في الوقت الذي لم يصل مشروع القانون الجنائي بعد إلى بر الأمان أبى أهل القضاء إلا أن يناقشوا موضوع "السياسة الجنائية بالمملكة والإكراهات التي تعرفها وسبل تجويد النص الجنائي بما يضمن النجاعة ويخفف الضغط على السجون ويحفظ حقوق وكرامة المتابعين قضائيا" خلال ندوة علمية احتضنها، مساء اليوم الجمعة، نادي هيئة المحامين بالرباط. الندوة التي نظمها نادي قضاة المغرب، بشراكة مع نقابة المحامين بالمغرب، عرفت مشاركة عدد ممن خبروا مجال العدالة، الذين أكدوا بالإجماع على أن "السياسة الجنائية المعمول بها اليوم بحاجة إلى البلورة والتنقيح من بوابة قانون المسطرة الجنائية، الذي يشكل نقطة التماس بين السلطة والحرية بما يمكّن من حماية حقوق المتقاضين". نحو تحقيق الملاءمة البداية كانت مع مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات سابقا، الذي أكد أن "القانون الجنائي في شموليته يجب أن يكون محطّ بلورةٍ حتى يكون متوافقا مع ما ينص عليه المشرع الدستوري، خصوصا إذا استحضرنا أهمية دفاع هذا القانون عن ثوابت المملكة المعروفة"، عادا إياه "قانونا إيديولوجيا بامتياز لا يمكن إخراجه من جلباب الإيديولوجية ولا يمكن الإتيان به بمعزل عنها". ومستحضرا تجربته في وزارة العدل والحريات وتماسه مع مكونات مجال العدالة من قضاة ومحامين، أوضح الرميد أن "القانون الجنائي يجب أن يحمي الحق في الحياة، على الرغم من أننا أيدنا في وقت سابق أن يكون الحكم بالإعدام بعد موافقة الهيئة القضائية كلها"، قبل أن يعود لينخرط في النقاش الدائر حول مسودة مشروع القانون الجنائي الذي تم سحبه بالتأكيد على "ضرورة ملاءمة هذا الأخير مع مقتضيات المرحلة". وبخصوص ما يتوجب العمل عليه حاليا ذكر المسؤول الحكومي السابق أن "هناك حاجة ماسة إلى تمتين ضمانات المتهمين في البحث التمهيدي بالتنصيص قانونا على ضرورة حضور المحامين، في الوقت الذي ما زلنا أمام مفارقة تتعلق بتزاحم مبدأ قرينة البراءة وضرورات ضمان السلطة لسلامة المواطنين". وتساءل قائلا: "بم سنقوم في هذه الحالة؟"، قبل أن يضيف "ما نؤكد عليه هو أن نحلق عاليا في حفظ حقوق الناس". وتحسر الرميد على سحب الحكومة الحالية مشروع القانون الجنائي، الذي كان "يضم تجريما للإثراء غير المشروع، بدون مساس بقرينة البراءة بعدم التنصيص على الاعتقال الاحتياطي، وهو ما تؤكده الوثائق الأممية، فالتشكيك في تجريم الإثراء غير المشروع هو تنكر للسياسة الجنائية الرشيدة"، مشيرا إلى أن "المغرب يجب عليه أن يلائم قانونه الجنائي مع الدستور أولا، ومع قانون روما ثانيا"، ودعا الجسم التنفيذي إلى "تعليل كل البنود التي يراها غير ملائمة تجنبا لإهدار المزيد من الوقت". نقاط تستوجب الحسم عبد الرحيم الجامعي، الرئيس السابق لجمعية هيئات المحامين تحدث في الندوة ذاتها عن كون "السياسة الجنائية تبقى موضوعا معقدا يجب أن يناقش بوجود إرادة لدى الحكومة، في الوقت الذي تبين لنا وجود إرادة عليا. ونرفض التذرع بكون مشروع قانون المسطرة الجنائية يحتاج إلى مزيد من التعميق والبحث، فقد تحدث العلماء وفقهاء القانون باستفاضة في هذا الباب". وهو يتحدث عما أسماه "خطر السكتة السياسية المهددة بالسكتة الجنائية في المغرب" لفت الجامعي إلى عدد من القضايا التي رآها بمثابة "أزمات"، بما فيها قرينة البراءة والحق في الدفاع والاعتقال الاحتياطي، مشيرا إلى أن "آلاف المتهمين يقدمون في حالة اعتقال وآخرين يقبعون في السجون بدون محاكمة"، ووصف السياسة الجنائية الوطنية بأنها "غير مهتمة بالحرية". ومن بين "النقاط العالقة"، حسب المتحدث، الحكم بالإعدام والعقوبات الطويلة، حيث تساءل عن "الجدوى من الاستمرار في الحكم على المتهمين بالإعدام الذي لا علاقة له بالشرع والدين، والذي نبذته أزيد من 140 دولة"، مشددا على "أولوية حماية قرينة البراءة". الجامعي الذي كان يتحدث بحماس مستفيض سجل "حق المواطن المتهم في ضمانات في مرحلة البحث التمهيدي، التي تعتبر أهم المراحل في مجال السياسة الجنائية، حيث من المهم جدا أن يتوصل بمحاضر رسمية سليمة، وهو ما سيتحقق إن اعتمدنا على تسجيل لحظات الاستنطاق"، مبرزا ضرورة تعزيز الحق في الدفاع، حيث تساءل عن "خلفيات منع محامين من اللقاء بموكليهم على الرغم من كونه حقا مقدسا للمتهم في مرحلة المحاكمة". المحاكمة العادلة أولوية من موقعه كعضو بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ركز عبد اللطيف شنتوف في مداخلته على أهمية ضمان المحاكمة العادلة للأفراد، وأهمية الركون إلى ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد، حيث يظل المغرب "ملزما بملاءمة التشريع الجنائي مع المعايير الدولية ونصوص الاتفاقيات والمعاهدات التي تم التوقيع عليها خارج إطار التحفظ بالنظر إلى سمو هذه الأخيرة". وذكر شنتوف أن "مناقشة الموضوع والحسم فيه ليس ترفا فكريا لأن من أساسيات التقاضي ضمان محاكمة عادلة وظروف سليمة بالنسبة للمتقاضين، في الوقت الذي توفر المنظومة الدولية قواعد وآليات كفيلة بتحقيق ذلك"، لافتا إلى أن "تطويل أمد المحاكمة، على سبيل المثال، لا يمنح الإنصاف للمتهم الذي يمكن أن يقبع في السجن معتقلا لما يزيد عن السنة". ومن بين ما "لا يمكن التساهل فيه" ذكر المتحدث "الحق في المساواة أمام القانون والمحاكم، والحق في الاستعانة بمحام، والاتصال بالعالم الخارجي وقت التحقيق، فضلا عن العرض أمام قاض في وقت معقول"، مردفا "نريد أن نتلاءم مع الحقوق الدولية، لكن ليس بشكل كامل لأن هناك ما تم التحفظ عليه". وطالب عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية ب"استحضار أهمية ضرورات الحق في المحاكمة العادلة والعرض أمام محكمة متخصصة، فضلا عن حق المتقاضي في تعويضه عن أي خطأ قضائي قد يصدر في حقه".