رغم قساوة المسارات المعرفية في المجتمعات المتخلفة، فإنها تفرض استحضار المعرفة من خلال شهادة يراد لها أن تكون إضافة فيما يجد في مجالها، بأن تصل كرسالة إلى اكتشاف فكرة أصيلة تكون خلاصة لاطلاع على ما عداها، وليست مجرد تركيب لأطاريح متناقضة، يُقرِّب بينها الدكتور لينتج رأيًا موفقًا بين ما تناقض، أو تفاديًا لغياب الرؤية، يختار الانحياز لأطروحة دعمًا لها من خلال استعراض أصولها ومراجعها، أو إعادتها بأسلوب مغاير. بفعل العادات الأكاديمية، يجد نفسه مثقلًا بمراجع شتى، يستحضر جملها وعباراتها دعمًا لما اختاره المشرف، اتفاقًا أو توجيهًا. وبفعل هذا التكرار، ظهرت نماذج في جامعات مختلفة، تقيس تقنيًا المستندات والمراجع، وتصر على ألا يتجاوز حضورها 10 في المائة، والباقي من عندية الباحث. وبذلك تتقلص الصفحات ويتم استحضار الأطروحة المجترحة لجديدها وإضافاتها وطرق صياغتها لها. بذلك يتحرر المضيف من التكرار والعرض، ويخوض معترك الفكر باحثًا عن ذاته الفكرية بما يصل إليه من أفكار، وهو ما يسمح له بتجديد منهجه في التفكير. فالمناهج إذا ما تطابقت في المعرفة، خلصت في أغلبها للنتائج نفسها، فكان التكرار استمرارا، يستمرئ به اللاحق السابق، وبذلك يتم أخذ الفكر غيلة، وتصير الرسالة العليا مكررة، حتى إن انتمى صاحبها لتيار الحداثة، التي تفقد جدتها وتصير تقليدًا أو تكرارًا لما هو سائد ومنتشر في أطاريح غيرها. وبذلك تتراجع رهانات البحوث في الدكتوراه لتصير محكومة بضرورة المهنة أكثر من الإضافة الفكرية. ينضاف لذلك أمور غريبة، كأن تجد دراسة عربية لكتاب عربي يكتفي صاحبها بعرض ما قدمه الكاتب المعاصر له، والذي يكون بمثابة مشروع لم يكتمل، أو هو في طريقه للاكتمال حقيقة أو افتراضًا. كما قد تصادف دراسات كل مراجعها عربية، وتجد الاسم أضخم من الفكرة، التي بساطتها لا تفرض حتى نسبتها لصاحبها، إما لشدة انتشارها أو حتى اعتيادها، وكأن البحث والمعرفة توقفا عنده، ولم يُضف إليهما أي جديد. وبذلك تنتصر دكتوراه المهنة على دكتوراه الأطروحة، بدوافع أخرى ليست معرفية حتمًا ولا منهجية، بل حصيلة توافق حزبي لإسناد مهمة وسد فراغ يُخشى أن يملأه الغير من الخصوم. وبذلك نكتشف الكثير من الأعمال الجادة في الدكتوراه التي توقفت في منتصف الطريق، أو غضت البصر عن هذه الشهادة، وتعاطت الفكر نشرًا وتأليفًا وحققت نجاحات مبهرة، ناسية تلك الصراعات الأكاديمية المتحصنة ببعضها والمكتفية ببعضها، دفعًا لكل قلم تجاوزها وأعرض عن إشرافها، متعاليًا عن تلك الحاجة التي حولت الفكرة كشهادة للإبداع والإضافة إلى شهادة تنشد مهنة التدريس الجامعي، الذي يكاد يفقد إشراقاته القديمة رغم الكثير من الطاقات الطامحة للعمل به.