شهدت الجزائر خلال الأيام الأخيرة حالة استقطاب سياسي حادة لم تعد مقتصرة على ثنائية النظام والمعارضة ولكنها انتقلت إلى هرم السلطة الحاكمة التي شهدت "هزة" غير مسبوقة في شكل صراع بين أجنحتها قرب انتخابات الرئاسة المقررة في 17 أبريل القادم. وخلّفت تصريحات غير مسبوقة لعمار سعداني، أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني، الحاكم، ضد مدير جهاز المخابرات الجزائري الفريق، محمد مدين، يطالبه فيها بالاستقالة جدلاً واسعًا في البلاد خلال الأيام الأخيرة. وقال سعداني، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، "كان على الجنرال توفيق -اسمه الحقيقي محمد مدين- ان يستقيل، بعدما فشل في حماية الرئيس (الراحل) محمد بوضياف، وحماية عبد الحق بن حمودة (الامين العام لاتحاد العمال الجزائريين) كما فشل في حماية رهبان تيبحيرين وقواعد النفط في الجنوب وموظفي الاممالمتحدة وقصر الحكومة"، وتعد هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول قريب من النظام الحاكم ويوجّه تهمًا لمدير المخابرات في الجزائر. واغتيل الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف عام 1992 على يد احد حراسه فيما قتل أمين عام اتحاد العمال الجزائريين عبد الحق بن حمودة عام 1997 في عز الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد فيما شهد مبنيا رئاسة الحكومة ومكتب الأممالمتحدة بالعاصمة هجوما انتحاريا شهر أبريل 2007 أما رهبان تيبحيرين فاغتالتهم الجماعة الإسلامية المسلحة عام 1996 بدير يقع بمحافظة المدية جنوبي العاصمة. من جهته، هاجم الجنرال المتقاعد، حسين بن حديد، الفريق أحمد قايد صالح، قائد أركان الجيش الجزائري، واتهمه ب"عديم المصداقية ولا وزن له في الجيش"، وقال بن حديد، في تصريحات لصحف محلية، إن "الرئيس وأمام عجزه وظّف حاشيته من بينها عمار سعداني (الأمين العام للحزب الحاكم) للتلاعب بمصير الجزائر والعمل على إضعاف جهاز المخابرات". وأثارت هذه الاتهامات المتبادلة جدلاً كبيرًا في الجزائر حيث توالت تصريحات للأحزاب والشخصيات السياسية تدعو فيها إلى وقف هذه الحملات، محذرة من استهداف مؤسسة الجيش ووحدتها. وأخرجت تلك التصريحات الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، عن صمته حيث جاء في رسالة التعزية التي بعث بها لعائلات ضحايا حادث تحطم الطائرة العسكرية الثلاثاء الماضي، شرقي البلاد، والذي خلف 77 قتيلا: "لا يحق لأحد مهما تعالت المسؤوليات أن يعرّض الجيش الوطني الشعبي والمؤسسات الدستورية الأخرى إلى البلبلة"، مردفا بالقول "لقد اعتدنا على الأجواء التي تخرقها بعض الأوساط قبيل كل استحقاقات –انتخابات الرئاسة - لكن هذه المرة وصل التكالب إلى حد لم يصله بلدنا منذ الاستقلال". وفي ذات السياق اعتبر الرئيس الجزائري في خطاب قرأه نيابة عنه وزير المجاهدين محمد الشريف عباس، في احتفال بالعاصمة الجزائرية بمناسبة "اليوم الوطني للشهيد" الذي تحتفل به الجزائر في 18 فبراير من كل عام، أن "الحملة الإعلامية الجارية ضد الرئاسة والجيش والمخابرات هدفها ضرب استقرار البلاد ودورها في المنطقة"، مضيفا أن "ما يُثار من نزاعات وهمية بين هياكل الجيش الوطني الشعبي ناجم عن عملية مدروسة ومبيّتة غايتها ضرب الاستقرار من قبل أولئك الذين يغيظهم وزن الجزائر ودورها في المنطقة". من جهته، ندد رئيس الوزراء، عبد المالك سلال، بتلك الاتهامات خلال زيارة إلى محافظة ميلة، شرقي البلاد، قائلاً: "نحن ماضون نحو انتخابات قريبًا، وأي تجاوز للخطوط الحمراء أمر ممنوع في الانتخابات"، مضيفا بالقول: "يمكن أن نختلف سياسيًا لكن لا يمكن أن نختلف حول مصير البلاد، يجب ألا نترك أي مجال للفتنة في صفوفنا". وفي حديث للأناضول عن خلفيات هذا الصراع، يقول توفيق بوقاعدة، أستاد العلوم السياسية بجامعة الجزائر: "أعتقد أن الخلاف بين قيادة الأركان والرئاسة من جهة والمخابرات من جهة أخرى ليس مرتبطًا بترشيح الرئيس بوتفليقة من عدمه بقدر ما هو خلاف في المصالح والصلاحيات"، مضيفا أن "الولاية الرابعة لبوتفليقة ما هي إلا واحدة من ميادين المنازلة بين الطرفين، يسعى كل طرف للضغط على الآخر، حدثت كثيرًا من قبل بين أطراف الحكم من أجل السيطرة". وتابع بوقاعدة: "جوهر الصراع في تقديري بدأ منذ تولي عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة في سنة 1999، وسعيه الدائم للإشراف على المؤسسة العسكرية بمختلف مديرياتها، وإجرائه سلسلة من التغييرات على هرم هذه المؤسسة بطريقة حيّد فيها كل خصومه في قيادة الأركان، والآن جاء الدور على مديرية الاستعلامات والأمن (المخابرات) وعلى رأسها الجنرال توفيق، حيث قام بتعديلات هيكلية عميقة همّشت بطريقة أو بأخرى دور هذه المؤسسة في تسيير شؤون البلاد بعد أن كانت تقاريرها تؤخذ بالدرجة الأولى من الأهمية". وأوضح: "ما أريد قوله هو أن الرئيس بوتفليقة وخلال سنوات حكمه أنهى جميع خصومه السياسيين والعسكريين، ولم تبق المؤسسة العسكرية لها الصلاحيات الواسعة التي كانت لها سابقًا، وانحصرت صلاحيات رجال المؤسسة الأقوياء لدرجة عدم الأخذ برأيها في المسائل المتعلقة بمؤسستهم". وفي رده على سؤال مراسل الأناضول: "هل الصراع الذي طفا على السطح يخدم الانتخابات الرئاسية القادمة أم يضر بها؟"، فرأى بوقاعدة أن البوتفليقية (النظام الذي أرساه بوتفليقة منذ بداية الحكم) حسمت الآن أمرها، وأن بوتفليقة سيترشّح للعهدة الرابعة مهما كانت الظروف، وأن هذا الخلاف غير المسبوق عزّز من مكانة البوتفليقية وما تسعى إليه في الفترة الراهنة هو البحث عن شركاء جدد في حكمها من غير كل الذين سبقوا حتى ولو أخرجت وجوهًا من الأرشيف وتلميعها". ولم يعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حتى اليوم ترشّحه لولاية رابعة رغم أن عمار سعداني الأمين العام لحزب "جبهة التحرير الوطني" الحاكم الذي يرأسه كرئيس شرفي منذ عام 2005 أكد منذ أيام أنه قرر الترشّح رسميًا للانتخابات. ويحظى مشروع الولاية الرابعة لبوتفليقة بدعم عدد كبير من الأحزاب في الجزائر إلى جانب منظمات أهلية دعته للاستمرار في الحكم.