كتاب فريد من نوعه، أعتقد غير مسبوق خاصة مِنْ وإلى ذوي الاحتياجات الخاصة، وإن كان فهو موجه لهم و لغيرهم من الأصحاء أيضا. لأن يكتب أي كاتب أو كاتبة عن هذه الفئة لكن أن تكتب واحدة منهم عن معاناتهم وعن آلامهم وعن آمالهم وعن أسئلتهم الحارقة، فليس من يده في النار كمن يده في الماء البارد الزلال. إنه بمثابة البلسم الشافي والدواء الكافي، يجد فيه القارئ ضالته لمجموعة من القضايا الجوهرية. هدفه كما تعلنه بصريح العبارة أن يوقظ في النفوس و يستفز العقول لتبادر بدورها، "تبحث عن القطع البازلية الخاصة بك، مما سيمكنك من الاستمتاع بتجربتك الأرضية أكثر وأكثر"3. كتاب توثق فيه لرحلة بحث طويلة امتدت لعقود، تقول "يعتبر هذا الكتاب بمثابة عصارة العشرين سنة من حياتي الماضية"67. ترعرعت خلالها الأسئلة مع تدرجها التعليمي من الروضة إلى الجامعة، مقتحمة جزرا قلما يطرق أحد بابها، خاصة سؤال عادة ما يصدر عن كل مصاب؛ سقيما أو سليما لما يمس في صحته أو في تجارته أو في مهنته، فيتساءل لماذا أنا بالضبط وليس غيري؟ وإن كان بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة، فالسؤال ملازم لهم، خاصة مع ضغوطات الحياة في الأوساط المتخلفة، إذ يتعرضون للتنمر أو الازدراء أو لما تحول الموانع دون تحقيق طموحاتهم في التعليم أو تحقيق ذواتهم بامتهان ما يناسب أوضاعهم الصحية. بكل جرأة علمية تطرحه الكاتبة وبأدب جم مؤكدة أنها "لطالما شرحتُ لله أني لا أقصد التدخل بمشيئته، فقط أحتاج إلى بعض البيان، وكنت أدعوه كثيرا لإرسال إشارة لي أو أي شيء يرشدني إلى إجابات تشفي غليلي وتعيد السكون والطمأنينة إلى قلبي الذي بدأ بالتلوث"13، مستحضرة ربما جواب نبي الله إبراهيم "لا ولكن ليطمئن قلبي" لما سأل ربه "كيف تحيي الموتى؟" والقصة معروفة. كتاب كما ورد على لسان مجموعة من أصدقاء الكاتبة وصديقاتها أنه يلامس حياة الناس، بمخاطبة عقولهم ووجدانهم، إنه يشفي بعض العقول اليائسة والفاقدة للأمل في مجتمعات تحكم على الاخرين من خلال ظواهرهم. إنه عبارة عن تجربة إنسانية يستفيد منها الجميع بما أننا "متشابهون بشكل أو بآخر. كل واحد منا له تحديات وأحلام وعقبات وإنجازات وإخفاقات"72 من صفحاته الأولى تعلن الكاتبة أن كتابها هذا "لوحة البازل" "ولد من رحم الألم والمعاناة"3 عنوان مصاغ بذكاء نادر، من العتبات المخاتلة تستفز القارئ ليبادر إلى معرفة مكنون المنجز. فاختيار لوحة البازل لم يكن اعتباطا، بما تتطلبه هذه اللعبة من صبر وأناة، وتفكير عميق، وبحث متواصل عن المواضع المناسبة لقطعها البازلية بيسر وسهولة. فأي استعصاء أثناء وضع القطع، فهو مؤشر على أنها في غير مكانها الصحيح. حتى إذا اكتملت الصورة تكون الراحة النفسية و المتعة. فما العلاقة يا ترى بين ما تريد الكاتبة إيصاله من أفكار ولوحة البازل هاته؟ فهما الأساس الذي كان يضنيها على امتداد صفحات الكتاب أن تلامس بالبحث والتحليل كل ما يؤرق دواخلها، وتنقل تجربتها بعد اكتمال صورة لوحتها ليسترشد بها غيرها تكون له طريقا إلى الراحة النفسية، تقول "بعد كل التجارب التي مررت بها أدركت أن التوازن والراحة النفسية أهم من أي شيء آخر مهما بلغت مكانته"20. مواضيع منتقاة بعناية، تنم عن بعد نظر وعمق تفكير، تتناول مجموعة من القيم الاجتماعية، تقول "صادفتها في طريق خوض رحلة البحث عن الذات"22. جددت في بسطها بلغة سلسة مناسبة. فاختيارها لها لم يكن اعتباطا. فقد ركزت عدسة قلمها على بعض ما ينخر مجتمعاتنا من آفات، كالأحكام المسبقة شمالا وجنوبا بدون بينة، علما فالقرآن الكريم يحذر من مغبتها، ويؤكد على التبين والتثبت قبل إصدار أي حكم أو اتخاذ أي موقف. الكاتبة إدراكا منها لخطورة هذه الآفة، تضرب مثالا بنفسها، لما كانت على عادة عامة الناس، تحكم على كل فتاة تبتعد عن عائلتها أنها "لا تبالي بالأصول والتقاليد وستكون في خطر دائم بعيدا عن أسرتها"23 فقررت خوض التجربة، فابتعدت لمدة عام ونصف تقول "وهكذا جعلت الأحكام طريقة للتشافي بدل جعلها وسيلة لتنقيط الآخرين"23. الآفة الثانية لا تقل خطورة عن الأولى، كثيرا ما يعاني من مرارتها الأطفال، تعكس بطريقة أو بأخرى جهل الآباء والمربين وللأسف كثير من نساء التعليم ورجاله، ويتعلق الأمر بعملية المقارنة، إذ كانت أمها لا تكف كجل الأمهات، بذكر ابن الجيران الذي توظف والأخرى تزوجت و قس على ذلك تقول "وأنا أتمنى أن ينتهي ذلك الحوار بسرعة لأنه لا ينفع بشيء سوى في ازدياد رغباتي في عيش حياة مختلفة ومريحة أكثر"26. إنها ترفض رفضا قاطعا أي شكل من أشكال المقارنة ومنطق القطيع، تقول في ص28 "إن فعل المقارنة يقتل ولا يكون عادلا أصلا .. لا مجال للمقارنة بين فرد وآخر أيا كان". ثالثة القطع البازلية التي اختارتها الكاتبة، الاستحقاق ركزت فيه على الصراع الداخلي بين الذات الحقيقية والإيجو (الذات المزيفة) "التي تسعى دائما وأبدا في تضليلك بمشوشات خارجية تلهيك عما هو جوهري وأساسي للنهوض بنفسك وبالإنسانية جمعاء"30، هدفها الأساس أن تحول دون أن نغوص في أعماقنا لنطور أنفسنا، فننال ما نستحقه، وإن كان فهي تؤكد "إنها لمهمة صعبة ولا تتم بين عشية وضحاها، بل قد تأخذ نصف عمرك أو أكثر". وفي تكامل بين قطعها البازلية، نجدها بسلاسة تربط بين قطعة وأخرى. وبما أن غرضها من الكتاب وطبيعته العملية، فإنها تعزز طروحاتها بأمثلة حية، تساعد أيا كان ليجرب بنفسه. إنها تؤكد أن لا شيء نافعا يمكن تحقيقه بدون مشكلات وبدون تحديات. فلا سبيل إلا بمواجهته، موردة قول نزار قباني بتصوير بديع "لو كانت المشاكل تحل بالهروب، لكانت الكرة الأرضية كوكب مهجور"32. وبجمالية تورد نموذجين في كيفية مواجهة المشكلات، يتعلق الأمر بشخصين وقع هاتفهما في بركة ماء. أحدهما ظل يندب حظه متوترا لساعات وربما لأيام أو شهور، والثاني أعطى معنى جديدا للموقف وتجاوزه بسرعة قائلا وهو في كامل هدوئه واسترخائه قائلا، "لعل الكون أراد أن أحظى بهاتف جديد"32 وما تخصيصها لقيمة التحدي بهذا الاهتمام سوى لعلمها بما تشكله في حياتنا المعيشة. فمواجهة التحديات من أكبر التحديات، فبقدر ما تتطلبه من صبر وأناة، بقدر ما يلزمها من حكمة وإعمال عقل، والإيمان الجازم كما تقول "وعيي التام أنني أنا المسؤولة عن ما يقع في حياتي"31. وهي تعدد قطعها البازلية الأساسية، لا تنس أن تحذر ممن لا هم لهم غير استنزاف غيرهم ممن يطمحون لتطوير أنفسهم. بكل وضوح نعتتهم بمصاصي الطاقة. إنها تعرف أنه مهما كانت عزائم الناس صلابة، فإنها بمضايقاتهم المتوالية ستفت في عضدهم وتحبط مجهوداتهم وستتبخر كل آمالهم. تقول في سياق مواجهتهم "إلا إذا كانت لديك أسلحة للتصدي لهذا النوع من المستنزفين"34. وصولا إلى بيت القصيد، التقبل. إنه لبنة أساس في المعادلة. صحيح ليس من السهل بلوغ هذا المقام في النفس، لكن لا مناص منه إذا أراد أي واحد الاستمتاع بما هو عليه، تقول في ص37،"إن قوانين اللعبة تحتم عليك احتضان نفسك في جميع حالاتها وكل حالة تعرف بضدها، فلولا الحزن لما استمتعنا بالفرح". وببيان تقول في سياق آخر "والأهم أنني اكتشفت القيمة التي لم أطورها بعد ألا وهي قيمة "التقبل"، حيث لم أتقبل نفسي بما فيه الكفاية وهذا انعكس في تصرفات مجتمعي، وأن الامر تغير كثيرا الان، حيث لم أعد أجد الكثير من الشفقة والتنمر .. وإن تأثرت أعيد النظر إلى القيمة التي أهملتها مرة أخرى، وبهذا يصبح الغضب وسيلة للتطور واكتشاف الذات"54. وهي تبحث عن القطع المناسبة لفراغات لوحتها البازلية، توقفت عند قطعة الاستمتاع. فقد خصتها بوقفة مطولة وعميقة، ولم تكتف بالمكرور من القول فيها، إذ ركزت على مرحلة هامة قلما ننتبه لها ونستمتع بها. فالعادة والمعروف، أن الاستمتاع يكون مؤجلا إلى حين تحقيق الهدف أو الغاية، فهي تؤكد أن هذا التأجيل من الأخطاء الفادحة التي نرتكبها تقول في ص40 "فقد أصبحنا نهتم بالفوز أو الخسارة أكثر من الطريق إليهما، صحيح إن حلاوة الفوز ومرارة الخسارة لهما طعم خاص، إلا أنهما لا يضاهيان الاستمتاع بالسعي أساسا، فهو الحياة عموما". وتزيد موضحة أكثر في نفس الصفحة "ما نسميه بالنجاح نستمتع به لدقائق معدودات سرعان ما يتلاشى ذلك الشعور". فلِم لا نستمتع ونحن في الطريق نحو الغاية، ونستمتع عند تحقيقها؟ تقول "المهم أني مستمتعة بالسعي ومنطلقة في طريق الفلاح" 43 إنها بقلم الحاذق المتملك من ناصية الفكر العميق، تتجول بنا في حديقتها الخلفية عبر قطعها البازلية هاته، لتتوقف هذه المرة مع الأهداف لتصدمنا بغير المتوقع، ليس من باب "خالف تعرف"، فبشأن تسطير الأهداف التي عادة ما يركز عليها مؤطرو التنمية الذاتية ومؤطراتها، على العكس فهي تقول، "والغريب في الأمر أنني أحقق أهدافا لم أذكرها ولم أخطط لها"43، معززة وجهة نظرها بقولها ضد فكرة التخطيط "كل هدف يمكن تحقيقه بطرق كثيرة ومختلفة وعندما تخطط فأنت تقتصر على طريقة واحدة فقط، وبالتالي تمنع الكون من تقديم المساعدة"43. وهي في منتصف طريق تشكيل لوحتها البازلية، تتناول قطعة شائكة، تعتبر نقطة محورية، من يحسم فيها يحقق جزء كبيرا على درب طمأنينة روحه وسكينة نفسه. إنها مسألة المعتقدات، أسالت مدادا كثيرا عبر العصور ولا تزال. إنها من القضايا ليس من السهل حسمها بشكل نهائي، لكن مع القراءة الفاحصة لا شيء مستحيل. تقول في ص46، "ومع إدماني على قراءة الكتب لفترة لا بأس بها، تمكنت من السفر وتعرفت من خلالها على شخصيات وعقليات مختلفة، مما ساعدني في توسيع نظرتي للحياة عموما وجعلني أتعلم كيف أتبنى ما أحتاجه فقط من كل معتقد، حتى وإن كان مبدؤه العام لا يتوافق مع معتقدي". ولتزيل أي لبس، تزيد قائلة بنفس الصفحة "وهنا لا أقصد أن تضع كل معتقداتك في مهب الريح، فقط يجب إعادة النظر في ما لا يخدم رحلة تطورك في هذه التجربة الأرضية". وهي تنتخب قطعها البازلية من بين فرث ودم تجربتها الأرضية، لم يفتها أن تصحح بعض المفاهيم، انطلاقا من خبرتها الشخصية التي صقلتها عبر سنين من التأمل والتدبر، ففي قطعتها نظام الحب ونظام الخوف، توجه القارئ للإعراض ظهريا عن كل ما نخاف منه ونركز فقط على ما نحبه، تقول "دعونا نتجه نحو تغيير منحى التفكير إلى ما نحب وليس ما نخاف منه، وبدل محاربة ما لا يعجبنا لنجعل في البحث عن ما يعجبنا"49 إنها تؤكد أن الخوف من أقوى المدمرات للذات الإنسانية، لمّا "يجعلك تنساق نحو المحافظة على صورتك المزيفة أمام المجتمع"49. وتختم بخلاصة من ذهب "إن الحب محرك النعيم والخوف طريق الجحيم"51. ولم يكن اعتباطا أن تردف هذه القطعة بالحديث عن الغضب، باعتباره "أكثر التعابير المحببة لدى نظام الخوف"53 فعادة الإنسان يغضب لما يشعر بالظلم أو هكذا يعتقد. لكن كاتبتنا لها رأي آخر، إذ تقر أنها كانت كثيرة الغضب بسبب شفقة البعض وتنمر البعض، "لكن مع الغوص في رحلة الوعي، اكتشفت أنني المسؤولة الأولى والأخيرة عن كل ما يحدث"53. والحال هاته فلِماذا الغضب؟ وقريبا مما قالته عن الغضب تقوله عن الظلم، إذ تؤكد أنه في معظمه من دواخلنا "لسنوات عديدة ظننت أن الظلم حدث خارجي يتساقط علينا من السماء كالصاعقة، ونحن لا دخل لنا ولا مسؤولون عنه"55 وتمثل بنفسها لما فقدت الثقة في قدراتها فقبلت بوظيفة أقل من مستواها براتب هزيل مقارنة بما تقوم به "اخترت ألا أكمل المشوار لأني أستحق أفضل منه، وهكذا تعلمت مجددا قانونا من قوانين اللعبة واكتشفت أيضا قطعة جديدة من لوحتي البازلية وهي أن الظلم هدية وهبة من الخالق للتعرف على المكان الذي لم نحمه في قلعتنا"56. هو المفكر الكبير أو المفكرة عادة ما يقلب رأس المجن للمحن فيحولها إلى منح ويحول الألم إلى أمل. ومن أجواء الغضب والقلق والظلم والخوف، تنتقل بنا الكاتبة على بساط بحثها عن الصورة المرتجاة، إلى التوازن، هذه القطعة النادرة أندر من بيضة الديك. فمن يتحصله يحوز الخير كله. إنه من أهم القوانين المساعدة على اكتشاف قطع بازلية جديدة. تقول في ص57 "قانون ينص على ألا إفراط ولا تفريط في مختلف المجالات وعلى جميع الأصعدة"، وكدأبها تعزز طروحاتها بأمثلة، كالبنت التي تتربى في حضن أب بخيل جدا أكيد ستمر من البخل الشديد إلى التبذير الشديد. وهي تفصل في هذا القانون عرجت على أمر هام قلما ننتبه إليه، تقول بنفس الصفحة، "ولا يكمن التوازن في عدد الساعات التي يأخذها منك كل جانب، أكثر مما يتجلى في حضورك التام والفعال في تلك اللحظة بالضبط. فجلوسك مع عائلتك ساعة بجميع طاقاتك وحواسك، لا يضاهي أربع ساعات بحضورك الجسدي فقط. فالمسألة ليست بالكم بل بالكيف". وصولا إلى القطعة ما قبل الأخيرة. فما كان يمكن الحصول على كل ما سبق ووضعها في المكان المناسب والصبر على درب السعي نحوها، لولا شعلة الشغف المتقدة، تعرفه الكاتبة بقولها "الشغف عبارة عن رحلة تحتاج للتطوير الدائم"61. أهميتها باعتبارها المرشدة إلى الرحلة الخاصة بعيدا عما يطلبه المجتمع كما تقول. وأخيرا عود على بدء إلى السؤالين من أنا؟ ولماذا أنا؟ سؤالان جوهريان عليهما مدار حديث الكتاب برمته. سؤالان بدأت بهما البحث "مدخلا للتعمق والانغماس في خبايا وأسرار اللعبة، ما ساعدني على إيجاد الكثير من القطع المفقودة في لوحة البازل الخاصة بي، التي جعلتني أكثر نضجا وحكمة .. وهذا ما جعل الصورة الإجمالية لحياتي أكثر وضوحا"62. فالأساس لديها أن يعرف كل واحد كينونته بنفسه، بعيدا عما يريد المجتمع أن يكونه، يوجهه بهذه الوسيلة أو تلك، يكبله ويشل حركته ويفرض عليه اختياراته بل وحتى نمط تفكيره تقول "من المهم أن تعرف مهمتك في هذه الحياة وأن تكون ما تريد أنت حقا أن تكون"18. هو التحدي الذي خاضته الكاتبة على امتداد صفحات الكتاب الأربعة بعد السبعين صفحة. والسؤال الثاني لماذا أنا؟ يتداخل فيه ما هو مجتمعي بما هو ديني. لذا فهي على درب الأتقياء والأصفياء، تؤكد أنه لا اعتراض على قدر الله وقضائه، أن جعلها من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولكن كما سأل إبراهيم ربه كيف يحيي الموتى تسأل كاتبتنا السؤال الثاني "عن سبب إعاقتي ومصدر شكلي الطيني.. لم يكن سؤالا سهلا، فقد أخذ مني سنوات عديدة، لكن بسبب اكتشاف القطعة الأساسية في لوحة البازل الخاصة بي أصبحت الإجابة عن سؤال لماذا انا؟ ذات ملامح واضحة، وما جعلها أكثر وضوحا اكتشافي عوالم أخرى غير الذي نعيش فيه"64 قبل الختم لا بد من التذكير ببعض ما أكدت عليه الكاتبة: أولاها، اكتشاف حقيقتنا الأصلية "إننا من نفخة واحدة في أجساد طينية مختلفة لاجتياز هذه التجربة الأرضية، وارتباطنا وتأثيرنا ببعضنا البعض مسألة حتمية. وبهذه الحقيقة فقط تختفي جل معضلاتنا وستنتهي جميع أمراضنا وسنعيش الجنة حرفيا فوق الأرض لولا الذات الوهمية"63. فالأساس هي هذه النفخة الروحية وليس الأجساد الطينية. ثانيها، الأصل أن نتحمل كامل المسؤولية في حياتنا بكل تفاصيلها، والاستعداد الدائم لمواجهة كل الأصنام والمعتقدات المدمرة بتعبيرها، والإيمان الراسخ أن "ما هو داخلي أكثر أهمية مما هو خارجي"65. ثالثها، بتعبير جميل تؤكد "ان مهمة كل فرد منا تبدأ من بحار اعماقه، ومدى قدرتنا على مواجهة انفسنا وإيجاد القطع البازلية المفقودة واحيانا ترميمها وإعادة إصلاحها وتلميعها"65. رابعها، أتصور لو وصل كل واحد من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى ما وصلت إليه الكاتبة بفعل جهادها لنفسها وبفعل تعميق بحثها في ذاتها "بعد هذه الرحلة الطويلة من تجربتي الأرضية، لم تعد الإعاقة تشغل بالي أكثر من المواضيع التي تطرقت لها في هذا الكتاب ... لم يعد نطقي البطيء يزعجني، ولا حتى مشيتي العوجاء تربكني، ولا حتى عدم أخذ كأس ماء بطريقة سلسة أمام الناس يزعجني، ليس لأنني لم أعد أبالي وأصبحت قوية، لا أبدا لكن ليقيني التام أن المشكلة ليست في جسدي ما دمت مستقلة ... وسأقول لذاتي الحقيقية شكرا لأنك اخترت جسدا به إعاقة، جسدا يفضل الصمت أكثر من الكلام، مما طور عملية التحليل لدي"66. خامسها، تستغرب ممن يعجب بها وتتساءل عن سبب ثنائهم عليها وانبهارهم بها لتقول بيقين العارف "أنا فقط تعايشت مع وضعي ... رغم أني أحظى ببعض الاختلاف عنهم، لكن حياتي تشبه حياتهم أتساءل ما المبهر في هذا؟ بالنسبة لهم هذا يعتبر إنجازا وبالنسبة لي الإنجاز الحقيقي يكمن في أن أفهم نفسي أكثر وأكثر وأن أساعد أكبر عدد ممكن من أناس انطفأ النور في لعبتهم البازلية"20. سادسها، تؤكد على مسألة في غاية الأهمية، وتتعلق بكيفية التعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل، تقول "الماضي له نهاية إذا ما تعلمنا التعامل معه والاستفادة منه .. الثانية في التعامل مع الحاضر ولا حظت أنها الأكثر أهمية لكن للأسف الأكثر إهمالا، فغالبا ما نهتم بتفاصيل الماضي والمستقبل دون إدراك مدى قوة اللحظة الراهنة" معرجة على كتاب "قوة الآن" للكاتب إيكهارت، يوضح أساسا "أن الحقيقة الوحيدة التي نملك بأيدينا هي الان")"16. الثالثة ألا وهي التعامل مع المستقبل تقول "أصبحت لا أهتم بها" .. فقد اكتشفت مدى سذاجتي، وكان اكتشافي البحث عن الذات بمثابة خريطة الكنز للحصول على حياة هنيئة .. فلماذا أفكر في النتائج قبل الأسباب؟"16. سابعها، صراع الذات الحقيقية مع الذات الوهمية. إنها تسجننا و تبعدنا دائما عن حقيقتنا لنعيش دور الضحية، تقول "عندما أدركت مدى أهمية هذا القانون وكيف أننا من نفخة واحدة في أجساد مختلفة في تجربة أرضية، علمت ما مدى استطاعتي للوصول إلى أهدافي الخاصة، عن طريق أخذ ما يفيدني من تجارب الاخرين"29. تامنها، وهي في جهادها مع نفسها، عمدت لتصحيح جملة من المفاهيم، تقول عن القدر "كنت دائما أسمع عبارة "لا راحة في الدنيا ونحن هنا لنشقى" لكن مع مرور الوقت تعرفت على أشخاص غيروا حياتهم إلى جنة في الدنيا قبل الآخرة، فهمت حينها كم حرف مفهوم القدر"17 أيضا تحذر من أمر هام أن يستغلنا الانتهازيون لتحقيق رغباتهم تقول "ومن أبشع الأحاسيس أن تكون مشعلا تحرق نفسك من أجل الآخرين، ونفسك أولى بك"18. وأخيرا لا بد من الإشارة إلى لغتها السلسة المنسابة وبعض الصور التعبيرية الجميلة، تضمنها منجزها المتفرد هذا، كقولها "حاولت الحصول على وظيفة لأسكت ضجيج عقل أمي"26 و تشبيهها البليغ "الموضوع كالبذور كلما درست كيف تعتني ببذرتك كلما جنيت منها الثمار"30. وغير هذا كثير. نختم بهذا التصوير البديع "منذ بدأت مسيرتي للبحث عن الذات، تساقطت أوراق كثيرة من شجرة علاقاتي"34.