"قل كلمتك وتحطم"- زارادشت. دعنا من الأرواح الميتة؛ تلكم التي لا تزن الشيء إلا بكفة الذاتي ولن تسع بأي حال مصلحة وطن حالم بنهضة، بأنوار وبأكبر حدث رياضي في الكون؛ ولنبق مؤقتا مع تلك النفوس الحية؛ فهي الأولى؛ لنخاطبها بمرح الحالمين: – لا شيء أقسى من أفول الروح؛ إذ لا يفتقد الحس بالمواطنة سوى معدوم الضمير. – قل كلمتك وانصرف – قل كلمتك وتحطم.. فنحن في النهاية نحيا في مسار اللانهاية؛ حيث جيل يحل محل جيل؛ وفكرة محل أخرى؛ والكل عابر من أجل مصلحة جمعية هي الأجدر بالبقاء. مناسبة القول؛ حلول دورة جديدة من المهرجان الدولي للعود بتطوان الذي سيقفل في نهاية هذا الشهر ربع قرن على انطلاقته. بدأ كدورة تجريبية بمراكش الحمراء سنة 1999؛ لينتقل في السنة الموالية إلى الحمامة البيضاء التي احتضنته ساكنتها بعشق ووفاء ناذرين؛ حتى صار محطة لا غنى عنها؛ نضجت معها فكرة أن تتبوأ آلة العود مرتبة الإرث الثقافي للمدينة. فكرة المهرجان ابتكار خالص لوزارة الثقافة المغربية؛ إذ لم نسمع عن بلد في العالم احتفى بآلة العود عبر مهرجان موضوعاتي قبل المملكة المغربية. إن كل هذه المهرجانات المخصصة لآلة العود والتي صارت تتناسل بمختلف الحواضر، إنما انبثقت بعد عقدين كاملين من نجاح الفكرة المغربية بتطوان وبإيعاز منها؛ والمفارقة أن معظمها نسخ ولصق بإمكانيات مالية هائلة في مقابل الفكرة الأصل المتواضعة ماديا؛ وهذا هو سر عظمة هذا المهرجان. لم يكن المال يوما هو سر نجاح وتألق مهرجان وتري انتصر للرقي؛ فاستمر لخمسة وعشرين دورة متواصلة؛ فهو في هذا الجانب فقير جدا ولا تمويل له خارج المخصصات المالية التي تتكلف وزارة الثقافة المغربية كاملة بتوفيرها إسوة بباقي المهرجانات الوطنية التي تختص الوزارة بتنظيمها في مختلف المدن المغربية؛ ولكن متى كان المال شاحذ الإحساس؟ على العكس يكتب ويقول التاريخ بأن إحساس الشعوب يموت دوما عندما يكثر المال وتتوارى الأفكار النيرة. هو مهرجان الذكاء؛ اختار دوما أن يرتقي بالحس عبر مخاطبة جمهوره بالأصوات فقط، ما يرغمهم على استخدام ما فوق الحواس الخمس المعتادة. بذلك، تمكن المهرجان خلال ربع قرن كامل من أن يكون منصة للدبلوماسية الثقافية؛ وجسرا للحوار بين الثقافات؛ كما نجح في أن يصير عنوانا للموسيقى العريقة لمختلف الشعوب؛ وهذا مهم جدا؛ لأن كل شيء خارج الموسيقى هو مجرد كذبة. هكذا وعلى خشبة مسرح إسبانيول التاريخي الذي أقفل في نهاية 2023 ذكراه المئوية فكان بذلك قاعة العروض الوحيدة ببلادنا التي ظلت تستقبل الجمهور طيلة قرن كامل؛ سيقدم المهرجان للجمهور المغربي ألمع العازفين المهرة على آلة العود من كل القارات الخمس؛ وأيضا على آلات وترية عريقة أخرى كالقانون والسيتار والماندولين والقيثارة وغيرها.. كما سيكرم على هذه الخشبة رواد وعمالقة الموسيقى المغربية الذين أغنوا الخزانة الموسيقية الوطنية بروائع خالدة. سيلتفت المهرجان للعازف المغربي ليبوئه المكانة التي يستحق؛ وسيقدم الأسماء الخالدة كالمرحوم الخالد الفنان سعد الشرايبي وصاحب العود الذهبي الأستاذ الحاج يونس؛ كما سيعرف الجمهور على أسماء أخرى صارت اليوم تقف شامخة إلى جوار العازفين المشارقة المهرة. سيهتم بعازفي العود من جهة طنجةتطوانالحسيمة؛ وسيطور مشاريع موسيقية مع عازفين شباب من مختلف المعاد الموسيقية بالجهة عبر أوراش مهنية؛ وبعض المجتهدين منهم سيقدمهم على خشبة المسرح بقدم المساواة مع العازفين العالميين؛ ليكتشف فيهم الجمهور أملا واعدا. لا شيء خالد أو صالح لكل العصور؛ باستثناء الموسيقى: صوت الفردوس المفقود. نعم وفق نيتشه ربما الموسيقى هي من تستمر وتخلد، بل وتعمق من حضور العلم والعقل في حياتنا؛ خصوصا عندما تكون نتاج قواعد صارمة. طبعا هذا لا يخالف منطق الإحساس، على العكس يزكيه ويثمنه. ذلك أنه وبفضل العلم والقواعد الرياضية تمكنت الموسيقى من عقلنة أوروبا في القرون الثلاث الماضية، بعدما توصل الموسيقيون الكبار إلى وضع قواعد للغنائية في موازاة مع الهارمونية. علم الهارمونيا بالذات هي التي ضمنت لموسيقى باخ، موتسارت، فيفالدي وغيرهم من العباقرة العظام هذا الخلود الأبدي. واليوم؛ نحن في المملكة المغربية التي أكدت الاستثناء، وكشفت للعالم خلال عقد مائج مضى عن روحانية من نوع خالص، وفطنة تاريخية ومجتمعية من طينة ناذرة.. في أمس الحاجة إلى مواصلة الإصلاح في كل أبعاده؛ ولعل الموسيقى بشكلها الأكاديمي القائم على إعادة قراءة التراث بمنظور عصر العلم، عبر صهر الماضي بالحاضر والمستقبل باستخدام الحس والعقل؛ هي مدخل أساسي من مداخل هذا الإصلاح الحتمي. خاصة وأن مثل هذه المنصات كالمهرجان الدولي للعود هي من تتيح للفنانين تجديد آليات العزف على الوتريات، وفي طليعتها آلة العود؛ باستخدام القواعد الرياضية، وصهر القوالب الموسيقية لمختلف الثقافات، لتطوير النظرة إلى التراث الموسيقي حتى يساير عصرنا المائج؛ وهي أيضا من ترتقي بذائقة الشعب؛ لأن المحاكاة الصوتية المجردة للامرئي الذي يتعذر وصفه بالكلمات؛ هو الجوهر الذي يتطلع إليه كل العازفين المهرة الذين مروا على خشبة مسرح إسبانيول على مدى ربع قرن من عمر المهرجان الدولي للعود بتطوان؛ وهو ما يؤهلنا كجماعة قومية لأن نصير في مستوى الشعوب القادرة على جس ومقايسة الزمن. ربع قرن، صار ضروريا بعده أن نطرح أسئلة جديدة لتطوير التجربة؛ تتعلق بمسائل المأسسة والمفاهيمية والتصورات المنسجمة وتطلع المملكة المغربية لأن تكون في قلب الحدث العالمي.. وذلك حتى لا يستنفذ المهرجان الدولي للعود أدواره؛ فينتهي كغيره من تجارب رائدة إلى مجرد أطلال بائدة. وأعود من جديد للأرواح الحية وأخاطبها قائلا بملء إرادتي الحرة: نحن نخط وأملنا ألا نكون كمن خط دوما في نقا الرمل؛ لا ريح حفظت ولا الرمل وعى..