الدرهم يتراجع بنسبة 1,18 في المائة مقابل الدولار الأمريكي بين شهري شتنبر وأكتوبر (بنك المغرب)    الطرمونية: حزب الاستقلال يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة بدكالة    وقفات تضامنية مع غزة ولبنان بعدد من مدن المملكة        الدريوش يتلقى استدعاء لتمثيل هولندا    عدد وفيات مغاربة فالنسيا بسبب الفيضانات بلغ 5 ضحايا و10 مفقودين    دهس عمدي يوقف 7 أشخاص بالبيضاء    بواسطة برلمانية.. وهبي يلتقي جمعية هيئات المحامين بالمغرب غدا السبت    فعاليات الملتقى الجهوي الثالث للتحسيس بمرض الهيموفيليا المنعقد بتطوان    منظمات أمازيغية تراسل رئيس الجمهورية الفرنسية حول استثناء تعليم اللغة الأمازيغية    الوسيط يعلن نجاح الوساطة في حل أزمة طلبة الطب والصيدلة    مدافع الوداد جمال حركاس: تمثيل "أسود الأطلس" حلم تحقق        قيود الاتحاد الأوروبي على تحويلات الأموال.. هل تُعرقل تحويلات المغاربة في الخارج؟    أكديطال تتجه لتشييد مصحة حديثة بالحسيمة لتقريب الرعاية الصحية    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    سانت لوسيا تشيد بالمبادرات الملكية بشأن الساحل والمحيط الأطلسي    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    "جبهة نقابية" ترفض المس بالحق الدستوري في الإضراب وتستعد للاحتجاج    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    الطفرة الصناعية في طنجة تجلعها ثاني أكبر مدينة في المغرب من حيث السكان    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان        إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدعاء في المنظومة الدينية.. دغدغة للأنا وأبعاد أخرى
نشر في هسبريس يوم 08 - 03 - 2014

تعتبر قضية تحديد مؤشرات التدين عند المسلمين من أهم التحديات التي تواجه مراكز البحث الاجتماعي في الغرب. وتبدأ هذه المشاكل بقضية تحديد هوية المسلم ومن الذي له الحق في تحديد هذه الهوية. كما يعاني الباحثون الغربيون من صعوبة التسلل إلى وفهم نوعية المنظومة الإيمانية والدينية للمسلم بصفة شاملة ومتناسقة. فلنأخذ مثلا التعريف الشائع الذي نجده حتى في مقررات التعليم الابتدائي بِخُصُوصِ مادة الأديان العالمية : "المسلم هو من يطبق أركان الإسلام من صلاة (في وقتها) وصوم وإيتاء زكاة والحج". فالباحث لا يفهم كيف أن عددا لا يستهان به من المسلمين لا يصلون. لنقارن مثلا أي مسجد في المغرب (ناهيك عن الغرب) لنجد أن نسبة مئوية قليلة تطرق باب المسجد عند صلاة الظهر أو العصر أو المغرب مقارنة مع من يدور حول فلك المسجد من مارة وتجار ومتسولين. فكيف نصنف هؤلاء ياترى؟
مِنَ النُقطِ المَطرُوحة هُنا هو هل يكفي التركيز عَلى السُلوك الدِيني الخَارِجِي مِن تَطبيق للأوامر واجتناب لِلنَواهِي لِكي يَتم رصد الخريطة الإيمانية والدينية للمسلم، أم وجب (أيضا) الأخذ بعين الاعتبار المسائل الباطنية من معتقدات وآراء وتصورات وكذا من هو الفيصل وذو الأسبقية في عملية الرصد، الظاهر أم الباطن؟ يضاف إلى ما سبق أن مفهوم "السلوك الديني الظاهري" في الأبحاث الغربية في مادة الإسلام لا يغطي واقع التدين عند المسلم. فالدعاء مثلا يُعتبر فِي هذه الدراسات من الأمور الباطنية وفوق هذا لا يعيرونه حق الاهتمام إن لم نقل لا يعيرونه أي اهتمام مع أن هذا الموقف قد يُفَند بسهولة بثلاث كلمات يتضمنها الحديث المشهور: "الدعاء مخ العبادة".
وسأحاول في هذا المقال أن أتناول بما تيسر من التحليل مكانة الدعاء في المنظومة الإيمانية وكذا بعض آثاره في النسق الاجتماعي والنفسي عند المسلمين بكل أطيافهم. أتوخى من هذا تبيان أن الدعاء هو بالضبط أحد الممارسات الدينية الظاهرية والعلنية للمسلمين بالإضافة إلى ممارسات قد تدخل في إطار الباطن. أما الهدف العام من هذا فهو دعم فرضية أن الدعاء من أهم مؤشرات التدين التي يجب أخذها في الحسبان.
إن أهمية الدعاء في المنظومة الإيمانية الإسلامية أمر محسوم فيه لا من خلال توجيهات الحديث النبوي (مخ العبادة) ولا من خلال الآيات القرآنية كما جاء في سورة غافر آية 60 "وقال ربكم ادعوني استجب لكم" وفي سورة الفرقان آية 77 "قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم". وفي كتابه "أفضل الصلوات، أدعية مستمدة من القرآن" يُدرِجُ منصور أحمد طبيبُ أسنان وطبيبُ أشعة أمريكي الجنسية من أصل أسيوي أكثر من 90 دعاء. في الحديث النبوي هناك العشرات من الأدعية الموصى باستعمالها في المناسبات المختلفة. وفي كتيب الجيب"حصن المسلم" والمنتشر على صعيد واسع بين المسلمين اختار جَامِعُهُ مجموعة من الأدعية التي يمكن استعمالها في 129 مناسبة. و يُطلق على الأدعية المستمدة من القرآن والحديث "الأدعية المأثورة" أو "الرسمية" بمعنى أن لها شكل وصياغة ثابتين ويُفَضل استعمالها بهذا الشكل دون تبديل وبلغتها الأصلية أي العربية. إضافة الى ذلك هناك أدعية أخرى يُمكن صِياغتُها وجمعها اعتمادا على أجزاءٍ من الأدعيةِ المأثورة. وتُعتبر صلاة الاستخارة عبادة تجمع بين الدعاء والصلاة.
لكن كيف يتم الدعاء؟ يرى جون-نوويل فريي، وهو من قلائل الباحثين الذين انتبهوا إلى أهمية الدعاء في الحياة اليومية للمغاربة أن الدعاء هو الصلاة الخاصة. و يُبرر الباحث هذا التفسير على النحو التالي. في المقام الأول يمكن أن يُطلق على الدعاء صلاة خاصة لأنه مُوجه إلى الداخل ويتم فِي صمت دون إيماءات. كما أنه يتم في محيط خاص وفي غياب الآخرين، في البيت مثلا. كما يُعتبر الدعاء صلاة خاصة لأنهُ يهمُ الذات من خلال مناجاة وطلب مُبَاشِرين من الله لقضاء مآرب شخصية، خلافا للصلوات الخمس التي هي "خدمة لله " يقول الباحث. و يُضيف أن كلمة "صلاة خاصة" تشير إلى أن الدعاء ليس له صبغة الإلزامية كما هو الأمر للصلوات الخمس وأن المسلم حر في القيام به وفي طريقة تطبيقه. لكن الدعاء أكثر بكثير مما يَصفُ هذا المؤلفُ. فالمسلم يقوم بالدعاء أيضا بصوت عال وبإيماءات وللدعاء وظيفة أو صبغة عامة (ليس فقط خاصة) أي لا يتم دائما بغرض طلب المصالح الشخصية كما يتم بشكل جماعي أيضا.
لكن الدعاء أكثر بكثير مما يَصفُ جون-نوويل فريي. فالمسلم يقوم بالدعاء أيضا بصوت عال وبإيماءات وللدعاء وظيفة أو صبغة عامة (ليس فقط خاصة) و لا يتم دائما بغرض طلب المصالح الشخصية كما يتم بشكل جماعي أيضا.
يُعتبر الدعاء في الإسلام وسيلة تواصل مباشرة مع الله وهو في متناول الجميع و ليست هناك شروط (طقسية) للقيام بالدعاء فهو متاح للجميع في أي وقت أو مناسبة ، لكن الدعاء مع هذا لا يفقد قيمتُه التعبدية كما يشير إلى ذلك الحديث النبوي المذكور أعلاه: "الدعاء مُخ العبادة". و مادمت قد أشرت إلى الغرب فبالنسبة لرمزية الدعاء يمكن مقارنته من بعض الجوانب بحركة الصليب المسيحية. يمكن للجميع القيام به ،أي الدعاء، بغض النظر عن مدى تدينه. يمكن وضع الدعاء في شكل حرز وتعليقه في العنق أو وضعه في الجيب كما يمكن أيضا تعليقه في السيارة أو على الحائط. كما يمكن القيام بالدعاء بحركة يدوية كما يفعل لاعبو كرة القدم عندما يرغبون في تسجيل الأهداف للتوسل إلى الله لتحقيق ذلك أو عند تسجيلها فعلا لشكره.
والدعاء يشكل في أحيان كثيرة الذروة القصوى في كثير من المناسبات من قبيل حفل السبوع بعد الولادة، امتلاك وولوج بيت جديد، في حفل زفاف أو خطوبة أو في وليمة أو "صدقة". وتسند مهمة الدعاء في هذه المناسبات وغيرها عادة إلى الإمام أو من يقوم مقامه. ويكون لممول هذه المناسبات شرف مقدمة من يدعي له ثم يليه غيره كالمولود والعروسة والذرية وعامة ثم الناس أجمعين. وكم من أُناس يُقيمون وليمة أو "صَدَقَة" ويدعون الإمام إلى البيت خصيصا للدعاء لمريض من العائلة أو أحد من الأقربين قد يكون في وضعية صعبة. وبهولندا في صلاة الجمعة يتوصل الإمام بانتظام ليس فقط بطلبات جمع المال لفقير (دون أوراق إقامة) يعاني الحاجة ، ولكن أيضا بطلبات الدعاء لمرضى نزلاء المستشفيات. وهو ما يستجيب له الإمام والمصلون برحابة صدر. إذن فالناس عادة يقومون بالدعاء بدافع مشاركة الآخرين فرحهم أو قرحهم دون أن تكون هناك بالضرورة مصلحة شخصية.
في هذا الإطار قمت مؤخرا استعدادا لتناول هذا الموضوع بطرح بعض الأسئلة كتابيا على سجناء نزيلي خمسة سجون مختلفة بهولندا. وجاءت الأسئلة على الشكل التالي: 1 ماذا يعني الدعاء لك ؟ 2 متى تقوم بالدعاء؟ 3 ماذا تنتظر من الدعاء؟ 4 من تتمنى دُعاءه لك؟ 5 هل تقوم بالدعاء لأحد غيرك؟ من بين ال26 إجابة التي توصلت بها كانت هناك 6 إجابات بالنفي"لا أو للأسف لا". هكذا جاءت إجاباتهم. وإجابة أخرى وردت على شكل استفهام مفاده: "وهل للدعاء فائدة حقا؟ هناك مقولة تركية مفادها: لو كان دعاء الكلب مستجابا لما توقفت السماء عن المطر بالعظام".
بالنسبة لهذا السجين صاحب الاستفهام فَهُو لا يُنكر فائدة الدعاء ولكنه يعتقد أنه إذا لم تكن ملتزما ومستقيما فلا تعول على الدعاء ويضيف: " بالإمكان مقارنة ذلك بمجرم يُعرض باستمرار على القاضي من أجل جرائمه المتعددة وفي كل مرة يبدأ في التوسل واستعطاف القاضي وَاعدًا إياه بِالكَفِ عن اقتراف الجرائم وإتباع الطريق المستقيم في حال إطلاق سراحه. لكن سرعان ما تعود حليمة إلى عادتها القديمة فماذا يفيد الدعاء؟
بالنسبة لردود السجناء الآخرين حول السؤال الثاني فقد عبروا عن قيامهم بالدعاء كما وردت في أجوبتهم: للعائلة، للآباء والعائلة، للعائلة و الأصدقاء، للأم، للعائلة وكل من يحتاج لذلك، للعائلة وللمسلمين أجمعين وكل من هو في الحاجة والفاقة، للأخر وليس لنفسي، "لكل مسلم أينما كان وبالخصوص للمسلمين في مناطق الحروب وللوالدين والعائلة ولكل أموات المسلمين"، "لأمي وأبي ولباقي عائلتي من أجل حياة سعيدة وأن ينعموا بصحة جيدة وأن يصبروا على ما كُتب على ابنهم (السجن) ويؤمنوا بأنه سيطلق سراحي عما قريب. أقوم بالدعاء أيضا للذي قتلته وأطلب من الله أن يتغمده برحمته كما أطلب منه الصفح على الرغم من أنه كان هو المعتدي، وكاد أن يطعنني لو لم أدافع عن نفسي و كان ماكان، وهذا مؤسف له ولعائلته. حتى في القرآن الكريم هناك نص صريح عن الدفاع عن النفس في حالة التعرض لمحاولة القتل، على الرغم من ذلك فإنني أجد ذلك مؤسفا وأشعر بالذنب من جراء ما اقترفته يداي ومع ذلك فإني أقوم بالدعاء له ولعائلته وأطلب من الله أن يغفر لي فعلتي الرهيبة و أقوم بالدعاء دائما للآخرين أيضا إذا ذهبت إلى المسجد، أدعو لكل الإخوة وللناس الذين أحبهم ولكافة المسلمين وللناس الذين يعانون في هذا العالم الصعب، كما أني قمت مرارا بالدعاء لأجل من لا يحبون الإسلام وللعنصريين وأمثالهم لتنقية قلوبهم من الحقد والكراهية".
كما أن الدعاء اخترق مجالات أخرى من الحياة الاجتماعية. فمعلوم أن حسن الدعاء من أهم كفاءات المتسول المحترف. في هولندا مثلا يبادرك المتسول الغربي اللاديني بالسؤال الأتي:"هل يمكنك الاستغناء عن يورو واحد؟" و"هل أجد لديك 2 يورو أدفعها حق المبيت؟" وقد يضيف أحيانا "من فضلك" وقد يستغني عنها. عادة ما يكون هؤلاء من مدمني المخدرات الصلبة. والجواب يكون غالبا "لا"، على الأقل من قِبلي أنا عندما يسألونني. وهذا المتسول الغربي يشبه ذلك المتسول المغربي الغير المتدين الذي غالبا ما تنقصه التجربة لصغر سنه أو لتعلمه (قد يكون حامل شهادة عالية ويلبس هندام) فيقول لك: "شي خبزة" وقد يتجرأ عليك أكثر: "شي دجاجة مشوية "، وربما يضيف بخجل: "ايتوب عليك" أو "يعفو عليك" دون تحديد فاعل العفو والتوبة في هذه الجملة التي تبدو أنها ليست مفيدة.
أما في مدينة الدار البيضاء أو الناضور، فيمارس المتسول الحذق نشاطه على النحو التالي: يقوم بإرسال إشارات الاستعطاف عن بعد بُغية استجداء كرمك ثم يضيف: "اَذاكْ المَرْضِي الله يْبَارَكْ لِيك فْهاذْ النهار، يَعْطِيكْ ما تمنيتي فهذ النهار الزْوِينْ بْحَالَكْ! الله يْفرّجْ عْلِيكْ الغم والهم! أ سِيرْ اَمرْضِي الوالدين الله يحفظهم ليك .أَنا غادي ندعي معاك ومع وْلِيداتكْ ومع والديك. سير الله يَعطيك شي بيت ف الجنة. دِير حسنة وعَاون هاذ المسكين. عاون هاذ المسكين بشي صدقة، قليل ولّا كثير، أعطني صدقة الله يرحم ليك الوالدين. الله يجعلها في ميزان الحسنات". وهناك بعض المتسولات الجريئات اللائي يضفن على ما سبق عبارات من قبيل: "أهَذاكْ الزْوِين، سُبحان اللي صوْرك، أعلامة الله في أرضه عاون هذ المسكينة...
وقل من استطاع مقاومة هذه الدغدغات اللطيفة التي ينشرح لها الصدر حيث يقدم المرء على التبرع أو الصدقة برحابة صدر. وقد يتعمد المرء المرور بجانب هذا المتسول ليدغدغ أناه مرارا و تكرارا مع رصد ميزانية لذلك. ويمكن معاينة مثل هذه المظاهر في جامع الفنا بمراكش الحمراء حيث يراهن فنانو الحلقات كثيرا على الدعاء للمتفرجين من أجل استدراجهم للعطاء.
وعلاقة نوعية الدعاء بالكسب موجودة ومقبولة في ميادين أخرى. فقد عاينت في بعض من الولائم في مناطق بالمغرب أن بعض الأئمة يطول دعاءهم أو ينكمش حسب الدفع حيث يتزايد الحضور على بعضهم البعض في شكل يشبه "الغرامة" في الأعراس لكي يزيد الإمام في الدعاء ويفيض. ولهذا فان الإمام عادة ما يجتهد لمعرفة خفايا وخبايا (وهذه شيمة حسنة في هذه الحالة إذ تدل على يقظة الإمام واهتمامه برعيته التي هو مسؤول عنها) أفراد جماعته لكي يوظف ذلك في الدعاء أن اقتضت الضرورة. وحتى في بعض المقابر هناك من يعرض سلعة الدعاء للأموات مقابل دريهمات. لذا ينصح الزائر أن لا يسارع بالتفوه بكلمة "آمين" عندما يصادف هؤلاء قبل التأكد أنها ليست تجارة أو على الأقل أن يحسن التفاوض.
أما دلالة و دور الدعاء في المنظومة السياسية فلا يخفا. فالسياسيون الإسلاميون مثلا يتفانون في توظيف الدعاء في خرجاتهم العمومية وترى ذلك في شكل تضرعهم بيدين محكمة في شكل فنجان حريرة مع حني الرأس وإغلاق العينين إبداء للخشوع. في حين أن السياسيين الذين لا يستمدون شرعيتهم من الدين فقد يتصنعون الدعاء في المناسبات العمومية كما شاهدنا ذلك أثناء جناة المرحوم محمد جسوس، ومن علامات ذلك تراخي أيديهم إلى الحزام أو أسفل. ومن نافل القول أن الدعاء لملك البلاد واجب أخلاقي وديني حصري، ويتم ذلك كل جمعة وما شابهها من مناسبات. أما الدعاء لغير ملك البلاد فيطرح تساؤلات عن مغزاه ويعزل من قام بذلك كما حدث لمن ترحم من منبر الجمعة على فقيد العدل والإحسان عبد السلام ياسين.
وفي السنوات الخاليات، أيام ما يسمى بالوداديات، كان خطباء مساجد المغاربة في هولندا يدعون للملك الراحل الحسن الثاني وهو ما أدى إلى نقاش حاد حول الولاء السياسي للمساجد وأبعاد ذلك السيادية للدولة الهولندية. وتحت ضغط الرأي العام حذف الخطباء فقرة الدعاء للحكام نهائيا. بمعنى لاهم دعوا لملك البلد الأصلي ولا لملكة بلد الاستقبال عكس ما هو جار به في كل الكنائس حيث يتم الدعاء للحكام بصواب البصيرة والبشرية جمعاء بحسن العاقبة. وعندما تنازلت الملكة بياتريكس عن العرش لصالح ابنها وليام الكسندر نشر المجلس الإسلامي الوطني نداء يطلب فيه الخطباء المسلمين بالدعاء للعاهل الجديد بالهداية والتوفيق. لكن لا أحد يعرف إن كانت حياة لمن نودي.
فِي الحَياة العَامة تنسب إلى الدُعاء بعض الأشياء السلبية من قبيل استغلال بَعض الصِيغ المُقَدسة من طَرف بعض رجال الدين والتي غالبا ما تكون آيات قرآنية أو مقتبسة من القرآن و تستعمل كأدعية وتُحور لتُصبح رسائل سياسية وأيديولوجية محضة فيها إثارة وتحريض واضحين ضد المخالفين في الفكر أو العقيدة. ومن الذين نبهوا إلى هذا الجانب الكاتب أحمد عصيد في مقال نشر في جريدة هسبريس الإلكترونية تحت عنوان "ظاهرة البكاء في المسَاجد" سُلط فيه الضوء على الاستعمال السيئ للدعاء حيث ورد شرح مفصل للظاهرة (إقرأ أيضا ردود و مناقشة القراء).
ويدخل في هذا المجال مقالتا حسن الأشرف "جدل مغربي حول دعوة القرضاوي الحُجّاج للدعاء على إيران" و "الزمزمي يدعو إلى القُنوت في الصلوات ضد إيران و"حزب الله"". لمثل هذه الأسباب ورد في كتاب "دليل الإمام والخطيب والواعظ" أنه يُمنعُ إقامة الدعاء بِغرضِ الإِساءةِ أو إِيذاءِ مَن هُم عَلى عَقيدة أَو دِيَانَة أخرى. وهي توجيهات لم يثبت الواقع أنها استوعبت حق استيعابها.
وَفِي إِطَار مُصَغر يُمكن للدُعَاءِ أَن يُستَغل استِغلالاً سَيئًا من طرفِ الوَالدين تُجاه أبنائهم حيثُ قد يصير الدعاء لعنة يهدد به الأبناء والبنات أو بعبارة أخرى يتم ابتزازهم بما يعرف ب "سخط الوالدين أو رضاهم". وفي الدارجة المغربية نقول فلانة دعت عَلى ولدها عوض فلانة دعت مع ولدها. والدعاء على الأبناء يكون علامة على عقوق الوالدين وعدم الامتثال لهما. و يعتبر عُقوق الوالدين مِن الكبائر وعلى الخُصوص عُقوق الأُم، حيثُ أن "الجنة تحت أقدامِ الأمهات". لذلك نجد أن الجزع و الاحتياط من دعاء الأم أعظم من دعاء الأب عند غالبية المسلمين.
الحاصل أن للدعاء أبعاد شتى ومنافع تحصى ومع ذلك قد لا يسلم من سوء الاستعمال والدعاء فوق ذلك يعتبر من دون شك مُحددًا رئيسيًا لِمَدَى تَديُن الفردِ والجماعة.
* باحث وكاتب هولندي من أصل مغربي، ورئيس هيئة العناية الروحية الإسلامية في وزارة العدل الهولندي
هوامش:
1 Mansur Ahmad, Finest Prayers. Du'a from the Holy Qur'ân, Bang Printing, 2003.
2 ‘Formal prayer'.
3 Jean-Noël Ferrié, La religion de la vie quotidienne chez les marocains musulmans, Edition Karthala, 2004.
4 ‘La Prière Privée'.
5 قد يكون هذا من الحالات النادرة لكن سياق الموضوع قد يسمح لسرد هذه الوقائع. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة منعدمة في أرويا حسب علمي. وأضيف إلى أن الإمام لا يبادر بطلب المال وغالبا ما ينسق جمع المال أثناء هذه الولائم ما يسمى "المقدم" الذي لا ينسى حظه طبعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.