لا يمكن تصور حياة سياسية أو ممارسة ديمقراطية بدون برلمان، يستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة عن طريق آلية الانتخابات الحرة والنزيهة، كما لا يمكن الاختلاف بشأن الأدوار المحورية التي تضطلع بها هذه المؤسسة الدستورية الحيوية في تحريك عجلة الحياة السياسية والديمقراطية والدبلوماسية، سواء عبر مدخل "التشريع"، أو بوابة "مراقبة العمل الحكومي"، أو آلية "تقييم السياسات العمومية"، أو عبر منفذ "الدبلوماسية البرلمانية الموازية" الداعمة للتوجهات الاستراتيجية للدولة، والخادمة للقضايا المصيرية للأمة. وهذه الأدوار والتدخلات المتعددة المستويات تقتضي سياسة تواصلية موازية، وانفتاحا فعالا على المحيط المجتمعي والمؤسسي، بشكل يدفع في اتجاه التعريف بهذه المؤسسة وأهميتها في البناء الديمقراطي الحداثي، وجعل المواطنات والمواطنين في صلب العمل البرلماني، في سياق بنية سوسيوثقافية بات يطبعها النفور من العمل السياسي، والعزوف عن الانتخابات، وفقدان الثقة في الفاعلين السياسيين، والمؤسسات التمثيلية ومنها مؤسسة البرلمان. وفي هذا الإطار، لا يمكن إلا تثمين ما تنهجه المؤسسة البرلمانية من انفتاح وتواصل فعال متعدد الزوايا، وما تعبر عنه من إرادة في مد جسور التشارك والتعاون مع عدد من المؤسسات العمومية، بشكل يخدم جاذبية المؤسسة وإشعاعها الوطني. وهو ما جسدته، على سبيل المثال لا الحصر، اتفاقية الشراكة والتعاون الموقعة بتاريخ 21 أبريل 2021 بين مجلس النواب في شخص رئيسه الأسبق السيد الحبيب المالكي، ومؤسسة أرشيف المغرب في شخص مديرها الأسبق السيد جامع بيضا، والرامية إلى "تسهيل وتشجيع التعاون في مجال حفظ الذاكرة البرلمانية والتوثيق والأرشفة وتبادل الخبرات والمعارف". وما عبر عنه معرض الصور والوثائق الذي نظم غضون شهر يناير الماضي، برحاب البرلمان، بشراكة مع أرشيف المغرب، حول موضوع "ستون سنة من العمل البرلماني"، وهو المعرض الذي استهدف منظموه التأريخ لذاكرة البرلمان المغربي بمجلسيه، منذ قيام أول برلمان منتخب في المملكة قبل 60 سنة. لكن، بالمقابل، يسجل حسب تقديرنا، قصور أو تقصير فيما يتعلق بانفتاح البرلمان على حقل التعليم المدرسي، إذا ما استثنينا بعض الزيارات الاستطلاعية المدرسية. وانفتاح المؤسسة التشريعية على المؤسسات التعليمية لا تفرضه فقط غايات الانفتاح ومقاصد التواصل مع المحيط، بل هو علاوة على ذلك "مدخل" لا محيد عنه لجعل الناشئة في صلب مؤسسة البرلمان، كمؤسسة دستورية تشكل عصب الحياة السياسية والديمقراطية، وكقناة حقيقية يمكن أن تساهم، إلى جانب ما تقدمه المناهج والبرامج الدراسية، في التربية على القيم الوطنية والديمقراطية، ما يساعد على ترسيخ ثقافة احترام القانون والمؤسسات داخل الوسط المدرسي، ويدفع في اتجاه تعزيز الثقة في "الاختيار الديمقراطي" الذي يعد إلى جانب "الدين الإسلامي السمح" و"الوحدة الوطنية متعددة الروافد" و"الملكية الدستورية" من الثوابت الجامعة للأمة. واقع الممارسة يظهر ما بات يطبع البيئة المدرسية من تفشٍ للسلوك اللامدني، ومن تصرفات اندفاعية بعضها يدخل في خانة الجريمة كالعنف والغش المدرسيين والتحرش الجنسي، ومن تراجعات خطيرة في قيم المواطنة وما يرتبط بها من مسؤولية والتزام ومواظبة وجدية، ومن اتساع لدائرة العبث والتهور وانعدام المسؤولية، وانتهاك للقوانين والأنظمة الداخلية، ومن ثغرات تعتري الثقافة السياسية لشرائح واسعة من المتعلمات والمتعلمين، ما يجعلهم منقطعين تماما عن محيطهم السياسي والمؤسسي. كل هذه اعتبارات من ضمن أخرى، تفرض انخراطا فاعلا للمؤسسات العمومية كل فيما يتعلق بها، في دعم ما تعيشه المدرسة العمومية من دينامية إصلاحية وتحديثية، والنهوض بواقع التربية الوطنية والديمقراطية والحقوقية داخل الفضاءات المدرسية. وذلك من باب الإسهام المواطن في تربية وتنشئة مواطنين متشبعين بقيم المسؤولية والالتزام والجدية والانضباط، قادرين على الانخراط في محيطهم المجتمعي والسياسي والمؤسسي والثقافي بوعي وإدراك. وفي هذا الصدد، نرى أن مؤسسة البرلمان لها من الوضع الاعتباري، ومن الإمكانيات والوسائل، ما يجعلها شريكا حقيقيا في التربية على القيم السياسية والديمقراطية والحقوقية في الوسط المدرسي، ومساهما فعليا فيما تتطلع إليه المدرسة العمومية من جودة وريادة. وندعو عبر هذا المقال المصالح المعنية بالتواصل في البرلمان بمجلسيه إلى توجيه البوصلة نحو المجتمع المدرسي، حيث يمكن الاحتضان والرعاية المبكرة لمن سيحمل في المستقبل صفة "الوزير" و"البرلماني" و"المسؤول الحزبي" و"المناضل الحقوقي"، و"الطبيب" و"المهندس" و"الأستاذ" و"الشرطي" و"العسكري" و"المقاول" و"العامل". ومن باب الاقتراح، يمكن في هذا الإطار التفكير في الانخراط في اتفاقيات شراكة وتعاون مع الفاعلين في الحقل المدرسي، على غرار الشراكة المبرمة بين "أرشيف المغرب" والمديرية الإقليمية للتعليم بالمحمدية"، والتي وضعت ضمن أهدافها تعزيز آليات التعاون في قضايا الأرشيف والتراث والتربية على المواطنة. على أمل أن تتوفر الظروف الموضوعية التي من شأنها الدفع في اتجاه توقيع شراكة مماثلة، تعبد الطريق أمام المؤسسة البرلمانية لتكون مساهما وشريكا في ما يتطلع إليه جميع المغاربة، من تحول مدرسي حقيقي يعيد للمدرسة العمومية مكانتها ورمزيتها، كقاطرة للارتقاء الاجتماعي، ومنصة حقيقية للتربية الوطنية وصناعة الأمل والحياة.