يشكل المواطن نواة الحياة الانسانية في مختلف تجلياتها الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية، هاته الأخيرة التي أجمعت جل بلدان العالم على ترجمتها عبر سياسات تتأسس على تقديم خدمات عمومية يتقاطع فيها الوطني والترابي. لقد اهتمت مجموعة من الدول في بناء صرح ديمقراطياتها على جعل المواطن في صلب اهتماماتها ، ما يمكننا تفسيره بأن هذا الأخير لا زال يشكل بالنسبة اليها منطلق ومن ثمة مبلغ أهدافها التنموية، ما يمكننا أن نستشفه من خلال اعتمادها لبرامج تربوية جعلت في البداية كلا من الأسرة والمدرسة مؤسستين فاعلتين في مسألة تربية النشأ، وذلك عبر مدها بكل احتياجاتها المادية ، البشرية واللوجستية من جهة، وبمواكبة برامجها وطرق تربيتها عبر وحدات اجتماعية شغلها الشاغل يتجلى في متابعة تقييم أو تقويم كل ما من شأنه المساس بالمبادئ التربوية الخاصة بالناشئة، وفي هذا الباب نسوق مثالا ناجحا ويتمثل في النموذج التربوي الفرنسي ، الذي لم يكل يوما في تدبير قضايا الأجيال عن قرب وذلك عبر نهجه لسياسة تربوية تتخذ من سياسية القرب نهجا لها، تتجسد من خلال أطر وكفاءات وطنية تختلف من حيث تخصصاتها" السوسيولوجي، النفساني، الأخصائي الاجتماعي، والاستراتيجي البنيوي الخ..، الا أنها تتوحد من حيث أهدافها، كلها أمور نجد بأنها قد ساعدت على ترسيخ مبادئ المواطنة الحقة والتي ساهمت بشكل غير مباشر في افراز رعايا يؤمنون ايمانا شديدا بأنه لا مناص من المشاركة السياسية المبنية على الانخراط السياسي الحزبي في صنع الخريطة التنموية للجميع، ما نتج عنه ميلاد شريحة تمت تسميتها بالمواطن السياسي ، هذا الأخير الذي لم يكل يوما في التعبير عن انشغالاته المقرونة بطموحاته سواء من خلال القيام بمسيرات سلمية معبرة، أو عبر احراج مسؤوليه الحزبيين سواء من خلال القنوات وعبرها البرامج التلفزية، أو من خلال الصحف والمجلات بشقيها المكتوب والالكتروني، أو حتى عبر قنوات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تشكل متنفسا واسعا لشريحة عريضة من المواطنين للتعبير عن آرائهم في القضايا المرتبطة بتدبير الشأن العام بكل مسؤولية . لقد نجحت التجربة السياسية الفرنسية من خلال ما اعتمدته من سياسات تربوية، في حصد عدة نتائج انعكست ايجابا على دورتها السياسية ومن ثمة صورة نهجها الديمقراطي أمام الدول الأخرى، وخير مثال نسوقه في هذا الباب هو صعود وزراء من أعراق مختلفة الى الحكومات الفرنسية المتعاقبة، بل وحتى نواب في السينا أو مجلس الشعب الفرنسي، شابات وشبان أبانوا عن حنكتهم في تدبير دواليب الحياة العامة عبر انخراطهم في أحزاب سياسية تؤمن بالاختلاف العرقي ، الديني واللغوي، أحزاب لا تؤمن الا بالمردودية والعمل الجاد لمناضليها، انها بالفعل حقيقة لا يمكننا التغاضي عنها لأنها بالفعل قد أبانت عن نجاحها في احتواء طموحات رعايا الدولة من خلال التشارك في أفق المشاركة جنبا الى جنب في صنع المصير التنموي للجمهورية الفرنسية. ان مفهوم المواطن السياسي يعني بالنسبة لنا في هذا المقال، المشاركة المباشرة و اللامشروطة لجميع المواطنات والمواطنين، في صنع الخريطة السياسية المنسجمة مع امكانيات الدولة من جهة، ومع طموحات الرعايا من جهة أخرى، كلها أمور لا يمكننا بلوغها في معزل عن الاهتمام بتنمية دوري مؤستتي الأسرة والمدرسة، لا لشيء الا لأنهما تعتبران بمثابة مشتل حقيقي لتربية النشأ الصالح ، وبالتالي فتنميتهما رهين بدوران عجلة التأطير السياسي المسند للأحزاب السياسية. ان المغرب وانطلاقا من اعتباره أحد مكونات الخريطة الدولية ، نجذ بأن دور المؤسستين السالفتي الذكر به، لا يمكن لأحد التشكيك في دورهما المحوريين في تربية النشأ، الا أن الأمر لم يسلم من مجموعة من المعيقات التي لا زالت تجهز على جودة نتائجهما والمتجلية أساسا في سيادة حالة من اللاتوازن وعدم الانسجام بين هاتين المؤسستين من جهة، ما يساهم في تعاظم أخطر ظاهرة لا زالت تعصف بالدور الحقيقي للأحزاب السياسية في تكوين نخب وأطر الحاضر والمستقبل والمتبلورة في ظاهرة العزوف السياسي. ان مسألة التربية المواطنة ، يمكننا اعتبارها نقطة عبور الزامية لميلاد المواطن السياسي ببلادنا، الأمر الذي يتطلب معه ضرورة اعادة النظر في علاقة الأسرة بالمدرسة، وذلك عبر فتح حوار وطني يشارك فيه جميع المواطنين ، وذلك بهدف التعرف على انشغالاتهم وطموحاتهم ومن ثمة التمكن من التعبير عنها في قالب سياسات مصالحاتية، يكون عنوانها اعادة الدور الريادي لهاتين المؤسستين الى جادة الطريق، وذلك من خلال مدها بكل الوسائل الكفيلة بنهوضها بالأدوار المنوطة بها ، في قالب استراتيجي مبني على برامج محددة الأهداف والامكانات، قائمة على التقييم القريب، المتوسط والطويل الأمد. ان مسألة التدبير السياسي المواطن ، لا بد وأن تخضغ وكما سبقت الاشارة الى ذلك الى مسألة التربية القبلية المقرونة بالتأطير السياسي البعدي، أمور لا يمكننا بلوغها الا من خلال أحزاب سياسية تتخذ من البعد المواطن نهجا لها، وذلك عبر مد جسور التعاون وتبادل الخبرات مع مؤسسات حزبية في دول أخرى كفرنسا وألمانيا، في أفق النهل من تجاربها الناجحة في هذا المجال ومحاولة تنميطها مع الواقع المغربي المرتبط في كنهه بالخصوصية المغربية المحكومة بتعدد مكوناتها العربية ، الحسانية ، الأمازيغية والريفية الموحدة تحت الوحدة الوطنية. لا يجب أن يفهم من تعرضنا لدراسة وتحليل هذا المقال بأننا بصدد جلد التجربة السياسية المغربية، بل على العكس من ذلك فلممارسة النقد الذاتي البناء والهادف الى تجاوز العراقيل التي لازالت تجهز على مسلسل البناء الديمقراطي ببلادنا، هذا اذا ما علمنا بأننا نعيش ببلد يؤمن بالتعدد السياسي، غير أن المطلوب من منظوماتنا الحزبية التسليم بمسألة الاختلاف السياسي بطريقة ايجابية تنبني على الحوار والتناظر الهادف والمبني على تحقيق النتائج في ظل المشاركة السياسية المواطنة التي لم ولن تتحقق الا في قالب ينبني على نتائج التكوين الأسري والمدرسي ، من خلال مناهج تكوينية تنبني على سياسة المختبرات العلمية الهادفة الى تكوين مواطنين على المشاركة في صناعة القرار السياسي بالمغرب. لقد أضحت مسألة افراز نخبة المواطن السياسي داخل مجتمعنا، لازمة لمسألة التنمية المتوازنة، خاصة وأن دستور سنة 2011 ، قد أخذ من مسألة المشاركة في صناعة القرار التنموي مسألة أساسية لمواصلة البناء الديمقراطي المبني على منطقي المساءلة والمحاسبة الدستوريين، والمقرونين بمشاركة الجميع في بناء الصرح التنموي للدولة في شكل تتوزع معه أدوار مختلف الفاعلين كل حسب مساهمته ، الأمر الذي سيساهم لا محالة في التخفيف من وطأة طامة العزوف السياسي التي لازالت تنخر جسم الديمقراطية الحقة ببلادنا. لقد دقت ساعة الحسم ليتحمل كل مسؤوليته في مواصلة بناء ورش النماء والازدهار الذي أصبح يشكل من بلادنا قطبا نموذجيا للاصلاح السلمي والهادف، المبني على الاهتمام بمختلف جهات المملكة لا فرق بين غنية وفقيرة منها، جهات والكل يشهد على ذلك أصبحت منطقة جذب لرؤوس أموال أجنبية وحتى داخلية ، لا ينقصها الا الرقي بالمواطن باعتباره المنتج والمستهلك والمستفيد من الخدمة ، وبالتالي فالحاجة ماسة الى اعادة النظر في برامجنا التعليمية ، وطرق تربية أسرنا ، والعمل على مد جسر التعاون والانسجام بين هاتين المؤسستين ، عبر خلق برامج موحدة يكون شغلها الشاغل هو تكوين أطر تؤمن بالمشاركة السياسية في صناعة القرار التنموي لبلدنا، الأمر الذي وان تتحقق سيمكننا لا محالة من ضمان الانخراط المباشر لأغلب المواطنين في تدبير الشأن العام ولو عبر العرائض الشعبية وذلك أضعف الايمان. وختام القول ، يمكننا الاستشهاد بأن الأم مدرسة اذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق، وعلى غرار ذلك أقول بأن الأسرة والمدرسة أم اذا أعددتها أعددت شعبا حسن العطاء. Email : [email protected]