في تصريح أثار الكثير من الجدل، أعلن السيد عزيز غالي، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أن موقفه الشخصي، وموقف الجمعية بخصوص قضية الصحراء المغربية، هو "موقف الأممالمتحدة". هذا التصريح، رغم بساطته الظاهرية، يكشف عن تناقض عميق في الخطاب الذي يتبناه التيار اليساري بالمغرب. تناقض أم استراتيجية؟ عُرف عزيز غالي بكونه شخصية نقدية تسلط الضوء على اختلالات عديدة في السياسات العمومية. لا يكاد يخلو حوار له من انتقادات لاذعة تُوجه للدولة حول قضايا تتعلق بالصحة، الحريات العامة، والعدالة الاجتماعية. في كل هذه الملفات، يبدو غالي وكأنه صاحب رؤية مستقلة، لا يخشى التعبير عن موقفه الشخصي، ولا يتردد في طرح رؤى تختلف عن الإجماع الدولي إذا اقتضى الأمر. لكن، عندما يتعلق الأمر بقضية الصحراء المغربية، يتحول هذا الخطاب النقدي الجريء إلى ولاء مطلق لقرارات الأممالمتحدة. لماذا اختار غالي، الذي ينتقد كل شيء تقريبًا، أن يلتزم الصمت النقدي أمام هذا الملف الحساس؟ لماذا قرر أن موقفه، وموقف الجمعية، لا يمكن أن يكون سوى امتدادًا لموقف الأممالمتحدة؟ هذا التحول يثير أسئلة جوهرية حول طبيعة المواقف التي يتبناها اليسار المغربي. إذا كانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تعتبر نفسها مستقلة، فما الذي يمنعها من تبني موقف مستقل بشأن قضية الصحراء؟ ولماذا تبدو هذه القضية تحديدًا "محظورة" على النقاش النقدي داخل الجمعية؟ هذا التناقض يُبرز أزمة اليسار المغربي مع قضايا السيادة الوطنية. ففي حين يتبنى خطابًا ناقدًا للدولة في معظم الملفات، يبدو وكأنه يُسلم إرادته في قضية الصحراء إلى المنظمات الدولية. هذا الموقف لا يعكس فقط ازدواجية في الخطاب، بل يكشف أيضًا عن انعدام الجرأة في مواجهة القضايا الكبرى التي تمس السيادة الوطنية. الأممالمتحدة.. ملاذ عقائدي أم قيد أيديولوجي؟ ما يجعل اليسار يبدو كعقيدة هو تلك الصرامة في الدفاع عن أفكاره، إلى درجة شيطنة كل من يخالفه الرأي. أصبح المجتمع اليساري مجتمعًا مغلقًا، يعيش في إطار من الأيديولوجيا التي ترفض النقد والمراجعة، بل وترى في كل من يحاول المساءلة تهديدًا وجوديًا. للوهلة الأولى، يبدو موقف غالي وكأنه يعكس انسجامًا مع ما يسمى ب"الشرعية الدولية". لكن عند التمعن، يتبين أن هذا الموقف ليس سوى تبرير خجول لعجز اليسار عن تبني مواقف مستقلة ونوعًا من الاستسلام الفكري. الأممالمتحدة، تلك المنظمة التي تُعتبر رمزًا للعالمية، باتت بالنسبة لليسار مرجعية عقائدية، حتى وإن فقدت مصداقيتها على أكثر من مستوى. فمن المعروف أن الأممالمتحدة ليست دائمًا نموذجًا للعدالة أو الديمقراطية. فمجلس الأمن، الذي يتحكم في مصير قضايا حساسة كالصحراء، يُدار بواسطة مصالح الدول الكبرى، حيث يمكن لفيتو دولة واحدة أن ينسف قرارات إجماع دول العالم. إذا كان غالي يدرك هذه الحقائق، فكيف يمكنه أن يبرر خضوع موقف الجمعية لإرادة مؤسسة غير ديمقراطية؟ وكيف يمكنه أن يطالب الدولة المغربية بالإصلاحات الديمقراطية، بينما هو نفسه يعلن ولاءه لقرارات مجلس الأمن؟ اليسار.. تناقض بين الحداثة والجمود يدعي اليسار الحديث أنه حامل لواء التقدم والحداثة، إلا أن ممارساته تكشف عن جمود فكري صارخ. فالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، الذي صيغ في عام 1948، يُعامل كأنه نص مقدس لا يقبل النقاش أو المراجعة، رغم مرور عقود طويلة وتحول السياقات العالمية والاجتماعية. هذا التمسك غير النقدي يعكس تناقضًا واضحًا: كيف يمكن لتيار يدعي الحداثة أن يُجمّد الفكر عند نصوص وقيم وُضعت في سياق زمني مختلف تمامًا؟ بدلًا من التكيف مع التغيرات وتطوير مفاهيم جديدة تلائم الحاضر، يكتفي اليسار بإعادة إنتاج مفاهيم "كونية" لا تأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي والاجتماعي. هذا الجمود يجعل اليسار حبيس شعارات قديمة، يرددها كأنها حقائق مطلقة، بعيدًا عن أي تجديد فكري حقيقي. اليسار بين الاستلاب والاستقواء بالأممالمتحدة هذا التماهي مع مواقف الأممالمتحدة يثير أسئلة عديدة حول استقلالية اليسار. هل نحن أمام تيار يستخدم الأممالمتحدة كوسيلة للاستقواء بالخارج؟ أم أننا أمام حالة من الاستلاب الفكري، حيث يجد اليسار راحته في تبني مواقف الآخرين بدلًا من صياغة رؤية وطنية واضحة؟ في الحالة المغربية، تبدو الأمور أكثر وضوحًا. الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بتبنيها مواقف الأممالمتحدة، تتجاهل الواقع المحلي وتعتمد خطابًا قد يُفسر كوسيلة ضغط على الدولة. إذا كان اليسار يريد أن يكون قوة تغيير حقيقية، فعليه أن يتخلى عن هذا الاستقواء الانتهازي بالمنظمات الدولية وأن يبدأ في صياغة مواقف تعكس واقع المجتمع المغربي وتطلعاته. وهذه الطريقة في المعارضة أقل ما يمكن أن يُقال عليها أنها "جبانة"، فإذا كان المهداوي يواجه الدولة مستقويا بحصانة شعبوية، فصديقه الغالي يستقوي عليها عبر "حصانة الأممالمتحدة"، و"المكسي بحوايج الناس عريان".