إذا كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية تؤثر على أغلب مناطق العالم التي تتابعها باهتمام، فإنها ظلت تاريخيا غير مؤثرة ولا مهمة بالنسبة إلى دول إفريقيا بسبب الثبات النسبي للسياسة الأمريكية تجاه هذه القارة؛ بغض النظر عن هوية الرئيس الأمريكي أو الحزب صاحب الأغلبية في الكونغرس. ومنذ إدارة الرئيس الأسبق الديمقراطي بيل كلينتون، تبنت الولاياتالمتحدة سياسة إفريقية تعتمد على الدخول في برامج تنموية والحديث الطموح عن الديمقراطية وحقوق الإنسان مع التوسع في الشراكات الأمنية والدفاعية، في ظل تزايد خطر الجماعات المتطرفة بأغلب مناطق القارة. وظلت هذه السياسة الأمريكية مستقرة، رغم تعاقب الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على الحكم. وفي تحليل نشره موقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن قال كاميرون هدسون، باحث كبير في برنامج إفريقيا بالمركز، إن الأمور تغيرت كثيرا بالنسبة إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية الحالية في ظل سلسلة الصدمات الأمريكية والعالمية؛ بدءا من جائحة فيروس كورونا المستجد، وحتى الاحتجاجات على مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد شرطي أمريكي أبيض، مرورا بالحرب في أوكرانياوغزة. في الوقت نفسه فإن الاستقطاب السياسي العميق والمتزايد في الولاياتالمتحدة نسف حتى نقاط التوافق الحزبي التقليدية في السياسة الأمريكية؛ ومنها السياسة تجاه إفريقيا. لذلك، فطبيعة معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة يوم 5 نونبر المقبل ونتيجتها ستحدد بلا شك النظرة إلى واشنطن، وستؤثر على مجموعة كبيرة من القضايا؛ ليس فقط التي تهم إفريقيا بشكل مباشر، وإنما التي ستؤثر على مصداقية الولاياتالمتحدة لدى القارة خلال السنوات المقبلة. ورغم ذلك، فإنه من المؤكد أن الأفارقة اليوم غير مشغولين كثيرا بما قد تعنيه أية إدارة أمريكية جديدة بالنسبة لهم؛ فبعد تجربة الرئيس الأسبق باراك أوباما لم يعد الأفارقة يعتقدون أن أي شخص في البيت الأبيض قد يؤثر بشكل ملموس على تحسين أحوالهم، إذ تبددت بسرعة فكرة أن وجود رئيس أمريكي من أصول إفريقية يمكن أن يزيد بطريقة أو بأخرى الاهتمام بالقارة، حيث لم تبتعد إدارة أوباما كثيرا عن السياسة التقليدية الأمريكية تجاه إفريقيا، والتي تقوم على الحديث كثيرا عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ في حين تسعى إلى تحقيق مصالح الأمن القومي الأمريكي التي كثيرا ما كانت تتعارض مع هذه القيم المعلنة. وعلى الرغم من وعود إدارة الرئيس الحالي جو بايدن بمنح الدول الإفريقية نصيب أكبر في عمليات صناعة القرار بشأن القضايا العالمية وفي المؤسسات الدولية، فإنها لم تحقق شيئا من هذا على أرض الواقع. فما زالت قارة إفريقيا لا تشغل مقعدا دائما في مجلس الأمن، بعد مرور عامين على وعد الإدارة الأمريكية بمنحها هذا المقعد؛ في حين أن التحركات الدولية التي تقودها الولاياتالمتحدة للتعامل مع مشكلة التغير المناخي والتمويل التنموي وتنافس القوى العالمية ما زالت تصب في صالح عالم الشمال. ولم يؤد إفراط إدارة بايدن في الوعود لإفريقيا دون الوفاء بها إلا إلى تعزيز الاعتقاد بأن واشنطن شريك غير جدير بالثقة، بل وربما منافق. في المقابل، لم يفعل المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب ولا منافسته نائب الرئيس والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، اللذان تجاهلا إفريقيا على مدار حملتيهما، أي شيء لإعطاء الأفارقة الانطباع بأن إدارتيهما ستكون مختلفة بشكل ملحوظ عن الإدارات السابقة. في ظل هذه الظروف، تنشط الدول الإفريقية لتنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية والأمنية بعيدا عن واشنطن على مدى العقد الماضي؛ مما يتعارض أحيانا مع المصالح الأمريكية. وقد أصبحت الصين، حاليا، أكبر شريك تجاري واستثماري لإفريقيا. كما أصبحت دول، مثل روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة، شركاء أمنيين مفضلين للدول الإفريقية التي تبحث عن مساعدات عسكرية غير مشروطة. هذا التحوط ضد عدم موثوقية الولاياتالمتحدة لا يجعل نتيجة أية انتخابات رئاسية أقل أهمية لإفريقيا فحسب؛ بل يجعل أيضا من الصعب على أية إدارة قادمة تعميق العلاقات مع هذه القارة. والحقيقة هي أنه لا يمكن تصور وجود اختلاف كبير في السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا إذا فازت هاريس أو ترامب؛ فبشكل عام يمكن أن تتوقع إفريقيا استمرار النهج الأساسي لواشنطن تجاهها، من خلال عدد محدود من المبادرات التنموية والإنسانية الأساسية؛ لكن دون تغيير حقيقي في الممارسات الأمريكية ولا الطريقة التي ترتب بها إفريقيا في قائمة الأولويات العالمية للولايات المتحدة. ليس هذا فحسب؛ بل إن احتمال وصول مرشح ثان من أصول إفريقية وهو كامالا هاريس إلى رئاسة الولاياتالمتحدة لم يثر اهتمام الأفارقة كما حدث عندما كان أوباما يخوض السباق الرئاسي، بعد أن تعلموا أنه لا يجب توقع الكثير من واشنطن مهما كانت أصول الرئيس. ورغم ذلك، فمن المرجح إبقاء إدارة هاريس على استراتيجية بايدن تجاه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الصادرة عام 2022، والتي تستهدف رفع صوت إفريقيا في المؤسسات العالمية وفي صنع القرار الأمريكي بشأن المسائل السياسية التي تؤثر على القارة بشكل مباشر. وقد رأت هاريس بنفسها أهمية هذا الهدف عندما سافرت إلى غانا وتنزانيا وزامبيا في مارس 2023 "لتسليط الضوء على الإبداع الاستثنائي والإبداع والديناميكية في القارة وتعزيزها"ّ؛ لكن هاريس وقعت أيضا في الفخ السهل بمحاولة تصوير المشكلات المستمرة التي تواجهها إفريقيا باعتبارها مسؤولية الصين بصورة أو بأخرى، وتقديم الولاياتالمتحدة باعتبارها قوة خيرية تسعى من أجل خير وصالح الدول الإفريقية. وهذا النهج الأمريكي لا يؤدي إلا إلى زيادة انصراف دول القارة عن واشنطن والشك في نواياها. في الوقت نفسه فإن "مبدأ الظل"، الذي أطلقه ترامب تحت اسم مشروع 2025، يستعين بعناصر كاملة من استراتيجية بايدن ذاتها تجاه إفريقيا، حيث يزعم، على سبيل المثال، أن "النمو السكاني الهائل في إفريقيا، والاحتياطيات الكبيرة من المعادن المعتمدة على الصناعة، والقرب من طرق الشحن البحري الرئيسية، وقوتها الدبلوماسية الجماعية تضمن الأهمية العالمية للقارة". وهذا يشير إلى أن فريق ترامب يدرك على الأقل الأهمية الاستراتيجية لإفريقيا على المدى الطويل، تماما كما فعل بايدن. والأمر الأكثر أهمية هو أن فريق ترامب ربما ينظر إلى إفريقيا باعتبارها قوة مهمة وليست مجرد مكون أصغر في الصراع الجيوسياسي الأكبر للولايات المتحدة مع الصين أو روسيا، كما فعل خلال فترة ولايته الأولى في منصبه؛ مما أثار استياء العديد من دول القارة. وسوف يكون الاختبار الأكبر لإدارة ترامب الثانية المحتملة هو ما إذا كان قادرا على مواصلة التعبير عن القيمة المتأصلة لإفريقيا بالنسبة للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة أو ما إذا كان سيعود إلى أنواع التعبيرات غير المكترثة التي ميزت ولايته الأولى في المنصب. ورغم ذلك يمكن أن يكون الفارق الأكبر بشكل عام بين هاريس وترامب بالنسبة لإفريقيا في الشكل أكثر من المضمون. فما زالت اللغة المهينة التي كان ترامب يستخدمها في رئاسته السابقة تثير سخط الكثير من الأفارقة؛ ولكن بعضهم يرى الآن أن هذا تعبير صريح عن المكانة المتواضعة التي تحتلها إفريقيا لدى صناع القرار في واشنطن. وبقدر قسوة هذه الحقيقة، فإن التعبير عنها بوضوح يحدد بوضوح مستوى التوقعات التي يمكن للقادة الأفارقة انتظارها من واشنطن، ويحملهم مسؤولية تحقيق مصالح شعوبهم بعيدا عن واشنطن؛ وهو ما يتضح بالفعل من دخولهم في شراكات أمنية واقتصادية ومالية مع دول عديدة. أيضا فإنه رغم أن نهج ترامب الذي يتعامل مع أغلب الأمور بمنطق البيع والشراء قد يبدو مقززا لكثيرين في مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، فإن بعض القادة الأفارقة قد يعتبرونه طريقة أكثر مباشرة وشفافية في إدارة العلاقات، ويعكس طريقة إدارة الكثيرين منهم للعلاقات مع شركائهم الآخرين. كما أن نهج ترامب، الذي يركز على الجوانب الاقتصادية والمصالح المباشرة، يمكن أن يفتح الباب أمام شكل من أشكال العلاقة بين الأنداد؛ وهو تحديدا ما يقول كثير من القادة الأفارقة إنهم يسعون إليه في علاقاتهم مع العالم. أخيرا، فإن الحكومة الأمريكية المقبلة سيكون عليها إدراك حقيقة أن علاقاتها مع الدول الإفريقية تأثرت سلبا بدعمها غير المشروط لإسرائيل في حربها ضد غزة ولبنان، في الوقت الذي يتزايد فيه تعاطف الدول الإفريقية مع القضية الفلسطينية. كما أن الدول الإفريقية تنظر بعدم ارتياح إلى الدعم الأمريكي المستمر لأوكرانيا في حربها ضد روسيا؛ وهي الحرب التي أدى استمرارها إلى معاناة الكثير من شعوب القارة من ارتفاع أسعار العديد من السلع الأساسية في السوق العالمية. معنى ذلك أن الدول الإفريقية لا تتوقع الكثير من انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ في حين قد يحتاج الرئيس الجديد إلى بذل جهد أكبر لترميم صورة واشنطن لدى هذه الدول.