم السلوكات غير الأخلاقية للنواب. وفي هذا الصدد توقفت الوثيقة عند مسألة هامة أسمتها ب "التصريح بالمصالح المالية وغيرها"، وأكدت أن هذا التصريح من شأنه تقليل خطر حدوث تضارب في المصالح. غير أن هذا التصريح بالمصالح المالية وآليته العملية يختلف كلية عن المعالجة التي قدمتها "مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية" في المادة 238 والمادة 242. فالمادة 238 من النظام الداخلي لمجلس النواب، في الباب الثاني المتعلق بقواعد السلوك والأخلاقيات البرلمانية، أحالت على "التصريح بالممتلكات" الذي تضمنته المادة 8 من نفس النظام. وتنص تلك المادة على أنه "يجب على كل نائبة أو نائب أن يؤدي لدى الأمانة العامة للهيئة المختصة بالمجلس الأعلى للحسابات تصريحا كتابيا بالممتلكات والأصول التي في حيازته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة طبقا للقوانين الجاري بها العمل". و هذه المادة في حقيقتها لا تعالج الأخلاقيات البرلمانية التي تروم حماية العمل النيابي من التأثر بالمصالح الخاصة التي قد يستفيدها البرلماني خلال مدة انتدابه من مختلف الجهات. أما التصريح بالممتلكات فهو يهم ممتلكات البرلماني و لا يخبرنا عن الجهات التي قد تكون قد أثرت في عمله البرلماني خلال مدة انتدابه، وهو يسجل، بشكل قاصر، وضعية ممتلكاته الأولى والتي يمكن مقارنتها، بناء على تصريح مماثل، بوضعية أخرى لاحقة، وأي تنامي لتلك الممتلكات لا يمكن بأية حال اعتباره دليلا على وجود فساد كما أنه مجرد رقابة بعدية و لا يشكل آلية فعالة لتخليق السلوك البرلماني خلال الممارسة. ومقابل هذا نجد أن "التصريح بالمصالح المالية"، كما عرضته الوثيقة التكوينية، يتطلب ضرورة وجود "سجل برلماني"، مفتوح أمام الجميع، يتم فيه تسجيل المصالح الخاصة بكل برلماني كلما استجدت و بشكل يسمح للأغيار بالحكم حول ما إذا كان عملهم في البرلمان قد تأثر بتلك المصالح أم لا. وهذا هو الفرق الجوهري بين المفهومين:"التصريح بالممتلكات" كما حددته المادة 8 المشار إليها، و"التصريح بالمصالح المالية" كما هو معمول به في الديمقراطيات الحقيقية وتقدمه الوثيقة التكوينية. لأن الأهم هو مدى استقلالية عمل البرلماني عن الجهات المانحة للمصالح أثناء مزاولته مهامه النيابية، لذلك فالآلية التي تضمنها النظام الداخلي لمجلس النواب ما تزال قاصرة عن بلوغ مستوى وضع القواعد الأخلاقية لعمل البرلمانيين. ولمزيد من التوضيح يمكن الوقوف عند نقطة حساسة أثارتها الوثيقة المشار إليها. فتحت عنوان ما الذي ينبغي التصريح به؟ أوردت الوثيقة 11 نوعا من تلك التصريحات التي ينبغي توثيقها كلما استجدت، نجد ضمنها، إضافة إلى الممتلكات ومختلف أشكال الدخل، الاستشارات، والهدايا والضيافة، والامتيازات، والسفر إلى الخارج، وغير ذلك. وأوردت الوثيقة مقتطفا من سجل المصالح يتعلق ب"ديفيد كاميرون"، (رئيس وزراء بريطانيا المعروف) جاءت فيه مختلف المصالح التي تلقاها مع بيان تواريخها و مبلغها إذا كانت أموالا، وطبيعتها إذا كانت هدايا أو امتيازات، والجهة التي قدمتها. وسجل من بين هذه المصالح، أسفارا وهدايا ولقاءات تلفزيونية مؤدى عنها، وغير ذلك من أشكال المصالح. وهذا هو المهم في هذه الآلية للمراقبة الآنية والمستمرة لمدى تأثر عمل البرلماني بالجهات المانحة للامتيازات، وليس مجرد رصد لممتلكاته. وفيما يتعلق بالمادة 242 التي تعالج نقطة تعارض المصالح، فنص المادة يقول" كل نائبة أو نائب له مصلحة شخصية ترتبط بمشروع أو مقترح قانون أو لجنة نيابية لتقصي الحقائق أو مهمة استطلاعية مؤقتة يوجد في حالة تضارب المصالح قد يؤثر على تجرده أو استقلاليته يخبر بذلك رئيس مجلس النواب قبل الشروع في مناقشة مشروع أو مقترح قانون أو القيام بمهمة البحث والتقصي أو مهمة استطلاعية أو طرح القضايا المرتبطة بتضارب المصالح". وهذه المادة أيضا لا تتضمن آلية يمكن التعويل عليها لقياس عدم وقوع البرلماني فعلا في حالة تعارض للمصالح تكون المصلحة العامة ضحيتها. فهي تعول على مبادرة البرلماني بإخبار رئيس المجلس بكونه في حالة تعارض للمصالح في نازلة من النوازل، في حين أن آلية التخليق تقدم مؤشرات قياس عامة لسلوك البرلماني طيلة مدة انتدابه وليس فقط في حالة تشريعية محددة أو مهمة من المهام البرلمانية. ورغم ذلك فنفس المادة لا تمنع البرلماني المصرح بوجوده في حالة تعارض المصالح من المشاركة رغم حالة تعارض المصالح التي يفصح عنها إن هو قام بذلك. وهذا القصور في هذه المادة يتعلق في العمق بمفهوم تعارض المصالح في حد ذاته، حيث أنه ليس دائما مما يمكن الإعلان عنه، ثم إن تعارض المصالح ليس دائما متعلقا بمصلحة البرلماني نفسه بل بمصلحة جهة لها تأثير عليه من خلال مصالح يستفيدها منها، قد تكون أموالا أو هدايا وقد تكون أسفارا أو حضور حفلات وغير ذلك من أشكال التأثير. إن المواد الثمانية التي تشكل "مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية"، رغم ما تضمنته من مبادئ وأخلاقيات عامة يمكن اعتبارها متقدمة، غير أنها لا تتضمن آليات حقيقية يمكن من خلالها تحقيق ما جاء في بندها الأول الذي جاء فيه أن المدونة تهدف إلى "ترسيخ القيم الديمقراطية وقيم المواطنة وإيثار الصالح العام وتعزيز دور المسؤولية النيابية". وبالنظر إلى الملاحظات التي سجلت آنفا حول تعارض المصالح، وبالنظر إلى مضمون المبدأ الثاني المتعلق باستقلالية النائب بما يحفظ قيامه بمهمته النيابية بشكل ديموقراطي وشفاف ونزيه، لا نجد أية آلية يمكن من خلالها تحقيق هذه الاستقلالية أو التأكد من سلامتها. إن وضع أخلاقيات العمل سلوك جد متقدم، لكن الذي ما زلنا نعانيه في المغرب هو أننا نسعى وراء تحقيق الشكليات في مثل هذه القضايا على حساب الجوهر. ويكون ذلك في الغالب لتحقيق معايير دولية تمكننا من تحسين وضعيتنا في التقارير الدولية. وكما أن أخلاقيات البرلماني كما جاءت في مدونته لا تتضمن آليات فعالة للتنزيل فإن معظم المهن التي لها أخلاقيات مدونة لا تتمتع هي الأخرى بمثل تلك الآليات، ويمكن في هذا الصدد الاشارة إلى أخلاقيات مهنة الصحافة، فهذه الأخلاقيات متداولة على أوسع نطاق ونجدها في مقررات وأدبيات كل الجهات المعنية بهذا المجال لكن ليس هناك آليات تضمن نفاذ تلك الأخلاقيات المهنية، والنتيجة هي ما نراه من غرق المهنة في وحل ممارسات مهينة تمس نبل مهنة الصحافة. نعم لقد خضع البرلمانيون لتكوين حول مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية من خلال نماذج معتمدة في الدول الديمقراطية، فهل يعالجون القصور الذي تعانيه "مدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية" بما يحمي العمل النيابي من التوظيف المتخفي لذوي المصالح المتعارضة مع المصالح العامة؟