وصل مَسار إصلاح مدونة الأسرة إلى محطة مُتقدمة وحاسِمة، بعد صدور بلاغ الديوان الملكي الذي أكد أن الملك محمدا السادس قرَّر تَكليف المجلس العلمي الأعلى بمُهمة الافتاء في بعض المُقترحات المُرتبطة "بنصوص دينية"، التي صاغَتها الهيئة المُكلفة بمُراجعة مُدوَّنة الأسرة. وتأتي هذه الإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى بعدما كانت الهيئة المُكلفة بمُراجَعة مُدوَّنة الأسرة قد أنهت أشغالها وجلسات استماعها التشاركية، وصاغَت مَرئياتها ومُقترحاتها في التقرير الذي تم تسليمه لرئيس الحكومة في 30 مارس الماضي بغرض وَضعه بين يدي الملك. وقد بدا واضحا أن بلاغ الديوان الملكي كان صريحا في مَبناه ومَعناه، عندما حدَّد مُرتكزات هذه الإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى في "الوظيفة الدينية لإمارة المؤمنين"، التي تُكرِّسُها الوثيقة الدستورية للمملكة، كما حَصر ولاية المجلس ونِطاق تدخله في النظر "في بعض المقترحات التي لها ارتباط بنصوص دينية"، والتي تَحتاج لتدخل جهة دينية رَسمية للإشراف على تأسيسها الفقهي وبَيان حُكمها الشرعي من خلال الفتوى. رسالة واضِحة لا يُمكن للمتتبع لمسلسل إصلاح مدونة الأسرة، وما واكبها من نِقاش مُجتمعي مَوسُوم بتَبايُناته الفكرية والإيديولوجية، إلا أن يُثمِن الإحالة الملكية للمُقترحات المُرتبطة بالنص الديني على المجلس العلمي الأعلى، من أجل استصدار فَتوى فِقهية، ستُشكل مَدخلا لتيسير سُبُل إدراج المُقترَحات المُعتمَدة في الصيغ القانونية التي يَقتَضيها مجال التشريع. فالكثير من المُهتمِّين بموضوع إصلاح مُدونة الأسرة يَرَون، بصيغة الجزم، أن الإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى هي بمَثابة تَرجَمة عَمَلية وتَنزيل فقهي للضابط الشَرعي الذي طالما شدَّد عليه الملك بقوله "لن أُحلل حَراما ولن أُحرم حَلالا". فهذه الإحالة تَعني في مؤداها العام أن الملك عندما قرَّر استشارة المجلس العلمي الأعلى، إنما كان يَبتَغي تَوسيع نِطاق التَشاور في الجانب الديني والفقهي لبعض المُقترحات المُرتبطة بإصلاح مدونة الأسرة، كما أنه كان يَصبُو أيضا لضمان اتِساق هذه المُقترحات مع أحكام الشريعة من جِهة، ومع ما تَسمح به فضائل الاجتهاد والاعتدال من إتاحة الفَهم المُتجدد للنصوص الدينية من جهة ثانية. ومن دون شك، سوف تَقطع هذه الإحالة الملكية، بشكل نهائي، مع سِلسلة "التَحرِيفات" التي طالت مَشروع إصلاح مدونة الأسرة في إرهاصاته الأولية، والتي تَمثلت في مُحتوَيات وتدوينات وتعليقات مُضلِّلة حاولت تشويه طبيعة بعض المقترحات المقدمة، بدعوى "تعارُضها مع مَبادئ الدين الإسلامي والثَوابت الشرعية"، التي بوَّأها الدستور المغربي مَوقِع الصدارة في تَشكيل الهوية المغربية. فتكليف المجلس العلمي الأعلى بالبَحث في مُطابَقة بعض المُقترحات ذات الخلفية الدينية مع مَبادئ الدين الإسلامي، واستصدار فَتوَى جَماعية بشأنها تَسمُو عن التأويلات الفَردية، سيَضمن بالنتيجة مُوَاءَمة هذه المُقترَحات مع سَماحة الدين الإسلامي، وبالتالي وَضع حد لنزيف التَدوين المُغرِض الذي ادعى في وقت سابق أن المَشروع الجديد جاء "ليُعارِض الشريعة ويَفرِض إملاءات غَرِيبَة عن مُكوِّنات الشعب المغربي". فالجميع يَتذكر أن هناك من حاول استغلال النقاش التمهيدي الذي صاحب مَشروع مُدونة الأسرة، ليَنشر مُعطيات مَشُوبة بالتحريف والتشويه، وَصَلَت حد ابتداع مَزاعِم من قبيل "تَقنين الزواج المُؤَقت" وخَلخَلة أحكام الفَرائِض والمَوارِيث، وهناك من رَكن للسُخرية السَمجَة لازدراء هذا المشروع، دون إلمام جيِّد بطبيعة المقترحات المقدمة ولا اطلاع على فَحوى النقاشات المُثارة داخل الهيئة المُكلفة بمُراجعة مَشروع مدونة الأسرة. فتح باب الاجتهاد رغم أن التكليف الملكي للمجلس العلمي الأعلى كان مُحدَّدا ومُقيَّدا في "الوِلاية النَوعيَّة"، التي حَصرها في النظر الشرعي وإبداء الفتوى في بعض المقترحات المرتبطة بالنص الديني، إلا أن هذا التكليف كان مُطلَقا وعاما في الشِق المتعلق بإعمال فَضيلة الاجتهاد والاعتدال لاستنباط مَصلحة الناس من رُوح النصوص الدينية. فبلاغ الديوان الملكي فتح باب الاجتهاد على مِصراعيه أمام جميع أعضاء المجلس العلمي الأعلى، ولم يُقيد سَقف تَطلُّعاته في هذا المجال، وإنما ذَكَّره فقط بالثوابت الدينية الأساسية التي طالما شَدَّد عليها الملك، وهي عدم مُخالَفة أحكام التَحريم والتَحليل. ولعل هذا هو السبب الذي جَعَل بلاغ الديوان الملكي يَتحدَّث عن كَون هذه الإحالة هي على "المجلس العلمي الأعلى"، ولم يَختص بها حَصريا "الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء" داخل المجلس العلمي الأعلى! ويَبدو أن الإرادة الملكية راهَنَت في هذا الاتجاه على التركيبة الموسعة للمجلس، وليس على هَيئة مُحدَّدة داخله، وذلك بحثا عن اجتهاد جماعي تَوافقي يَنشُد سَداد الأسرة المغربية وصَلاحها، من خلال وَضع تَرسانة قانونية مُتطوِّرة تُواكِب مُستجدّات العَصر وتَتسق مع الثوابت الدينية الآمرة. وليست هذه المرة الأولى التي يَنهض فيها المجلس العلمي الأعلى بمهام مُماثلة أو يَتلقى فيها تَكليفات مُشابِهة. فالمُتتبِّع للفتاوى التي أصدرها المجلس في السنوات الأخيرة أبانت عن تَوجُهه الإصلاحي والتجديدي، بل اتسمت في كثير من الأحيان بالجُرأة الفقهية في التيسير على الناس والبَت في القضايا المرتبطة بهم. وقد تَجلّى ذلك بوضوح في فتوى المجلس بشأن خُطة العدالة بالنسبة للنساء، وفتوى إغلاق المساجد مُؤقتا في ظل التدابير الاحترازية التي اقتضتها جائحة كوفيد-19، وكذا فتوى استخدام القنب الهندي لأغراض طِبية وعِلاجية وصِناعية. الأهداف المُتعدِّية كَشفت "الإحالة إلى المجلس العلمي الأعلى" عن إرادة مَلكية بضَرُورة إشراك العُلماء، وإطارهم التنظيمي المؤسساتي، في مُسلسل التَشاوُر المتعلق بمشروع مدونة الأسرة، خاصة في الجانب الديني من أحكامها، وذلك بالنظر إلى أنها كنص قانوني، رغم أنها تَدخُل في مجال التشريع، إلا أنها تَختَلِف عن باقي القَوانين الأخرى في كَونِها تَستَمِد أحكامها من النصوص الشرعية والمقتضيات الدينية. ولعل هذا هو السبب المباشر في تَكليف المجلس، بتركيبته المُوَسعة، بمُهمَّة النظر الشرعي والإفتاء في بعض المقترحات ذات الخلفية الدينية، وإصدار فَتوى جماعية بشأنها، لتَكُون هذه الأخيرة هي الإطار المُحدِّد لإدماجها في النصوص القانونية عند الشُرُوع في مَرحلة التشريع أمام البرلمان في الأمد المنظور. لكن سياق هذه الإحالة وعَدَم استشرافها من بداية مسلسل مشروع إصلاح المدونة، يَطرحان بعض التساؤلات المَشرُوعة، خصوصا إذا عَلمنا بأن الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى شارك فِعلا في أعمال اللجنة المكلفة بمراجعة المدونة منذ بدايتها! لكن غبش اللُبس الذي يَنبَلج من ثنايا هذا التساؤل سُرعان ما يَتبدَّد عندما نُدرِك أن الإحالة الملكية الأخيرة هي بمثابة "تَكليف بمُهمَّة" مُوَجه لجميع أعضاء المجلس وهيئاته العلمية بمُختَلَف مَشارِبها، وهو بالتالي تَكليف يَبحَث عن استصدار اجتهاد جَماعي يَتجاوَز حُدُود المَواقف الاجتهادية الفَردية. ولئن كانت هذه الإحالة الملكية قد جاءت واضحة في مُؤدَاها ومَقاصِدِها، وهي الافتاء في المُقتَرَحات المَرفُوعة إلى الملك من قبل الهيئة المُكلَّفة بمراجعة مدونة الأسرة، وفق مِعيار/ضابط واضح، هو تَعلُّقُها "بنصوص دينية"، إلا أنها اختَزَلت، في المقابل، رَسائل مُتعَدِّية القَصد، وهي التأكيد على مَركزية إمارة المؤمنين في تدبير الحَقل الديني للمغاربة، وقُدرَتها على التحكيم وتدبير النقاش بين مُختلَف الفُرَقاء المجتمعيين حتى في أكثر المواضيع حساسية بالنسبة للمجتمع. وفي المحصلة، يُمكن للمُتتبِّع لمسلسل إصلاح مدوَّنة الأسرة أن يَلتَقِط العديد من الرسائل من بلاغ الديوان الملكي الأخير بشأن الإحالة على المجلس العلمي الأعلى. أُولى هذه الرسائل هي صَدُّ الباب نِهائيا أمام الإشاعات التي طالما رَوَّج لها البعض بشأن مزاعم "مُعارَضة مُقترَحات المُدوَّنة الجَديدَة لأحكام الدين الإسلامي". أما الرسالة الثانية، فتَتمثَّل في العناية الخاصة التي يُوليها الجالس على العَرش لجميع مُشتمَلات الأسرة المغربية، باعتبارها النواة الأساسية للمجتمع، ولعل هذا هو المُنطَلَق الذي حَدا بالملك إلى تَوسيع النِقاش كثيرا بشأن القضايا الفِقهية لبعض مُقترحات المدونة، مع فَتح الباب لإعمال الاجتهاد الجماعي لتَطوير النَص التشريعي المُنظِّم لشؤون الأسرة، مُستحضِرا في ذلك انتظارات الناس ومَطالبهم وتَغيُّر أحوالهم في الزَمان والمَكان.