"هناك من الجامعات من يتعلم الناس إما خارجها أو بعد التخرج منها" – مارك توين. اقترن تفشي النازية بشيوع الوثوقية والبلاهة الناتجتين أساسا عن أزمة عميقة للنظام الجامعي. ذهب بيار بورديو إلى أن التضخم المتسارع للنزعة الشعبوية الذي حدث في ألمانيا في بدايات القرن الماضي وانتهى بها في قبضة النازية؛ لم يكن ليكتسح الطبقات الوسطى الألمانية لولا دخول نظامها الجامعي في أزمة عميقة وكساد كبير. وحالة الانحباس التي يعيشها مجتمعنا الناطق بالعربية اليوم، هي بدورها انعكاس للأزمة العميقة التي بؤرتها الجامعة؛ فقد ساد لوقت طويل تصور مفاده بأن النظم والحكومات العربية لم تكن ترغب في تدريس عال مهني وأكاديمي؛ حتى لا يتحول الطلبة إلى ماركسيين يثورون على الأنظمة الحاكمة. شاع هذا في سبعينيات القرن الماضي في عصر هيمنت عليه طروحات المثقف العضوي والنزعات المادية للتاريخ، وضرورة التغيير الثوري للبنى التقليدية للمجتمعات الخارجة لتوها من الاستعمار. لكن تبين اليوم بعد عقود من سياسة التعريب أن تمييع النظم الجامعية كان هو مبعث تفشي وتفاقم النزعات القبلية الضيقة التي رابطها الدم والانتماء القبلي. الجامعة التي صارت تنعت بأنها مؤسسة خبيرة في منح الشهادات التي لا قيمة لها، والدرجات العلمية الوهمية، وريع مناصب التوظيف؛ ينتهي بها الأمر إلى بروز أوليغارشية تعنى بالتسويات على حساب صرامة البحث العلمي؛ بالتحريف والمراوغة في مقابل الاستقامة. لا تعاني جامعاتنا اليوم في البلاد العربية من الجهل فقط؛ وإنما من اللافكر واللانقد؛ أي من عنف التفاهة؛ حيث الإعجاب ناجم عن تكريس ما يود الجميع سماعه؛ حيث الكل في خدمة المصالح الذاتية الضيقة. داخل هذا السياق سيتطور مزاج شعبوي تشربته الأجيال المتخرجة؛ حيث الهاجس الأول والأخير الركض المبتذل نحو الكسب السريع. المزاج الشعبوي هو الحاجز الحقيقي أمام ارتقاء الشعوب على الذرى الشامخة؛ إنه يولد لدينا اليوم كما حدث في ألمانيا بالأمس على حواف نظام جامعي مهترئ ومنهك بالتفاهات: تدفق لا محدود على نيل شواهد عليا / بيع الشهادات/ إقصاء الكفاءات القليلة وسط هذا الحشد من المدكترين الذين لا علاقة لهم بالبحث العلمي سوى الاسم؛ لأنه في ظل هذا المزاج الشعبوي لم تعد هنالك من حاجة إلى الكفاءة، بل لمن هو بارع في تقديم الولاءات. في المقابل ما الذي تحصل لدينا من ذلك كله على صعيد العالم الناطق بالعربية: 1- معاداة النزعة العقلانية ومهاجمتها. 2- التدهور الطبيعي للمكانة الأكاديمية. 3- تفسخ وتحلل الروابط الأخلاقية لأنه وحده العلم من يعضد من مكانة الضمير في المجتمع وليس شيئا آخر. 4- والأخطر تصاعد النزعات القبلية التي هي منشأ التطرف والمعيق لإحداث أي إصلاح ديني ومجتمعي حقيقي. في هذه البيئة، يستحيل ميلاد الطبقة العصامية والبورجوازية المتنورة؛ ومن ثمة تحقيق الوفرة التي هي أساس النهوض والإقلاع. بعبارة وجيزة، يعني ذلك البقاء في حالة ركود، خارج التاريخ.