يزداد مصير العالم قتامة، ويزداد معه الأمل انحسارًا، وتزداد بإزاء كل ذلك إسرائيل طغيانًا. كلها أمشاج تزعج البشرية اليوم على هذا الكوكب الأرضي المتفجر، وتدفعه إلى الاصطلاء بعذابات الحروب التي لا تنتهي، ومضايق الأوبئة والزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية الأخرى. قبل أيام، حلت ذكرى 7 أكتوبر التي تؤرخ لأخطر عملية للمقاومة الفلسطينية عبر تاريخها النضالي المستميت، من أجل التحرر والانعتاق من الاحتلال الكياني المغتصب، حيث بصمت عملية "طوفان الأقصى"، بأياديها العريضة والممتدة في العقل والوجدان العربيين، بأطراف خيوطها المتشابكة، ومجاهلها الداكنة المقترة، وجهًا مشرقًا جديدًا للرفض وإعادة القضية إلى الواجهة، وتصحيح مسار طويل مليء بالذل والجحود والخذلان والتكاسل. إن وعي الشعوب العربية بهذا التاريخ المحفور، بمداد الدماء الزكية التي سقطت خلال الغزو الصهيوأمريكي على غزة والضفة الغربية وبعدهما لبنان، يحايث في العمق انكشاف نظريات المؤامرة، وانجلاء أكاذيب الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان والحداثة التنويرية، وما إليها من مصطلحات التلفيق والاستغفال. ويصح بهذا الاعتبار أن تكون ذكرى 7 أكتوبر المجيد درسًا بليغًا في الجغرافيا السياسية وعلومها واستراتيجياتها، بقضها وقضيضها. فقد أعادت لحمة التضامن الجماهيري العربي والإسلامي والعالمي، جماهيريًّا وشعبيًّا، وأسرجت للضمائر الحرة الحية مراكب الإنسانية والحرية والكرامة ومقاومة الظلم (الاحتلال)، بكل الوسائل المشروعة التي يكفلها القانون الدولي والعدالة الإنسانية. إن صحوة الضمير العالمي، بعد حدث 7 أكتوبر، وما لحقه من مقتلة في غزة، لا يجد المتتبع لسيرورتها المتلاحقة، وطيلة عام كامل ونيف، سوى توصيفها بما لا يمكن لمدركاتنا الحسية والبصرية والنفسية أن تستنبطه من قواميس "التقتيل" و"سفك الدماء" و"الإبادة" و"الحرق" و"التدمير" و"الفتك". وهي صحوة عرّت حقيقة إسرائيل والغرب، وما يخفيانه من قبح وشناعة وجنون غير مسبوق في تاريخ الحروب البشرية على الإطلاق. في ال (11) من شهر أكتوبر الجاري، تابعتُ بإمعان أطوار ندوة وطنية عقدت في مدينة مراكش تحت عنوان "القضية الفلسطينية والقضاء الدولي"، والتي نظمها كل من التنسيقية المغربية "أطباء من أجل فلسطين"، وتنسيقية "محاميات ومحامين لدعم فلسطين"، و"الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع". شارك في مقاربة موضوعها المذكور الأساتذة النقيب عبد الرحيم الجامعي، والدكتور يوسف البحيري، وأحمد ويحمان، وعبد الصمد فتحي، وقد أثاروا جميعهم مشكلة عزلة الأنظمة العربية بين شعوبها وأخلاق التاريخ. بل إن بعض المتدخلين أسرف في تصريف لبوسات التدجين الإمبريالي المتحكم في سلطة العالم، ضمن هذه المشكلة، التي تتساوق وجذور النفاق النظامي العربي، عبر حقبات زمنية لم تنقطع فيها مضايق الخيانة والاصطفاف خلف الأعداء وتسليم مفاتيح العروش والسلطنات لأولياء النعم وقارونات السلب والنهب واتفاقيات الذل والهوان. ولا أدل على هذه الصيرورات المتواصلة من الردة الأخلاقية في النفوس العربية من استحضار البدايات الأولى من أزمة الخلافة في دار السقيفة، إلى موقعة صفين الشهيرة، وبعدها انقلابات الخلافات الأموية والعباسية، إلى هجومات التتار الدموية، وسقوط الخلافة بالأندلس، ومعارك الصليبيين ضد الثغور الإسلامية، وبعدها الاستعمارات الحديثة، والخريطة ممتدة لم تنته بعد. فهل استرخصت الأنظمة الشمولية العربية استحقاقات تاريخ بنائها القائم على تفتيت النسيج الاجتماعي والسياسي، وانكمشت في الحدود الدنيا لتدبيرها المراحل السياسية التي كرست انحطاطًا عقلانيًّا لا مثيل له في البشاعة والضعة وسوء الوبال؟ يذهب الفيلسوف السياسي الفرنسي ألكسيس دي توكفيل إلى أن الديمقراطية تحقق ما لا تستطيع حتى أكثر الحكومات مهارة تحقيقه؛ فهي تنشر في جميع أنحاء المجتمع نشاطًا لا يعرف الكلل، وقوة وفيرة، وطاقة لا تنبعث إلا بها، ويمكن للديمقراطية تحقيق المعجزات إذا ما توافر لها الشيء اليسير من الظروف المواتية. لكن الديمقراطية كشفت عورات الأنظمة، وجعلتها مهزوزة أمام شعوبها التي تحكمها، على الرغم من تأخر التأثيرات الجانبية الأخرى التي أهرقت ما تبقى من مصداقية الطغمة، وتبعيتها للنظام العولمي الآمر، مجردة من أي أدوات لتعزيز مكانتها الاعتبارية وشرعيتها في الاقتدار بمسؤولية السهر على كرامة شعوبها وأمنها وسلامة أراضيها. وفي بؤرة هذه الوضعية الكارثية الضجرة، وعلى ضوء ما يمارس الآن في الشرق الأوسط من التقتيل والإبادة والتمييز العنصري والتهجير القسري، في الأراضي الفلسطينيةالمحتلةولبنان، تزداد وضعيات هذه الأنظمة قتامة وبؤسًا، بعد أن استباحت الصهيوأمريكية ما فاق كل تصور، مما تجفل منه الضمائر، وترفضه النفوس، وتنبذه الأعراف الإنسانية. فأضحت هذه الأنظمة وبالًا ثقيلًا على شعوبها وتاريخها، ومغرما مفارقًا لكوابيس استمراريتها.