تَغذَّينا لِوقت غير قصير على نماذج متعددة من مجتمع البلاهة، سَوَّقَت لنا التَّرف المادي في أبهى حُلله، والانحلال الخلقي في أرقى تجلياته، فَغَدَت تُقدم لنا نفسها على أنها الفكر الحداثي بل هي الحداثة بكل تجلياتها، حتى أصبحنا مستعدين لتقبل كل الخطابات، بل فقدنا بَوصلة التمييز بين الخطابات والقدرة على التفكير. لَم يعُد للعقل مكان في مجتمع البلاهة، بل لم يعد يقوى على التفكير ومواجهة العوائق مهما كانت، حتى استحالت معه التربية والتكوين لمواجهة جهله ودوخته، وانعدمت معه الأسئلة لمواجهة فراغه. البلاهة التي أصابت المجتمع، بلاهة مُشوَّهة قاعدتها الفساد وركيزتها الحداثة المعطوبة، التي تُخفي أكثر ما تُفصح؛ تهدم أكثر ما تبني، تستطيع أن تُوَجِّه جيلا كاملا نحو الحُمق والتفاهة. بلاهة استمدت أساسها من الهوَس بشبكات التواصل الاجتماعي والفراغ السياسي، وتراجع التربية والتعليم. يكفي أن ننظر لمجتمع البلاهة، لنكشف الأيقونات التي يشتغل بها؛ والتي من شأنها أن تجعل الواقع والوهم يتشابهان، من خلال خلق الشبهات؛ ومسْرحة الحياة؛ وإنتاج نماذج مُشوهة وتافهة؛ قادرة على أن تنال الإعجاب وتغدو حديث المنابر. يستطيع مجتمع التفاهة أن يُنتج القذارة الفكرية ويجعلها القدوة والمثال الذي يحلم به جيل (المداويخ)؛ من خلال إقامة عالم وهمي فوضوي، لا مجال فيه للفكر وإعمال العقل، عالم يفكر خارج اللافكر، أساسه خلق الشبهات، متحرر من كل القيود أو المعايير التي تصلح للتمييز بين الأشياء وتحديد المسارات. أصبحنا نتغدى بشكل يومي على نماذج مجتمع البلاهة، نماذج ترسم الحدود وتحدد المسارات، بل هي الأكثر معرفة بحقائق الأمور، تسعى لإقرار نظام بعينه لإنتاج بلاهة مُشوَّهة، مُلطَّخة بالألفاظ النابية، وعالقة بالمؤخرات المسكوكة، إنها في الأغلب الأعم نتيجة مجتمع متهالك، ووليدة صراعات سياسية وإيديولوجية مَقيتة، وتجليات جروح تاريخية مُتصدعة غير قادرة على التضميد أو الشفاء. هاته المجتمعات جعلت من التافهين نجوما، يتصدرون الصحف وشاشات التلفاز، ليصبحوا القُدوة التي يحلم بها الجيل الجديد، الذي فقد القدرة على التمييز بين الصالح والطالح، وذلك راجع لأن المعايير التي رَكَنَ إليها والنماذج التي اعتادها من مجتمع البلاهة، لم تَعُد تفي بالمقصود للتمييز بين حقائق الأمور، بل لم تَعُد تُكسبه القدرة على تكوين فِكر سَوِيٍّ قادر على تحليل الواقع وحمل ترسباته الأخلاقية. ينبغي أن نفهم أن المسألة تتعدى الطرح السوسيولوجي لمجتمع البلاهة، لِترقى إلى تأسيس خطاب ونمط عيش لهذا المجتمع، وتدبير قواعد تبشيرية، تُرَوِّض الحقيقة وتُقنع الناس بحقائق بعينها، وذلك بتغيير نظام الحقيقة والفصل في أسس تفكير المجتمع. إنها تسعى إلى أن تكون الداعية الذي يرشد الناس، والابستمولوجي الذي يُحدد قواعد المنهج، والمثقف الذي ينحت قوانين الفكر. لِفهم نَمَط تفكير مجتمع البلاهة لا بد من إدراك أن التفاهة في هذه المجتمعات متمركزة على شكل أسلوب عيش ونمط حياة، وأنها خاضعة لطُرُق من التحريض الإعلامي الموجِّه، وإنتاجها يتم تحت رقابة بعض الأجهزة والمؤسسات وشبكات التواصل الاجتماعي. معنى ذلك أن البلاهة ليست دروسا تُعطى أو مناهج تُدرَّس وإنما حياة تُمارَس، تُنظَّم وفقها الأفعال والأقوال والتجارب، فهي لا تعني الحماقة المُطلقة التي تُفكر خارج التفكير، بل هي أشكال من اللافكر تقوم عائقا أمام كل تفكير. إننا نعيش حالة من الضياع المؤدي إلى الاستلاب، ضياع المجتمع في مبادئه وقيمه، وتحويل المعاني إلى أشياء، والشك في كل شيء، بما في ذلك الحياة التي نحياها خارج اللامعنى، ومن شدة أُلْفتنا لها، أصبح تفكيرنا عشوائيا وقراراتنا ارتجالية. يتضح إذن أن خروجنا من مجتمع البلاهة رهين أولا بوعي الأهمية الكبرى لشبكات التواصل الاجتماعي وحسن استخدامها في مواجهة مجتمع البلاهة، الذي استطاع أن يفرض وجوده باستعمال هذه الوسائط ذاتها، ولعل هذه هي المهمة الملقاة على عاتق مثقفينا إرساءً للتربية السوِيَّة في مجتمعاتنا، وتمهيدا لِفِكر جاد ومسؤول.