نطرح في مستهل هذه المحاولة سؤالا يبدو في تقديرنا ملحا مهما يكن بديهيا، حينما ينخرط ساكن البادية في السياسة و حتى في الاحتجاج و سعيه للتغيير، هل يمارس قناعته و إرادته في التغيير؟ أم انه كائنمفعول به لقضاء أغراض و إرادة غيره؟ تحدث بعض الدارسين منهم المغاربة و الأجانب دائما عن البدوي او القروي أو تجاوزا غير المدني كونه يعيش دوما على هامش السياسة رغم انه الاكثر تأثرا بتحولاتها، و يحضرني هنا على سبيل المثال قول الباحث الأمريكي جون واتربوري "إن دور سكان البادية ثانوي في الحياة السياسية المغربية"، فهل مثل هذه الاحكام ثابتة أم متأثرة بإيديولوجية تقدمها و تحرفها لغاية في نفس يعقوب؟ أجدني و الحال هكذا مضطرا للإدلاء ببعض الارتسامات حول أحداث توالت و نعاينها يوما عن يوم، و تحولات تعاقبت ببوادي الجنوب الشرقي للمغرب، خاصة ببوادي إقليم طاطا، و هي ملاحظات حول حضور السياسة و جدواها كما تمارس اليوم بمنطقة أقا و باديتها، لا ندعي بها طبعا علما أو تطاولا على مجال له أهله و مختصيه و العارفين بشؤونه، بل شجون نشتركها مع أناس تربطنا بهم آصرة القرابة و نتقاسم معهم حبات الرمل التي ندوسها كل يوم بأقدامنا، كما التاريخ و الجغرافيا و المصير المشترك. يطرح شباب اليوم بهذه القرى كما بغيرها سيلا من الاسئلة، و تخيم على ذاكرته العديد من علامات الاستفهام، لا تزال جميعها بدون جواب مقنع، و كثير منها تفرعت عنها علامات استفهام جزئية اخرى، بل إن العجز عن تقديم الاجابات المقنعة و تغاضي الطرف عنها في حالة ما كان ذلك متاحا، قادنا إلى تفكك علاقات كانت متجذرة منذ الأزل اجتماعيا و اخلاقيا قبل أن تكون رابطا مصلحيا نسجت خيوطه لحظة حسم صراع سياسي أو تنافس انتخابي. من هذه الاشكالات، لماذا لا يكتب النجاح المأمول لمحاولات التغيير و الاصلاح من داخل المؤسسات المنتخبة المحلية؟ و لماذا في أحسن الأحوال لا تتجاوز حدود ما لا يشفي الغليل، أو انجاز مشاريع من إملاء جهات تتناقض مصالحها مع مصالح العامة؟ من يستحق أن نهبه الثقة في التسيير و قيادة أوراش الاصلاح؟ ألم نخضع للتجريب و الاختبار كل الفئات باختلاف مستواها العلمي و الثقافي و قدراتها في التدبير و انتماءاتها الاجتماعية و الايديولوجية والقبلية و الفئوية، و كانت حصيلتها متشابهة، حتى أصبح لسان الحال لدينا يقول أن الكل واحد، يصلحون للواجهة و لا يفقهون في التدبير؟ لماذا لا يكتب الفلاح لمحاولات الانتفاض الشعبي التي لا تعدو مستوى تعبيرات و شعارات في الشارع سرعان من يختفي مفعولها؟ من يتحمل المسؤولية في وأد هذه الاحتجاجات في مهدها و من الضالعين في تلك المؤامرة إن جاز القول؟ ما الذي، أو من الذي يعيق نواة النخبة عندنا و ليس النخبة– لأن النخبة بالبادية لم تتشكل بعد و تتعرض دائما للاستنزاف- من القيام بدورها كطليعة في التغيير؟ تلكم هي أسئلة شباب القرية اليوم و غيرها كثير. في محاولة لتقريب الإجابة نستعين بخلاصات توصل إليها بعض الباحثين في شؤون البادية المغربية، منهم صاحب فكرة الدور الثانوي للبدوي المغربي في السياسة جون واتربوري، الذي يضيف في سياق مناقشته للملكية و النخبة السياسية المغربية "أن البدويون يخضعون للسلطة الروحية للسلطان"، و في نفس المنحى سار ريمي لوفو حينما حسم بأن الفلاح المغربي (يقصد به الانسان القروي) صار حاميا للعرش، اما بيير فيرمورين فيفسر الموضوع بوضوح أكبر، و للتعبير عن التحكم في إرادة الانسان القروي يقول "إن القصر يسخر البادية المؤيدة لمحاربة المدينة المعارضة". ما قيمة هذه المواضيع و ما المستفاد من هذا الكلام؟ قد نحسم و نقتنع بما جاء في الخلاصات المقدمة بوجود إرادة لتبقى الصورة النمطية التي تكونت منذ الازل عن إبن البادية، و أثبت تاريخ المغرب حقيقتها بما لا يدع مجالا للشك، أي ذلك القروي التابع و الخاضع لإملاءات السلطة بمختلف درجاتها و تراتبيتها، و ليس ذاك الثائر المنتفض ضد تسلطها. إرادة تعمل بشكل حثيت على انتاج لوبيات (قوى الضغط و المصالح) متناسقة مع طبيعة المرحلة، و بالمقابل تشتغل من اجل إعاقة جهد نواة النخبة المحلية حتى لا تتحول إلى نخبة فاعلة و مؤثرة بجهدها و تحظى بالتأييد الشعبي، و شل محاولات نشوء قيادات و زعامات منبثقة من رحم المجتمع و لها امتداد شعبي تؤثر بعلاقاتها الروحية، و كذلك بأفكارها و قناعاتها المتجددة بل و بقدرتها على الانجاز، سواء كانت قيادات في تدبير الشأن المحلي أو لحركات احتجاجية شعبية أو للمعطلين، أو كذلك لمنظمات المجتمع المدني و تنسيقياته،ثم الهيئات الحقوقية موضة العصر. من يخطط لذلك و كيف؟ ليس خاف على الجميع من يحارب نواة النخبة و يكد لتمتين قاعدةاللوبيات، بل معروف و وجبتالإشارة بوضوح و بلا خجل، هي الإدارات المركزية و من ينوب عنها في التدبير جهويا و إقليميا ثم محليا، اما كيف فهو ملموس ايضا، اساسه صناعة إشاعات و معطيات، و اتهامات مزورة و أحكام قيمة جاهزة لا اساس لها من الصحة، لكن يمكن للإنسان القروي لسداجته و بساطته و قوة تقديره للإدارة و المؤسسات أن يتلقاها بقناعة كأنها حقيقة ثابتة بسهولة، و بأقصى سرعة تنتشر كانتشار النار في الهشيم، فعلى سبيل المثال كان كل من استهوته الميولات الايديولوجية اليسارية او تعاطف معها ينعت و لا يزال بالملحد و احيانا بالزنديق و الكافر، بينما كان المنخرط في الجماعات الاسلامية أو المتعاطف معها يوصف و لا يزال بالتحريفي للدين و الخرافي أو الإرهابي، أما الذي يقف في نفس المسافة بينهما فلم يسلم بدوره من حقه في نسج صورة ملطخة غير صورته الأصل، و صور على أنه من مساخيط النظام و السلطان و ناشري الاكاذيب. ما النتيجة؟ إشاعات مغرضة تؤدي الجميع طبعا، هذا و ذاك، فكان أولى نتائجها إبعاد العامة عن ما اسميناه نواة النخبة التي يشكلها طبعا الموظفون و الاطر و المتعلمون و من في مقامهم، و فك الارتباط بين همومها و هموم المجتمع الذي تنتمي إليه، و كلما ابتعدت و انغرست في شؤونها الخاصة تصبح مكروهة و منفورا منها إلى أن تصبح منزوعة الثقة، بعدما كانت الآمال عليها معقودة و التفاؤل بأدائها كبيرا، و الحال في نموذج قرى اقا كعينة أن نواة النخبة هذه توصف في كثير من الأحيان بكونها تقول و لا تفعل، و تخرب و لا تصلح، تملك الخطاب و لا تفقه في التدبير، منغلقة في زمن اصبح فيه الانفتاح وسيلةللانجاز. لقد كانت الحصيلة في الأخير نشوء جيل من اليائسين و المتدمرين تتسع قاعدته يوما بعد يوم، انتج مزيدا من الصراعات و النزاعات حول جزئيات و اشياء تافهة، و مزيدا من تفكك البنية الاجتماعية و انهيار تماسكها، تلك الفرصة هي التي كانت منتظرة ليتسع بالمقابل نفوذ اللوبي و داعميه، فباضمحلال المجتمع القبلي دائما يتراجع دور القروي في السلطة كما قال واتربويري. دروس و عبر التاريخ إن الانفصام بين نواة النخبة و المجتمع و الحد من قدرتها على التأثير محليا بمناطق الجنوب الشرقي المغربي تبدو حسب اجتهادنا المتواضع ثابتا تاريخيا، و صار لزاما علينا لتأكيد ذلك ان نتقدم بأمثلة من تاريخ المنطقة التي اتخذناها مثالا و نموذجا و هي قرى أقا و باديتها، ألم يكن الشيخ المتصوف الجزولي الشاذلي محمد إبن مبارك الأقاوي فاعلا رئيسيا في نشأة حركة الجهاد السعدي من سوس في القرن 16م؟ أكيد ان الجواب سيكون نعم، لكن بعدما تأسست الدولة و استقامت صار إنسا منسيا، و أحسن وصف آنذاك لحال بلدته ورد عند الحسن الوزان في كتاب وصف إفريقيا إذ يقول "أن سكان أقا كانوا يعيشون داهية الفقر و لا أفقر من هؤلاء القوم الذين يعيشون فقط على قطف تمارهم"، أو لم يكن حفيده عبد الله بن مبارك أحد رجالات البلاط السعدي في عهد السلطان المنصور الذهبي؟ أكيد بلا، لكن انخرط في نخبة البلاط و بقدر ما قوي عضد الدولة و استحكمت تراجعت اهمية القرية التي كان أهلها سببا في نشأة تلك الدولة، أو لم تكن قيادات جيش التحرير و عناصرها ينتمي بعضهم إلى هذه المناطق، لكن بعدما تم تفكيكه بعد الاستقلال اصبحوا في نظر العامة اشخاصا مرعبين؟ ثم اخيرا ألم تكن قيادة أيت أمريبط و كذلك قيادتي ايت حربيل (تمنارت) و داوبلال رموزا لسلطة الدولة تعتمدها في التهدئة و الاستقرار بالجنوب منذ منتصف القرن 19 عشر إلى منتصف القرن العشرين، و بعد الاستقلال تم ابعادها و غالبية رموزها عن هموم المجتمع و انقلاب موازين القوى لصالح لوبيات و رموز سلطوية جديدة؟ ما العمل ؟ ما العمل إذن على سبيل رد الاعتبار و معرفة ما المشكل في قضايا السياسة و الاحتجاج و التغيير بالمجتمع القروي؟ هل يمضي البدوي في نفس الدوامة و ينادي اللاحقون بالقطيعة مع مرحلة السابقين؟ فالكثير من شباب اليوم و الحماس يغمرهم يتهمون سابقيهم بانهم لم يفعلوا اي شيء في السياسة و في الاحتجاج و التغيير، و يغرقون في خلافات سميت تجاوزا بالايديولوجية، و اتهامات كل طرف للآخر انه من يتحمل المسؤولية في الاخفاقات ، أنه استغل كل ما نظم من حراك و فعل سياسي لصالحه و لصالح تنظيمه، و حينما نتأمل الواقع بهدوء سنجد ان معظم تلك الاتهامات خاطئة و باطلة سيثبتها المستقبل و سنندم على وقت مضى في مناقشة الفراغ. لماذا لا نحسم جميعا ان المجتمع القروي و السياسة بشكلها الحالي في بلادنا طريقان متوازيان؟ و في المنطق الرياضي الطريقان المتوازيان لا يلتقيان، ألم تنخرط تلة من الشباب في تنظيمات جمعوية و نقابية و سياسية و تأكد في الاخير ان المصلحة الظرفية هي التي جمعتهم لينفصلوا فيما بعد و يغرقوا في تصفية الحسابات، و الحالات كثيرة في بادية اقا؟ و بالمقابل نرى تجمعات تتسع قاعدتها و منسجمة دائما علما أن لا هاجس إيديولوجي أو سياسي أو توجه نقابي يجمعها، لكن فكرة ما و مشروع ما وحدها. أن توحدنا فكرة أو أفكار أساسها مرتبط بالهموم المشتركة التي يقدرها المجال، و اساليب تجاوز من يدبرون لزرع اللوبيات و تفكيك نواة النخبة و ابعاد تفكيرها عن الشأن العام، هو ما يبدو لي على الشباب في المجتمع القروي ان ينخرط في مداولته بكل قواه، فالنخبة يفرزها الواقع المشترك، و تحركها المصلحة العامة، و سلاحها الفكر و الاقناع حيث تقترح و لا تنفذ الإملاءات، للانخراط في مجتمع شريك في التدبير، لتستجيب سياسيا للمطالب التي عبرت عنها حركات الاحتجاج الطامحةللتغيير، و إن زاغ النقاش عن الواقعية فذاك هو الطريق المسلوك ليتمكن اللوبي و يستحكم، فاللوبي يصنع و تهمه المصلحة الخاصة التي يتقاسمها مع شركائه، و وسيلته في ذلك المال و الإغراء، بذلك فهو مستعد دائما لتنفيذ الإملاءات ليكون طريقا معبدة لفرض التسلط حتى لا يستجاب سياسيا لمطالب الحركات الاحتجاجية المناشدة للتغيير.