أن يُوَقِّع وزيرُ التربية الوطنية المغربي "إعلاناً للنوايا" أو "اتفاقَ شراكةٍ" مع نظيرهِ الفرنسي فانسون بيون يُدخل بموجِبهِ الباكالوريا الفرنسية إلى الثانويات العمومية المغربية؛ وذلكَ بعد "الحِرَاكِ الثََّقَافي" الذي أثارته الدعوة العيوشية لتدريج "لغة التدريس"، ذاكَ أمرٌ يستحق أن يُفَكَّر فيه باستِبارٍ مُمَحِّصٍ وتأنٍّ عميق؛ ولا سيما من لدن أولئك المرتابين دوماً، وبدون تحفُّظٍ، في "نظريةِ" المؤامرة. فالسيد رشيد بلمختار كانَ قد حضرَ ندوة مؤسسة زاكورة حول التعليم، والتي تداولت التوجه "الإصلاحي" المتضمِّن لثلاثية: تدريج لغة التدريس، والحد من المدارس القرآنية في التعليم الأولي، والتراجع عن تعريب المواد العلمية. وبعدها، بزمن يسير، تم استوزارُه على الشأن التعليمي، وهو المعروف بميلهِ الصريحِ ل "الفرنكفونية"، ليوقع أخيرا "الاتفاق" المذكور. ينسِفُ هذا "الاتفاقُ" مسارَ تعريب المواد العِلميةِ و لا يُصلِحُه، مثلما ينسفُ ما جَاء في "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وَيضع عملَ مؤسساتٍ مثل "المجلس الأعلى للتعليم" أو مؤسسات أخرى تنتظر الخروج إلى حيز الوجود مثل "أكاديمية محمد السادس للغة العربية" أو "المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية"، أمامَ واقعٍ يُصادر على اختيارِها، ويُرغِمُها على القبول ب"مُخطَّط؟" هو من صميمِ مسؤوليتِها، تفكيرا وتداولاً وتقريرا وتدبيرا. هذا فضلاً عن "اقترافٍ" آخر وقعَ فيه هذا "الاتفاقُ"، وهو "إغضاؤهُ" عما يقتضيه مثلُ هذا "الاختيار المصيري" من تشاورٍ موسعٍ مع مؤسسات علمية مثل "معهد الدراسات والأبحاث للتعريب" و مع أخرى نقابية ومَدنية مثل المركزيات النقابية التعليمية و جمعيات و منظمات التربية و التعليم بالمغرب؛ بل ربما كان هذا النزوعُ للانفرادِ بالقرار و تهميشِ مختلف الشركاء و فرض الأمر الواقعِ هو ما يُعلل، بعضَ التعليل، سِرَّ تعطيل وتعثيرِ خُروج مؤسسةٍ مُحكَّمَةٍ مثل "أكاديمية محمد السادس للغة العربية" التي صادق البرلمان المغربي بغرفتيه على مشروع إحداثها منذ عام 2003، وصدر القانون المنظم لها بالجريدة الرسمية في 17 يونيو 2004. وإذا كنا قد تناولنا في السابق- وفي غمرة مناقشةِ تلهيج لغة التدريس- دعوتي التدريج والحد من المدارس القرآنية في التعليم الأولي، فإن أمرَ التراجع عن تعريب المواد العلمية لم يَلفتِ الانتباهَ، ولم يُطرح عَلَناً للنقاش أو التفكير؛ بل صِيرَ به، بسرعةٍ و مُبَاغتةٍ، إلى طريق التنفيذ عبر توقيع "الاتفاق" المذكور، في إصرارٍ مشبوهٍ على تكريس سياسةِ التجريب المُرتجَل؛ المُغامِرَةِ بمُستَقبَلِ التعليمِ والمُقامِرَةِ بمَصائرِ الأجيال. وهنا يلزمنا أن نسجلَ نِقاطاً نخالُها رئيسةً من أجل فهمِ اختلالاتِ هذا "الاختيارِ" ومآزقه: أ إن مسار المجريات، يؤكد بما لا يدع ريباً في نفس مرتاب، أن بعض الجهات الفرنكفونية النافذة سائرةٌ في استتباع المغرب، وتوطيد امتيازات الفرنكفونية ببلادنا اقتصاديا واجتماعياً وثقافيا؛ وهذا رهانٌ يحمِل من الخطورةِ، على مُستقبل المغاربة وعلى سيادتِهم، ما لا يُدرِك الكثيرونَ حقيقتَهُ المُفزِعَةَ حقَّ الإدراك. و يكفي للوقوفِ على التوجه الاستتباعي المذكور أن نُسجِّلَ أن هذه الجهات تعرفُ التوجه العام للمغاربة نحو التمسكِ بلغاتهم وهويتهم وثقافتهم ودينهم، وهو ما يجعلها تُسابقُ عملَ المؤسساتِ –أو تضغطُ عليه- من أجل خلق أمرٍ واقعٍ وفرض تبعيةٍ مجتمعيةٍ لا يُمكن لاحقاً إلا التعاملُ معها والقبول بها أو، في أعسر الأحوالِ، التعايُشُ معها. ب- إن تلكم الجهات لا تأخذُ "الرأي العام" مأخذَ الجد، وإنما تسلكُ في التعامل معه مسالكَ المُهادنَةِ والمُداهَنَة؛ إذ كيفَ يُعقل أن يتِمَّ التوقيعُ على "الاتفاق" المذكور في الوقت الذي يُتخلَّى فيهِ عنِ الفرنسيةِ في عُقرِ دارها على مستوى البحث الأكاديمي العلمي والتقني، وكذا في الوقتِ الذي صدر فيه تقريرٌ عن المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية "INSEE" يفيد تراجع فرنسا أوروبيا في نسبة المواطنين المُكملين للسلك الثاني من التعليم الثانوي المتراوحة أعمارهم بين 25 و 64 بنسبة 72.5%، و هو ما يعتبر معدلا مرتفعا مقارنة مع دول غير فرنكفونية و تعتمد لغتها المحلية في التعليم بشكل كلي، كليتوانيا التي تصدرت الترتيب الأوروبي في التقرير السابق بنسبة 92.5% والتشيك بنسبة 92.5% . ؟؟؟ ثم كيف يُعقلُ، من ناحية أخرى، الإقدامُ على هذا "الإجراءِ" الانفرادي والمعزول في الوقت الذي تحتاج فيه المنظومةُ التعليمية ببلادنا إلى إصلاح شامل وجذري ينظرُ إليها في تعدد مداخلها؛ من تشييدِ بنيات تحتية، ومحاربةٍ لأسباب الهدر المدرسي، وإصلاح لتكوين الأساتذة والمعلمين، وتدقيق في الاختيارات البيداغوجية، وحسم في طرائق تدبير التعدد اللغوي، وإصلاح عميق لأوضاع رجال ونساء التعليم، وخلقِ تنميةٍ اقتصاديةٍ ذات صلةٍ جدليةٍ بمسارات التكوين والتعليم؛ وإعادة الاعتبار للتعليم والعلم والثقافة في الإعلام والمؤسسات المختلفة والفضاء العام للمجتمع المغربي...إلخ؟؟؟ ج- إن التشخيص الدقيقَ والصريح للوضعيةِ المترديةِ لمنظومتنا التعليمية، كما رصدَها الخطابُ الملكي ل 20 غشت 2013، والذي كان من إشاراتهِ وضعُ اليد على الاختلالات الناجمة عن تغيير لغة التدريس في المواد العلمية من العربية في المستوى الابتدائي والثانوي إلى بعض اللغات الأجنبية في التخصصات التقنية والتعليم العالي، هو تشخيصٌ شمولي و متكاملٌ، ومن ثم فهو أعمقُ من أن تُعالجَه قراراتٌ استسهاليةٌ وانفراديةٌ و متسرعةٌ تصدر عن هذا الوزير أو تلكَ الجهة؛ لا سيما وأن من بينِ الانتقاداتِ التي كان هذا الخطابُ المرجعي ذاتُهُ قد وجهها لعمل الحكومة آنئذٍ، انتِقادهُ غيابَ أيِّ إشراك أو تشاور مع الفاعلين المعنيين في اتخاذ القرار بخصوص مكونات أساسية من "البرنامج الاستعجالي". د- إن الاتفاق المذكور يزيدُ الوضع التعليمي انتكاسا وارتكاسا، بحيثُ يخلق تمايزاً وتفاوتاً، ولو كانَ مرحلياً، بين المدارس العمومية؛ وتحديدا بين تلك التي ستدخل في نسق الباكالوريا الدولية الفرنسية وبين سواها. كما يفرض هذا الاتفاقُ تبعيةً خطيرةً في المَشتَل الحيوي لبناءِ الانتماءِ الوطني والتكوينِ التربوي للمواطن، والذي يُجَِّسدُه التعليمُ، ومن ثم فإن هذا الاتفاقَ لا يُقدِّمُ حلاًّ بقدر ما يُمثّل تعميقاً للداءِ، إن لم نَقُل إنه يُشكِّل استغلالاً بَشِعًا لتردي المنظومة التعليمية الوطنية من أجل تحقيق أغراضٍ إيديولوجية وامتيازاتٍ اقتصادية جديدةٍ لفائدةِ الفرنكفونية و"مريديها"، وذلك على حساب الإصلاح التشاوري والجذري والشامل للمنظومة التعليمية بما يَضمنُ إنقاذَها ضمنَ المشترَك الوطني والهوياتي الذي يُمثل السيادةَ والاستقلاليةَ المغربيتين. ه- إن التراجعَ عن تعريبِ الموادِ العلميةِ دون إجراء تقييم نقدي وشمولي لمسار التعريبِ في المنظومة التعليميةِ المغربيةِ واختلالاتهِ، من أجل الخلوصِ إلى منظور إصلاحي دقيقٍ ذي صِلةٍ جدليةٍ بكل مكونات الإصلاح التعليميِّ، و بالخلاصات النفيسةِ ل"مِيثاق التربية والتكوين" كميثاقٍ شاركت في صياغته كلُّ الأطراف والأطياف المتدخلة في الشأن التعليمي؛ هذا التراجع هو تكريس لنفسِ الخلفيةِ التي حكمت الدعوةَ إلى تدريج لغة التدريس والحدِّ من المدارس القرآنية في التعليم الأولي، ومؤدى تلك الخلفيةِ الإيهامُ أن معضلةَ التعليم المغربي كامنةٌ في لغة التدريس، وهذا وهمٌ أبطلناهُ في مقالاتٍ سابقةٍ مثلما أَبْطَلَهُ قبلنَا وبعدَنا غَيرُنا. كما يصدر ذاك التراجعُ عن خلفيةٍ ثانيةٍ تعتبرُ اللغةَ العربيةَ قاصِرةً بشكلٍ ذاتي عن أن تكون لغة علمٍ وحداثةٍ وتقنية، وهذا أيضا ما فَنَّدنَاهُ مثلمَا فنَّدَهُ قبلنَا وبعدَنا غَيرُنا ( بخصوص إسهامِنا، راجع على جريدة "هسبريس" الإلكترونية مقالات: "اللغة العربيةُ بين آفتي التلهيج والتلتين"؛ " إضاءات حول تداخل اللغوي والديني في توصيات ندوة زاكورة"؛ "في نفع الجدل ودفع الدجل عن واقع اللغة العربية"(. على أن خروجَ هذَا الاتفاقِ "الفَرْنَسِي" للعَلَنِ يَفضَحُ مَكرَ توصياتِ ندوة مؤسسة زاكورة، حينَ تدعو إلى إحلالِ الإنجليزية مكانَ الفرنسيةِ في تعليمنا باعتبار لغةِ شكسبير لسانَ العلم والتقنية في عالم اليوم. و- إنَّ من مَكرِ الأقدار، التي يُصرِّفها خَيْرُ الماكرين، أن يتجاورَ زمنيا هذا الاتفاقُ مع موقفين فرنسيين يكشفانِ عن الرؤيَةِ الاستتباعية بل والاحتقارية التي تُعامِل وِفْقَها فرنسا -ذات النزوع الهيمني لا فرنسا فلسفة الأنوار- المغربَ والمغاربة. ويتعلق الأمر، في الموقف الأول، بتوجه عناصر من الأمن الفرنسي إلى بيت السفير المغربي بفرنسا لاستدعاء المدير العام لمراقبة التراب الوطني والمطالبة بالتحقيق معه بتهمة تعذيب معتقلين، وذلك في انتهاكٍ وإساءةٍ سافرَينِ للأعراف الديبلوماسية بين الدول. أما الموقفُ الثاني فيظهر في ما نقلهُ الممثل الإسباني -الممالئ للطرح الانفصالي في الصحراء المغربية- خافيير بارديم عن السفير الفرنسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية جيرار أرود، والذي صرح له عام 2011 قائلا: "إن المغرب مثل العشيقة التي ننامُ معها كل ليلةٍ، ولسنا بالضرورةِ مُغرمين بها ولكن يجِبُ الدفاعُ عنها"، وهو موقفٌ يعُبر، في صفاقة ووقاحة غير مسبوقين وبلغة كريهة وعاهرة، عن الرؤية الفرنسية الهيمنيةِ للمغرب. إنهما موقفان محرجان ل "الحزب الفرنكفوني" في المغرب، فيما يؤكدان ما ظلَّ يدعو إليهِ الوطنيون الأحرار من ضرورة التملك الدائم لمفاتيح الاستقلالية للمُحافَظَة على السيادة. أضف إلى ذلك أن هذين الموقفين قد انفجرا في لحظة تاريخيةٍ يُتَرجِمُ خلالها المغربُ هذه السيادةَ وتلكَ الاستقلالية بتوجه إفريقي عميق صارتْ تنحوه الديبلوماسية الملكية، وهو توجهٌ يستثمر فيه المغربُ رأسمالهُ التاريخي والحضاري والروحي في إفريقيا، ليؤكد، جهارا نهارا، أن إفريقيا لم تعدْ مُستعمَرة أو مُستَتْبَعة، وأنها لا تحتاجُ إلى الشفقة والمساعدة الإنسانية، بل تحتاج إلى الشراكة الاقتصادية النِّدية لتحقيقِ ما تصبو إليه من تنمية شاملة، كما أعلن عن ذلك الملكُ محمد السادس في خطابه التاريخي ذي النَّفَس التحريري في أبيذجان يوم الاثنين 24 فبراير2014. ز- إن الاتفاقَ الذي وقَّعَهُ وزير التربية الوطنيةِ، وبالنظر، إلى المعطيات السابقة، يَسيرُ في غير الاتجاه الذي تسير فيه الدبلوماسية المغربية في إفريقيا؛ ذلك أن هذه الدبلوماسية تركز على نقل الأنموذج التنموي المغربي إلى إفريقيا، و ضِمْنَهُ أُنموذج "التدين المعتدل والوسطي" الذي ترعاه مؤسسةٌ حضارية عريقة ومتميزة في الغرب الإسلامي هي "إمارة المؤمنين"؛ والتي تتأسس على مكونات الانتماء إلى البيت النبوي الشريف، وحماية الدين والملة، وضمان الأمن الروحي للمؤمنين. مكونات وجدت في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والسلوك الجنيدي معالمَها العَقدية والفقهية والروحية، وبها صارت تمثل أنموذجاً تدينياً قادراً على تحقيقِ المناعة و الوقايةِ من التطرف والغلو اللذين أصبحا يطوقان منطقة الساحل وشمال إفريقيا. وفي قلبِ تلكَ المكونات، تحتلُّ اللغة العربية، باعتبارهَا لغةَ الوحيِ والتعبد والعلوم الدينية، موقعاً رئيساً؛ كما تدل على ذلك مكانتُها قي "برنامج تكوين الأئمة" الذي طلبَت الاستفادةَ منهُ عدة دول افريقية عربية وغير عربية. وقد سبق لنا في كتاباتٍ سالفةٍ، أن بيَّنَّا جوهريةَ انفتاح العربيةِ على العلوم المختلفة، سواء منها الإنسانية أو الطبيعية، من أجل تحديث هذه اللغة، ومن ثم تحديث الوعي الديني بها ومن خلالها. وهو شرطٌ ضروري لحماية الفكر الديني من التقليدانية والتجمد الذي مآلهُ إلى التعصب والتشدد والانغلاق؛ خصوصاً وأن من ميزات "إمارة المؤمنين" أنها مؤسسةٌ تحققُ حماية الملة والأمن الروحي من خلال العمق الشرعي الديني والتجذر التاريخي والامتداد الروحي؛ وكذا من خلال الانفتاح على قيمِ العصر عبر الأخذ بالاجتهاد. وهو ما تَجلى، مثلا، في رعايتها للاجتهاد أثناء إقرار "مدونة الأسرة"، كما يتبدى أيضا في حمايتها لحرية التدين وضمانِها لحقوقِ سائرِ المؤمنين في ممارسة شعائرهم التعبدية، مسلمينَ كانوا أو يهودا أو مسيحيين. وهذا ما يفسِّرُ أيضا أن "إمارةَ المؤمنين"، ومن خلال هذه الرؤية الأصيلة و التأصيلية الاجتهادية، تشكِّل ضمانا رئيسا لإسلامٍ معتدلٍ ومنفتحٍ يجدُ موقعَهُ ضمن "المشروع الحداثي الديمقراطي" الذي يقوده عاهلُ البلادِ باعتبارهِ ملكَ البلادِ وأميرَ المؤمنين في ذات الآن. إن تحقيق الملاءمة المستديمة بين روح التدين وروح القيم التي يتأسس عليها "المشروعُ الحداثي الديموقراطي" تقتضي، فيما تقتضيه، مراعاةَ تلكَ العلاقةِ الوشيجةِ بين اللغةِ والفكر؛ والتي تعني، في سياقنا، مراعاةَ العلاقةِ العُضوية بين تطويرِ اللغةِ العربيةِ وتحديثها وبين تجديدِ الفكر الديني وحمايتهِ من الانغلاقِ والتطرف من أجل إقدارهِ الدائم على الاجتهاد. وهذا ما يجعلنا نرى أن إقصاءَ اللغةِ العربيةِ من تعليم المواد العلمية، بدلَ تطوير العلوم فيها وبها، سيُسهِمُ، على المديين المتوسط والبعيد، في تجميدِ تطويرها وتحديثها، ومن ثمَّ تسييدُ التقليدانيةِ وتجميدُ فكر الاجتهاد و التجديدِ في العربيةِ و بها، في الوقت الذي يُعَدُ هذا الفِكْرُ الضمانَ الأساس للحفاظِ على روح الاعتدال والوسطية والانفتاح التي ترعاها إمارةُ المؤمنين، تلك الروح التي تُشَكِّل الرأسمالَ الحقيقي للأُنموذجِ المغربي في التديُّن، والتي تُحقِّقُ الطمأنينةَ ل "الخائفينَ على الدين" و"الخائفينَ من الدين" على حد سواء؛ إذا استعرنا اصطلاحات وزيرِ الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد التوفيق في الدرس الافتتاحي للدروس الرمضانية الحسنية لعام 1433ه/2012م. على أن هذا البُعدَ العميقَ للأنموذج المغربي، هو الذي أزعجَ النزعةَ الهيمنية الفرنسية حين رأتْ ما يمكنُ أن يضطلعَ به المغربُ، بروافدهِ التاريخية والحضارية والروحية، من أدوارٍ مُتعدِّدَةِ المناحي في إفريقيا. وهو البعدُ نفسهُ الذي ينساهُ أو يتناساهُ "الحزبِ الفرنكفوني" في المغرب؛ وهو يُسارع بسطحيةٍ إلى فرنسةِ الباكالوريا المغربية، وتلبيةِ نزوع الاستتباع لدى أرباب تلكَ النزعة؛ في نخر ونسف، بيدٍ مغربية للأسفِ، لإمكانِ المزاوجةِ بين الانفتاح العلمي على العالم عبر الإنجليزيةِ، وبين تطويرِ البُعْدِ العلمي والتقني في اللغةِ العربيةِ بما هي مظهرٌ من مظاهر السيادة المغربية؛ وبما هي أداةٌ تواصليةٌ و فكريةٌ ذاتُ آثارٍ بعيدةٍ سياسياً وحضاريا وروحيا. لأجل هذا، ندعو كلَّ العقلاء، من علماء ومُثقفينَ وكتابٍ وخبراءَ وفنانين وغيورين وجهاتٍ معنيةٍ، إلى أن يتصدوا بحجة المعرفة و روح الوطنيةِ واحترام المؤسساتِ لهذا "الارتِجَالِ" الفَرْنَسِيِّ المُبيَّت؛ وأن يكشفوا عن مثالب هذا النزوع الاستتباعي الذي يتقدم في ثوب "إصلاح". كما ندعو مؤسساتِنا التأطيرية السياسية والنقابية والجمعوية إلى أن تلتفتَ، بجديةٍ و وطنيةٍ و ابتكاريةٍ، إلى إشكاليةِ إصلاح التعليم، آملينَ من بعضها تركيزَ الانتباهِ على قضايا الوطن المصيرية، بدل أن تَعتقِلَ جهدَها وتُفرِغَهُ في صراعات ذاتية خارجية وداخلية؛ ليستْ، في الحقيقةِ، سوى سكراتِ احتضار قاسيةٍ لهذه المؤسساتِ ولتاريخِها.