عود على بدء: في موضوع: "الحمل الحكومي.. متى الوضع؟" تم التأكيد على ضرورة تقويم نهج الاستوزار الحالي، الذي تحضر فيه – خصوصاً على مستوى الأحزاب والمواطنين – الأسماء بدل القضايا. قبل سؤال: من يتولى الحقيبة؟ هناك سؤال أهم: ما مضمونها؟ إذا حددتَ القضية من جميع جوانبها، سهل أن تختار لها من هو كفء لها. الفشل في التحديد الدقيق للقضية، أو تحديدها كما اتفق، يفضيان إلى فشلها، مهما كانت كفاءة المستوزَر. وحينما تُحدد القضية التدبيرية الحكومية، ويُختار لها الشخص المناسب فعلاً، ننشئ لها ثقافة تشاركية من خلال الترويج لها إعلامياً، ووصولاً إلى تشبع المواطنين بها، وبسقف الانتظارات منها. هذا محفز تشاركي مهم للعمل الوزاري، اعتباراً لحضور حاجيات المواطنين الحقيقية. لقد بينت التجارب أن تنزيل العمل الوزاري من الأعلى فقط يقابل بلا مبالاة المواطن؛ وقد يخلق رد فعل عنيفاً ناتجاً عن سوء الفهم. يسري هذا على جميع القطاعات، لتتشكل في النهاية حكومة القضايا وليس حكومة الأشخاص. الصحة، قضية بيضاء: بعد أن قاربت الحلقةُ الأولى قضايا: الغلاء، القضاء، التعليم، تشتغل اليوم على الصحة، بتوسيع مفهومها وتحديد الانتظارات منها. لم يعد مفهوم الصحة المواطنية محصوراً، كما كان، في تشخيص المرض وتقديم العلاج؛ بل غدا مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالتنمية الشاملة؛ إذ صحة الوطن، منظوراً إليه كبدن بشري واحد، شرط أساسي في تنميته. وتكتسي الصحة بهذا بعداً سياسياً يستدعي تدخل كل الفرقاء السياسيين، وليس الأطقم البيضاء فقط. وبتعبير آخر، تجد حكومة القضايا نفسها معنية، أساساً وبدءاً، بتشبيك كل القضايا، لما بينها من علاقات تفاعلية: قضية التعليم، مثلاً، لا بد أن تكون من ضمن تفاصيلها سلامة الجسم التعليمي البدنية؛ تلاميذ، أساتذة وإدارة؛ وإلا تعطلت كل الاشتغالات الديداكتيكية، كما حصل في وباء "كوفيد". قضية العدالة تستحضر بدورها شرط الصحة البدنية لأطقمها وللمرتفقين؛ وإلا غدت الترسانة القانونية غير ذات جدوى وموضوع. لا جلسة تنعقد بقضاة ومتقاضين مرضى. في قضية الشغل، أيضاً، يطالعنا شرط الصحة للمشغلين والمشتغلين؛ ولا إنتاج مع انتفائه. هكذا بالنسبة لجميع القضايا، وفي النهاية – إذا اشتغل قطاع الصحة كما يجب – ينتصب أمامنا الوطن بدناً معافى، مفتول العضلات؛ وفي هذا الوطن تبرعم بحق الوطنية. طبعاً، كحال الدنيا كلها، يتواصل ظهور العلل الفردية؛ لكن هذا لا يعني شيئاً إذا كان البدن العام معافى. وعليه، فقضية الصحة بهذا المفهوم الواسع، ركن ومحرك أساسي في التنمية الشاملة؛ حيث لا يحضر الأطباء وبقية الأطقم الصحية إلا كعقول وسواعد تسهر على سلامة المحرك وزيادة مردوديته. في الأنظمة الشيوعية، مثلاً، ظلت الأطقم الطبية مجرد رفقاء، ضمن رفقاء آخرين؛ يجمعهم الولاء للحزب والوطن. في الطب العسكري، ومهما ارتقت رتبة الطبيب، فهو في النهاية – خصوصاً في معارك الوطن – جندي كغيره، يجتهد في الحفاظ على قوة رجال الميدان. أما المثال الحي – بل الأسطوري – فقد قدمه ويقدمه أطباء غزة؛ خصوصاً حينما كان على بعضهم أن يُميت أبوته وزوجيته، وهو ينظر إلى ابنه الميت أو زوجته، ليهتم بجرحى على قيد الحياة. وقد قُصفوا وسُجنوا وعُذبوا، كسائر الغزيين. من أين تلوثت الوزرة البيضاء؟ من اقتصار التكوين الجامعي الطبي على الأدبيات الثلاث: التشخيص، المرض، ثم الدواء. لا أعتقد أن في برامج كليات الطب تكوينات تخص الفن (الطبي) من حيث فهمه على أنه قطب الرحى في التنمية؛ وأن من أبجدياته الأولى معرفة لماذا يجب أن يكون المواطن سليماً، قبل الجواب السهل: لكي لا يتألم. أن تتألم البرامج المحددة للتنمية بمرض المواطن الفرد، هذا هو الأهم. لم يقل أحدٌ لطلبة كليات الطب أن بعض الوطن يقف كل صباح بأبواب المستعجلات والمستشفيات والمصحات. هم حدثوهم، وعبر سبع سنوات – اختصروها حالياً إلى ستة – عن أمراض البدن والدواء، بالتفصيل الممل؛ ولم يلزموهم إلا بالحفظ؛ ولا يُختبرون إلا فيه. من يسهر على صحة الوطن من أجل نجاعة التنمية؟ أكيد ليس طلبتنا الذين لم يرتقِ بهم أحد إلى هذا البعد؛ ويبقى المرض في نظرهم مرض زيد أو عمر من الناس؛ ولا يحتاج إلا إلى تشخيص فردي. "ومرضنا ما عندو باس". هناك استثناءات، طبعاً، لكن حضور الوطن والتنمية في عملهم ناتج عن تشبع فردي بقيم المواطنة، ولا يرتد إلى تكوين رسمي. وقد عاينا جميعاً، زمن كوفيد، كيف تحولت الأطقم الطبية كلها – عبر العالم – إلى أطباء للأوطان، من خلال تمنيع الأبدان. ورحم الله من قضى وهو يرتدي وزرته النظيفة؛ وما أكثرهم/هن. لا أسهل من حل معضلة طلبة كلية الطب: مهما تكن نوايا وزارة الصحة، وهي تشرِّع ستَّ سنوات بدل السبعة (الناقصة تربوياً كما بينت)، فإنها لم تحِد عن التكوين العلمي الطبي؛ الذي يُخرج أطباء للأبدان، يمكن أن يشتغلوا حيثما سكن البشر في العالم، وبجوارهم المرض. تكوين أطباء يتهممون قضية الصحة في الوطن، وعلاقاتها التفاعلية بقضايا حكومة القضايا التنموية – كما بينت – لا يحصل إلا اتفاقاً أو صدفة، بالنسبة لبعض النبهاء فقط، وليس تخطيطاً استراتيجياً ينسحب على جميع الخريجين. إذا كانت النية هي كون الست سنوات غير مقبولة في دول الاستقطاب؛ مما يلزم بالاشتغال في الوطن، فقد خاب المسعى. فكما لا إكراه في الدين، لا إكراه في الطب؛ فمن يشتغل تحت أي ضغط – عدا الوطنية الصادقة – لا ينتظر منه غير الضعف والفشل. بدل إكراه طلبة الطب، ربوهم وحفزوهم على تفضيل الاشتغال في الوطن. وما ذكرت مثال أطباء غزة اعتباطاً. ومن هنا، أقترح على السيد وزير الصحة أن يوسع من فهمه لقضية ارتباط الصحة بالتنمية، وليس بالمستشفيات فقط. وإذا حصل هذا منه، أو أُلزم به من الجهات العليا، فسيقتنع بكون التراجع عن تقليص زمن التكوين ضروري لتجويده تربوياً. فلتُخصَّص السنة السابعة لهذا الجانب من التكوين؛ وبعدها لن تكون وزارتكم بحاجة إلى أي قوة ضاغطة، حتى يلتزم الخريجون بخريطة الوطن، أولاً. سيدي الوزير: لقد جعلت من قضية الصحة قضية كليات الطب فقط؛ وما هي كذلك. إنها قضية وطن يقف يومياً بأبواب المستشفيات، ينتظر من يجري الدم في عروقه، وليس من يصب الماء البارد على رأسه، ويصرفه مبتلاً ويائساً.