يستحضر الكاتب المغربي إدريس لكريني ذاكرة طفل تحمل بين طياتها خطوطا من الدراما، متشابكة، معقدة ومركبة، بما تحتويه من حكايا فرح وحزن وبراءة، ومن وجع وألم من خلال مشاعر طفل صغير فتح عينيه في الريف أمام طبيعة قاسية فيها مجموعة من التلال والمناطق الوعرة التي لا يعرف ماذا وراءها؟ ماسكاً بخيوط من الأمل والأحلام، متشبثاً بأطراف الحياة رغم قساوتها وصراعه معها! . سيجد القارئ نفسه خلف أو وسط أحداث هذه الرواية باختلاف تفاصيل المكان واختلاف اللغة، لذا أراها تجسد عالمية أو كونية الطفولة!. يقول "كولن ولسن" عن الرواية: الرواية غيرت وعي العالم المتمدن: فنحن نقول إن داروين وماركس وفرويد قاموا بتغيير وجه الحضارة الغربية، لكن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير هؤلاء الثلاثة مجتمعين!". طفولة بلا مطر هي رواية من الأدب السيري الصعب، لأنه 'البذرة الأولى' التي يزرعها الكاتب عن تجربته، بتقديم نفسه، وكشف المستور والبوح عن ذاته للقارئ الشريك الذي ينتظر الجديد في خصوصية الكاتب!". ولأن الأدب السيري هو جنس أٔدبي متميز بين كل الأجناس الأدبية يقول عنه "كولن ولسن" أيضاً: "إن الرواية تعتبر الأولى للكاتب في تدوين سيرته الذاتية، لذلك فهي كالشعر والقصة التي تسجل فيها السيرة الذاتية أيضا". وكذلك نجد تاريخياً أن كل الأجناس الأدبية التي كتبت، قصة ورواية وشعراً، خضعت لعمليات كثيرة من القراءات في النقد. ومع اختلاف الرأي في هذا نجد بعضا من — المعايير — التي تدخل في صلب الموضوع كل حسب اجتهاده. فلكل ناقد ثقافته، والمنهل والأسلوب والمنهج والفلسفة الخاص به، والتناول الذي يشتغل عليه في سياق أي عمل سيري أو غير سيري، سواء كان رواية أو شعراً، فهو يخرج بالمحصلة أمام منتج أدبي إنساني يسلط عليه الضوء!. إن كل ناقد يحلق معبرا عن خياله ومخياله وأدواته ولغته الأدبية النقدية، ويدخل في مخيلة الكاتب، فالأدب السيري يخضع أيضاً للإبداع والتأمل والاسترخاء والمتعة والجمال. وبين الواقع والخيال هناك عنوانات ودلالات لحقيقة ترسخت في مخيلة وذهن وذاكرة الكاتب إدريس لكريني، تخللتها إشراقات وإضاءات، بعيداً عن التفسير والتأويل لمحتوى اللغة في بلاغتها عند اختيار التركيبات المناسبة للأحداث والشخصيات والأمكنة وعلاقتها المتشعبة التي اشتغل عليها في روايته السيرية "طفولة بدون مطر"؛ فهو كتب ذاكرته اليوم بما شاهدت عيونه أمس، وما راوده من إحساس بقلبه وعواطفه وبفكره. بالإضافة إلى حجم الاختزالات والاستعارات ومجازاتها التي نمت وكبرت وترعرعت في بداية الوعي الأول للطفولة التي تحمل شقاوته ولعبه وتعليمه، والانتقال لذاكرة تجاوزت الخمسين من العمر ومازالت تتقد في منهجها وأسلوبها بسبب تأثيرات علمية أكاديمية (القانون والسياسة والعلاقات الدولية وتدبير الأزمات)، كل هذه العوامل جعلت من لغته السهلة – الرصينة التي تعبر عن شخصيته في التعبير عن تلك الطفولة التي كتبت "بعقل الوعي الأول للطفولة"، الذي مازال يعيش في داخله، ولكن بصيغة المتحضر المتعلم المتنور لا المشاغب الشقي. التغيير الذاتي في شخصية الكاتب بين الطبيعة وأحضان المدرسة بين الواقع والخيال تتبلور شخصية الطفل الوجدانية والعقلية، خاصة في ميدان التربية والتعليم والطبيعة التي تؤثر على خيال الإنسان، في القرى والأرياف والقصبات البعيدة عن المدن، ما يسهم في بناء طفل بنفس انفعالي واجتماعي. في هذه الفترة، وعلى ضوء هذا الواقع، تمت عملية البناء (بناء علاقة درامية مع المكان، المقبرة، طريق المدرسة، الفضاءات، البساتين المسجد، المدرسة، طبعاً مع كل الشخصيات المؤثرة عليه)، شكلت خاصية متميزة مع الخيال في شخصية الكاتب، وهو يرسم ما يراه بصورة سلسلة في لغته البسيطة الجميلة بين الوفاة والمقبرة والتأمل والفرح، بين زقزقة الطيور وأريج الزهور وعطر المكان! هذه الصورة المتناقضة تكسرت بنواح النساء وبكائهن الذي يمزق الطبيعة وهدوءها ! لكنه ينتصر للحياة .. إنها مشهدية رائعة!. ولكونه يحب اللعب بالطين الذي يصنع منه مجسمات جميلة مختلفه ويعشق الرسم كثيراً فقد كان يرسم عالمه الخاص بألوان متعددة كثيرة كلوحات فنية يشكلها الكبار! ويحلم ببناء عالم فسيح مستقبلاً. إن الأدب، ومنه كتابة فن "الرواية"، يعتبر وسيلة من وسائل المعرفة عند الإنسان لدخوله عالم الفن والكتابة بمخيلة وخيال لفهم الفن وإدراك دوره؛ على اعتبار أن "الرواية" هي مرآة الكاتب التي يرى نفسه بها، لذا نحن أمام تجربة تعتمد الذاكرة والوعي، وهي نمط معبر عن تلك الطفولة. ولكون الفن ينمي في الطفل مهارات متعددة ويضيف له خبرات تدعمه في دراسته، ويصقل حسه الجمالي وذوقه الفني، فهذه الخبرات تغرس في ذاته علاقة التواصل بين المعرفة والعلم والأدب والخيال، وتشكل لديه نزعة جمالية في دواخله تظهر حتى لو بعد حين من الزمن، كما حدثت للكثير من الكتاب الروائيين الذين كتبوا أول رواياتهم بعد الخمسين أو الستين من العمر !. كما هو الآن "الدكتور القانوني" والروائي إدريس لكريني، الذي كتب طفولته بعقل رجل قانون، يفتتح روايته متأثرا بنجيب محفوظ برأيه عن الحياة والحاجة إلى العودة إليها مرارا لأجل إتقانها، وهنا توثيق العلاقة بأمه التي كانت المسؤولة عنه في غياب أبيه الذي كان مهاجراً لأجل العمل في فرنسا؛ أمه التي كانت ملاذه الأول والأخير، وكان يستنجد بها حينما يتعرض لاعتداء من الآخرين !! أو عندما يحتاجها فهي وطنه يشعر بالأمان والدفء في أحضانها. كذلك يأخذ البساطة والطيبة كمحصلة للحياة من "كونفشيوس"، ويتأمل إسحاق نيوتن في الذهاب إلى الطبيعة الجميلة الذكية التي تحب البساطة في اكتشاف الأشياء ! لأنه يعتبر نفسه ابن الطبيعة !. وللمطر أكثر من معنى في خيال الروائي .. يستحضر الكاتب في روايته كل المفردات التي عاشها في طفولته كزخات مطر تنعش الروح، فمثلا نراه يأخذ من الشيخ المتصوف جلال الدين الرومي إشراقة الروح المعذبة حين يبكي المطر، والخوف من المعاناة، أسوأ من المعاناة نفسها من باولو كويلو. ويؤكد ذلك أيضا من خلال محمود درويش، على أن الموت لا يوجع الموتى، بل يوجع الأحياء ! ويثني على مقولة محمد الماغوط ويرددها: "الموت ليس الخسارة الكبرى، بل الخسارة الأكبر هو من يموت فينا ونحن أحياء"!. البعض يشعر بالمطر والبعض الآخر يشعر بالبلل فقط! هكذا مع بوب مارلي، المغني الريفي الذي ينتمي إلى عالم الكاتب نفسه الذي يطمح إلى السلام والحرية ومحاربة الفقر والانتماء إلى الحب بكل أشكاله، فهذه رسالته في الحياة وداخل قريته التي تقع بين مدينتين عريقتين: فاس ومكناس قريبا من مدينة عريقة أخرى هي زرهون، تلك القرية التي أعدت منه شاباً يافعاً ثم فتحت أمامه مستقبلاً رائعاً... كل هذه الاستعارات اشتغل عليها بإسقاطات الواقع الذي عاشه وبلغة اليوم !. بوصلة الرؤيا في السرد تتكئ على عالم سحري وتحلق في الفكر والروح والعقل والخيال الخصب في مدلولات الطفولة: صور ذاتية، سرد صادق، وفلسفة خاصة عن عالم الطفولة وكأنها تحدث اليوم. يعزف الراوي لنا أفكاره الطفولية – كسمفونية – تؤمن بالقدر وتحلق في الفضاء بفكرها الإنساني، وتنسج لنا مع سحر الطبيعة ولغته، وما يحدث في المكان – القرية – التي يؤمن بأنها مستقبل البلاد لما فيها عاشته من أحداث مازالت عالقة بفكر الطفولة التي لم يبللها المطر، وبروح تؤمن بسيرورة الحياة وانتصارها. فغربة الأب وغيابه عن البيت خارج الوطن في فرنسا، ورغم أن أمه كانت بمثابة أب وأم له في الوقت نفسه، وكذا الوفيات التي لحقت بالعائلة، كلها عوامل جعلت منه رجل البيت. وضمن السرد، نجده يبحث ويتابع أحوال أبيه عن طريق السيد "حميد"، رفيق والده في الغربة، فيسأله عن أحوال أبيه، وكيف يعيش مع البرد هناك في فرنسا. سؤال لا يمكن لطفل أن يفكر به وهو في هذا العمر!.. كان يرد عليه: "أبوك بخير، لكنه كثيرا ما كان يعود لبيته مبللا بالمطر"، فيجهش الطفل بالبكاء. لذلك جاء المطر في كل العنوانات التي سردها في طفولة بلا مطر، بدلالات مختلفة تضرب في الجذور والأعماق!. بدا الطفل بمغامراته في تلك السن وكأنه قرأ "فان كوخ" الهولندي في حياته، وما كان يعيشه بين الفن والواقع بين الرسم والخيال، فقد كان إدريس عاشقاً للفن ومحباً للكتاب والقراءة، ماسكاً للخيال محلقاً في الاطلاع والاستكشاف لما وراء الجبال، لذلك بدت شخصيته وكأنها حصيلة لانفتاح على الواقع، مع ازدياد في درجات الوعي المبكر، إذ كان مصرا على التعلم بشكل مذهل متطلعا إلى المستقبل في بناء ما حوله من جديد. الانفتاح الفكري المبكر والمعادل الموضوعي في بناء شخصية الروائي: يؤكد الكاتب ذلك، بمقولة عباس محمود العقاد الذي يقول: "أحب الكتاب، لا لأنني زاهد في الحياة، ولكن لأن حياة واحدة لا تكفيني". وهنا نتوقف قبل الختام لكي نترك للقارئ الكريم أن يلج في عوالم "طفولة بلا مطر"، وتبقى القراءة النقدية وإبداء الرأي الفني والأكاديمي الذي يسلط الضوء على مثل هذا النوع من الأدب المتنوع والمتباين من حيث الأسلوب والمنهج. شكرا للكاتب الأستاذ إدريس لكريني الذي أعادنا إلى طفولتنا وإلى تلك الأمكنة ولروح الشقاوة وللمسؤولية التي تحملناها معاً ونحن صغار، وكنا نحلم بمستقبل زاهر، مستأنسين بالمقولة الجميلة للكاتب الساخر الأيرلندي "جورج برناردو شو"، التي وردت في "طفولة بلا مطر": "اهتم بأن تحصل على ما تحبه، وإلا ستكون مجبراً على تقبل ما تحصل عليه". إن روح الدعابة والطرافة التي ألفتها في الكاتب على امتداد عدة سنوات وجدتها أيضا في هذه الرواية التي يظهر أن "أحداثها الطريفة والمشوقة بللتنا ونحن جالسون تحت السقوف"، رغم اختياره تسميتها "طفولة بلا مطر"؟. كان الكاتب يقص علي أحداث طفولته قبل سنوات من صدور العمل، بأدق التفاصيل، وعن عشقه لقرية بني عمار التي تقع بين فاس ومكناس، وعن أحلامه الجميلة التي رافقت انتقاله إلى المدينة المختلفة كثيرا عن بلدته الصغيرة، وكنت أصغي بمتعة وأطالبه بالكتابة. ومن خلال السرد استوعبت قولة هيلين كيلر: "نجاحك وسعادتك تكمن فيك" التي وظفها الكاتب العصامي، في هذه السيرة التي تجسد بأحداثها وطرائفها "طفولة جماعية" تتجاوز الزمان والمكان. أخيراً، رأي لا بد منه: كثيرا ما نرى رأيا ورأيا آخر لديمومة التطور النقدي، لذلك هناك طرفان في هذه القضية، طرف يغوص في نقد الأدب السيري وطرف يرفض ذلك، وللاختلاف صحته. أتمنى أني دلوت بما هو واضح في هذه الرواية التي أفاضت الطفولة إمتاعاً. ونترك الباقي من قراءتنا للقارئ يطلع ويبحر معنا في طفولته وهذه الطفولة . واليوم أنا سعيد مرتين :الأولى، أن المؤلف كتب، ثم أصدر الرواية وأهداني نسخة منها مرفقة مع القراءة النقدية. وثانيا أهدي قراءتي هاته بعد المتعة الجميلة التي اشتركنا بها مع طفولة بلا مطر. * ناقد عراقي مقيم في هولندا