في ظل التحديات الاقتصادية العالمية والضغوط المتزايدة على الاقتصادات الناشئة، يسعى المغرب لتعزيز مكانته كمحور رئيسي في التجارة الدولية من خلال استغلال موقعه الجغرافي الاستراتيجي وتنفيذ سياسات اقتصادية طموحة ومتقدمة. يظهر التقرير السنوي للبنك الدولي "Business Ready 2024" تقدم المغرب في بعض المجالات الرئيسية المتعلقة بالبيئة التجارية، على الرغم من التحديات العديدة التي لا تزال قائمة. يُسلط هذا التقرير الضوء على الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة المغربية لتوفير بيئة مواتية للأعمال والاستثمار، من خلال دعم ريادة الأعمال وتسهيل دخول الشركات إلى الأسواق الجديدة. يُظهر التقرير أن المغرب قد حقق أداءً إيجابيًا في مجالات دخول السوق، وتحديد الموقع التجاري، وتوفير الخدمات الأساسية. يُعزى هذا الأداء إلى السياسات الفعالة المتعلقة بتوفير المعلومات حول التصاريح العمرانية واستخدام الأراضي، بالإضافة إلى عدم وجود قيود كبيرة على دخول الشركات الأجنبية، وإلى الممارسات التنظيمية الجيدة التي تُسهم في ضمان الجودة والفعالية في توصيل الكهرباء. هذه الإنجازات تعكس طموح المغرب في خلق بيئة استثمارية تتسم بالجاذبية وتدعم التكامل الاقتصادي الدولي، وتعزز نموه من خلال تطوير البنية التحتية بما يتماشى مع المعايير الدولية، مما يسهم في استقطاب الاستثمارات الأجنبية المستدامة. الإصلاحات التنظيمية لتهيئة بيئة ملائمة للتجارة الدولية يعتبر تبسيط إجراءات تسجيل المقاولات من أهم الإنجازات التي حققها المغرب في هذا السياق، حيث تمثل هذه الإصلاحات خطوة جوهرية نحو تعزيز جاذبية المغرب للاستثمار الأجنبي. لم يعد هناك قيود كبيرة تتعلق بالملكية أو المشاركة في المقاولات، مما يعكس توجهاً نحو إزالة الحواجز البيروقراطية واعتماد ممارسات تعزز الشفافية وسهولة الوصول إلى المعلومات اللازمة لتأسيس الشركات. هذه الإجراءات لا تقتصر على جذب الاستثمار فحسب، بل تمثل أيضًا دعامة أساسية لتوسيع حضور المقاولات الأجنبية في أسواق شمال إفريقيا وأوروبا. هذه الإصلاحات جاءت معززة بتطوير المناطق الصناعية والتجارية، مما يسهم في تحويل المغرب إلى مركز إقليمي للتجارة والابتكار. تتمتع المملكة بنظام تنظيمي يدعم بشكل كبير التسجيل المبسط للشركات، والذي يتيح تأسيس المقاولات الناشئة بسهولة وبدون تعقيدات إدارية. يشمل ذلك تبسيط استمارات التسجيل وتوفير خدمات إلكترونية، مما يسمح للمستثمرين، سواء كانوا محليين أو أجانب، بإتمام إجراءات التسجيل بكفاءة وبدون الحاجة إلى وسطاء. علاوة على ذلك، فإن المغرب يولي أهمية كبرى لتعزيز الشفافية في بيئة الأعمال من خلال إتاحة المعلومات المتعلقة بالإجراءات والتكاليف والوثائق المطلوبة بشكل علني. يعزز هذا النهج ثقة المستثمرين ويعزز من تنافسية بيئة الأعمال المغربية، حيث تسعى المملكة لتصبح بيئة الأعمال الأكثر جذبًا في المنطقة. إلى جانب ذلك، تعمل الحكومة على تسريع التحول الرقمي لكافة الإجراءات الإدارية المتعلقة بالأعمال، مما يسهم في تحسين الكفاءة الإدارية وتقليل الوقت والتكلفة. الرقمنة ليست فقط عنصراً لتعزيز الفعالية، بل تمثل أيضًا جزءاً من استراتيجية شاملة للحد من الفساد وتعزيز الشفافية، مما يساهم في جعل المغرب أكثر جاذبية للاستثمار. التجارة الدولية والبنية التحتية اللوجستية بالإضافة إلى الإصلاحات التنظيمية، شهد المغرب تحسينات كبيرة في مجالات البنية التحتية اللوجستية والخدمات العامة، وهي عناصر جوهرية لدعم التجارة الدولية. فقد تم تحسين جودة وكفاءة الخدمات اللوجستية مثل الكهرباء والمياه، حيث تم تبني ممارسات تهدف إلى ضمان التوصيل السريع والفعال للطاقة، وهو ما يعد أمرًا بالغ الأهمية لعمليات المقاولات الصناعية والتجارية. كما أظهرت التحسينات في البنية التحتية للنقل، بما في ذلك تطوير الموانئ والمطارات، أن المغرب يسعى جاهداً ليصبح مركزاً لوجستياً إقليمياً يربط بين إفريقيا وأوروبا. يمثل تطوير ميناء طنجة المتوسط مثالاً بارزاً على هذه الجهود، حيث يُعد من أكبر الموانئ في إفريقيا ويساهم بشكل كبير في تعزيز القدرات التصديرية للمغرب واستقطاب الاستثمارات الدولية. تُعتبر هذه الموانئ بمثابة شريان حيوي للتجارة الدولية، مما يتيح للمغرب لعب دور محوري في تسهيل حركة البضائع بين القارات، وتحقيق تكامل اقتصادي إقليمي وعالمي. رغم هذه التحسينات، لا تزال هناك تحديات ينبغي التغلب عليها، خاصة في مجالات تسوية المنازعات التجارية والنظام الضريبي. يظهر التقرير أن هناك حاجة ملحة لتعزيز الإطار القانوني الخاص بالإفلاس وتطوير الضرائب البيئية، حيث يمكن لهذه المجالات أن تؤثر على قدرة الشركات على الوصول إلى حلول فعالة للمنازعات أو الحصول على الدعم المطلوب لتبني ممارسات بيئية محسنة. تحسين هذا الإطار يُعد خطوة حيوية لتشجيع المزيد من الشركات على الاستثمار والعمل في المغرب بثقة. التحديات المستقبلية وفرص التطوير رغم الإنجازات التي تحققت، يظل النظام القانوني لتسوية المنازعات وإجراءات الإفلاس من الجوانب التي تحتاج إلى تعزيزات إضافية. يحتاج النظام القضائي التجاري إلى تحديث شامل ليكون أكثر فعالية وسرعة، وذلك من خلال تبني آليات بديلة لتسوية المنازعات مثل التحكيم والوساطة، وأيضًا من خلال إنشاء سجل عام لممارسي الإفلاس لضمان الشفافية والفعالية في تسوية المنازعات. ينبغي أيضًا تعزيز برامج التدريب والتطوير المستمر للقضاة والمحامين لضمان الكفاءة العالية في التعامل مع القضايا التجارية المعقدة. يتطلب التحول نحو التنمية المستدامة تطوير نظام ضريبي يشمل ضرائب بيئية فعالة لتحفيز الشركات على تقليل بصمتها الكربونية واعتماد ممارسات صديقة للبيئة. في إطار رؤية المغرب 2030، يأتي تحسين النظام الضريبي البيئي كجزء من جهود تعزيز الطاقة النظيفة وتنمية القطاعات الاقتصادية المستدامة، مثل السياحة البيئية والزراعة العضوية. هذه الجهود ضرورية لمواءمة الاقتصاد المغربي مع الاتجاهات العالمية نحو الاستدامة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. إلى جانب ذلك، يتعين على الحكومة تعزيز الدعم الموجه للشركات الصغيرة والمتوسطة لتبني التكنولوجيا المتقدمة في عملياتها. يمكن أن يتخذ هذا الدعم أشكالاً متعددة، مثل المنح والتسهيلات الضريبية، أو تقديم حوافز مالية للشركات التي تتبنى تقنيات تقلل من تأثيرها البيئي. إن تطوير برامج تدريبية تركز على الابتكار والاستدامة سيُسهم في إعداد جيل من رواد الأعمال القادرين على قيادة التحول نحو اقتصاد أخضر ومستدام. ختامًا: نظرة متفائلة لمستقبل التجارة الدولية في المغرب بفضل موقعه الجغرافي المتميز بين إفريقيا وأوروبا، والسياسات الاقتصادية الطموحة، يُعد المغرب في وضع فريد يمكنه من أن يصبح مركزًا إقليميًا للتجارة الدولية. إن الإصلاحات التنظيمية والتحسينات في البنية التحتية اللوجستية تشكل أساسًا راسخًا لتحقيق هذا الهدف. ومع استمرار العمل على تحسين النظام القانوني وتسوية المنازعات والضرائب البيئية، سيُعزز المغرب من قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية، مما سيسهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام وخلق فرص عمل جديدة. التقرير يُبرز بوضوح أن المغرب يسير على الطريق الصحيح نحو تحسين بيئة الأعمال، إلا أن هذا المسار يتطلب استمرارية في الإصلاح والابتكار. تعزيز الكفاءة الإدارية، دعم الابتكار، وتبني ممارسات صديقة للبيئة هي عوامل رئيسية لضمان تحقيق النجاح الاقتصادي. يجب على المغرب مواصلة تطوير بنيته القانونية والإدارية واللوجستية، مع التركيز على خلق بيئة تشجع الاستثمار والابتكار، وتحقيق التكامل الاقتصادي المستدام على المستويين الإقليمي والدولي.