نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    وزارة الاقتصاد والمالية: المداخيل الضريبية بلغت 243,75 مليار درهم عند متم أكتوبر 2024        في لقاء مع الفاعلين .. زكية الدريوش تؤكد على أهمية قطاع تحويل وتثمين وتسويق منتجات الصيد ضمن النسيج الإقتصادي الوطني    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    كيوسك الخميس | 80 في المائة من الأطفال يعيشون في العالم الافتراضي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت        نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطبة الجمعة .. حالة شرود
نشر في هسبريس يوم 16 - 02 - 2014

منذ مدة، ووزارة الأوقاف المغربية تسهر على تأطير الأئمة والمرشدين عبر دروس منتظمة، ووفق برنامج خاص، إلا أن واقع خطب الجمعة لا يعكس ما بذلته الوزارة من جهود، وما عبأت له من موارد بشرية ومادية، مما يدل أن الوزارة لم تخطط لهذا التأطير تخطيطا سليما يرفع من مستوى الفاعلين الدينيين، أو أنها تؤطرهم في مجالات ومعارف لا تعود عليهم بالنفع والفائدة أثناء إنشاء خطبهم ودروسهم، وبالاطلاع على الرابط أدناه، يتبين أن الوزارة لم تفلح بعد في الرفع من مستوى الأئمة، ولم تربح رهان مغرَبَتهم، وأن الكثير منهم يعيش حالة استلاب فكري وارتهان ثقافي لإيديولوجية مشرقية غريبة عن التدين المغربي المعتدل الأصيل، وإذا كانت هذه الملاحظة هي المؤطر المحوري للخطبة / العيّنة التي تدل على سواها، فإنها لا تخلو من ملاحظات أخَر نجملها في الآتي :
عدم التأدب مع النبي :
دأب المغاربة على التأدب مع الجناب النبوي الكريم بعدم ذكر اسمه مجردا، لذلك ترى أئمتهم وخطباءهم ومصنفيهم يستفتحون ذكر اسمه الشريف بالسيادة، فيقولون : "سيدنا محمد"، وما أن انفتح المغاربة على مؤلفات المستشرقين حتى فوجئوا بذكر اسمه مجردا عن صيغ التعظيم والتوقير، لأن القوم لا يتحدثون إلا عن "محمد"، وهم معذورون في ذلك، لأنهم كفار لا يؤمنون بنبوته، ولا يعتقدون أفضليته، أما عموم المسلمين الذين يحذون حذوهم فهم مسيئون للنبي أولا، ومتشبهون بالكفار ثانيا، لذلك لم يكن من السائغ أن يتحدث خطيب الجمعة حوالي عشر مرات عن "محمد"، مما يقدح في ذهن المتلقي أنه لا فرق بينه وبين عموم الناس، بل لعله أدنى منهم، على اعتبار أن أعرافنا وعاداتنا تفرض علينا أن نتحدث عن ذوي المزية والوجاهة بما يليق بمكانتهم وقدرهم، والنبي أولى منهم بلا مراء.
فقدان البوصلة :
لخطبة الجمعة مقاصد وأغراض يجب على الخطيب تحقيقها، ومنها معالجة قضايا المجتمع ومشاكله، لذلك يشترط في الخطيب أن يكون قريبا من الناس مخالطا لهم عارفا بقضاياهم، وألا يعالج قضايا لا تمت بصلة إلى المخاطَبين، من هنا كان موضوع الخطبة أدناه غريبا عجيبا، إذ كيف يخصص الخطيب خطبة بكاملها للحديث عن الغلو في تعظيم وحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ مع العلم أن عموم الأمة اليوم في غفلة عن النبي، بل لا أكاد أبالغ إذا قلت بأن كثيرا من أبناء الأمة - شبابا وشيبا – هم في جهل مطبق عن كثير من الخصائص النبوية والحقائق المحمدية، لذلك كان حريا بالخطباء أن يجعلوا التعريف بالنبي وسرد خصائصه والترغيب في حبه ومزايا التعلق به موضوعا لخطبهم بين الفينة والأخرى حتى يتم إصلاح أحوال الأمة، أما التحذير من الغلو في حب النبي فلا يعدو أن يكون جهادا في غير عدو، وأمارة على فقدان البوصلة التي تمنع الخطيب من الضلال والتيه.
الأخطاء العلمية :
1 – استدل صاحب الخطبة أدناه على ذم الغلو بغلو أهل الكتاب المنصوص عليه في القرآن "يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق"، وهذا الدليل غير صالح للاحتجاج به في موضوع الخطبة، لأن الغلو الذي وقع فيه أهل الكتاب هو تأليه سيدنا عيسى عليه السلام، أما المسلمون فلم يقولوا بألوهية سيدنا محمد وإن بالغوا في مدحه والثناء عليه، وقد نبه على ذلك حسّانُ عصره الإمام البوصيري حين قال :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ** واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أما الاستدلال بالآية على الغلو في مدح وحب النبي فهو الغلو عينه، لأنه من باب تنزيل الآيات الخاصة بأهل الكتاب على المؤمنين الموحدين، وهذا خطأ ما كان ينبغي الوقوع فيه.
2 – أورد الخطيب حديث "لا تطروني ..." مورد الاستدلال والاحتجاج، وهو ما لا يستقيم، لأن الحديث تضمن تشبيها واضحا لا لبس فيه ولا غموض، حيث نهى النبي أمته أن يتشبهوا بالنصارى في إطرائهم لعيسى، ومعلوم أن إطراءهم كان تأليها له، لذلك نهانا النبي من خلال هذا الحديث عن تأليهه، أما ما سوى ذلك من الإطراء والمدح فلا يماثل ولا يشابه إطراء النصارى لعيسى، لذلك لا دليل لأحد على ذمه ورفضه.
نعم، لو قال النبي : "لا تطروني" فقط، لكان كل مدح فيه مذموما، أما وقد تضمن النص تشبيها فما على القوم إلا الرجوع لصغار مقررات البلاغة لفهم النص فهما سليما.
3 – ضرب الخطيب أمثلة على غلو الناس في تعظيم النبي، ومنها قولهم أنه يعلم الغيب، واستدل لذلك بآيتين : "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"، و"قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب"، واستند على النصين ليبين خطأ هؤلاء المُغالين، ثم ما لبث أن نقض تقريره، حيث قال : "صحيح، إنه أخبر ببعض المغيبات، لكن ذلك كان بوحي"، وهذا تخصيص من الخطيب نفسه يدل على علم النبي بالغيب وإخباره به، فماذا بقي له بعد هذا التخصيص ؟
نعم، إن علم النبي بالغيب من عدمه أمر خلافي يجب أن تتنزه عنه المنابر، ويجب قصر الخطب على القضايا المجمع عليها، والمتفق حولها، أما القضايا الخلافية فهي مما تناقشه النخب في منتدياتها الخاصة، وذلك بالمناظرة والمناقشة المبنية على عرض الأدلة وبسطها.
وتنويرا للقراء، نورد حديثين، أولهما عن ابن عمر أن النبي قال : "أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس"، وثانيهما عن حذيفة قال : "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك فيه شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، إنه ليكون منه الشيء قد كنت نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه".
هذان الحديثان يدلان على أن النبي أوتي من العلوم والمعارف وسائر المغيبات، قال القاضي عياض : "وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ بَحْرٌ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلَا يُنْزَفُ غمره وهذه الْمُعْجِزَةُ من جُمْلَةِ مُعْجزَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى الْقَطْعِ الْوَاصِلِ إلينا خَبَرُهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لِكثْرَةِ رُوَاتِهَا واتّفَاقِ مَعَانِيهَا عَلَى الاطّلاعِ عَلَى الْغَيْبِ"، وقد جزم كثير من المتأخرين أن الفتح الإلهي على سيدنا محمد كان مستمرا متواصلا إلى أن أعلمه الله بالخمس، وخصص المسألة بالتأليف غير واحد من العلماء، ولم يتخلف المغاربة عن الإسهام في هذا النوع من التأليف، حيث سأل أحمد بن عبد الحي الحلبي دفين فاس العلامةََ المحدث عبد الملك التجموعتي قاضي سجلماسة عن وجه الصواب في المسألة فأجابه برسالة "ملاك الطلب وجواب أستاذ حلب" جزم فيها بأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الخمس، ورجح العلامة المحدث عبد الله بن الصديق الغماري علم النبي بالخمس قبل خروجه من الدنيا، "لأنه لم يزل يترقى في العلوم والمعارف كل يوم، بل كل كل لحظة"، وأورد عدة أحاديث تدل بعمومها على ذلك.
التدليس على المصلين :
بتتبع الخطبة أدناه، يتبين أن الخطيب عمد إلى التدليس على المصلين، حيث أراد أن يمرر ما يعتقده من أفكار مع نسبتها إلى العلماء (هكذا بالتعميم)، وأمثلة ذلك :
1 – العلماء يقولون : أصحاب المبالغات يريدون إثبات أشياء للنبي، فإذا ثبتت أثبتوها لأنفسهم.
2 – قال العلماء : من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حبا واتباعا للنبي أقلهم غلوا فيه، لا سيما أصحابه ومن يليهم. وأضعفهم إيمانا وأقلهم اتباعا هم أشد غلوا في النبي.
3 – قال العلماء : حتى التوسل لا نتوسل بمحمد ولا بجاه محمد.
هذه مقولات ثلاث، نسبها صاحب الخطبة أدناه إلى العلماء، ولست أدري من هم ؟ وما هي أسماؤهم وأوصافهم لنعرف حقا هل هم علماء أم لا ؟
أما المقولتان الأولى والثانية فالمتأمل فيهما – صياغة ومضمونا - يعلم يقينا أنهما صادرتان عن أناس ليست لهم مسكة من علم، أما أن يكونوا "علماء" فدون ذلك خرط القتاد، لكن الخطيب طرز بهما خطبته وتوسل بهما ليصل إلى مراده ومبتغاه، وهو أن الشيوخ الذين قالوا بعلم النبي للغيب كان مرادهم أن يثبتوا ذلك للنبي أولاً، ثم لأنفسهم ثانيا.
أما المقولة المتعلقة بالتوسل، فنسبتها إلى العلماء تدليس كبير، وإيهام للمستمعين على أنها إجماع منهم، مع أنها قضية خلافية، ولولا ضيق المجال لأوردت عشرات المؤلفات المبيحة للتوسل، ومائات الأقوال الصادرة عن علماء الإسلام عبر العصور التي تدل على الجواز.
سوء الفهم :
إضافة إلى ضرورة اجتناب الخطيب للقضايا الخلافية، يجب عليه أن يتحرى فهم الأقوال والنصوص وأن يبذل وسعه في ذلك، لكيلا يمرر الفهم السقيم لعموم المصلين، ومثل ذلك ما قاله الخطيب في الخطبة أدناه، أن من المغالين في حب النبي وتعظيمه يقولون بأن الله لم يعط للنبي قدره حقيقة، واستدل لذلك بقول البوصيري :
لو ناسبت قدرَه آياتُه عظما ** أحيى اسمه حين يُدعى دارس الرمم.
والبيت يعني أنه لو كانت عظمة النبي موجودة لطلع الميت من قبره بمجرد قولنا "يا محمد".
هذا بيت البوصيري، وهذا فهم الخطيب، فما وجه الصواب ؟
يعني هذا البيت ببساطة أن النبي عظيم القدر جليله، وهو أشرف المخلوقين بلا نزاع، وهو أشرف وأعلى منزلة من الملائكة الكرام عليهم سلام الله، لذلك كانت آياته – على عظمها – أقل مكانة منه، ولو ناسبت قدره وعظمته لكان مجرد ذكر اسمه يحيي الموتى.
قد يلتبس البيت على بعض العوام لما تضمنه من ذكر إحياء الأموات، وأن هذا من خصوصية الرب جل وعلا، وهذا صحيح، لكن البوصيري لم يقل عكس هذا، بل هو مقرر له مبرهن عليه، حيث ربط استحالة إحياء الموتى لمجرد ذكر الاسم الشريف وجعلها مماثلةً لقضية مستحيلة أخرى وهي وجود مخلوق/آية مناسبة لقدر النبي العظيم، لذلك قال الإمام الطاهر بن عاشور الجد في شرح البردة : "لو كانت آياته على قدر مقامه مماثلة له في العظمة لكان من آياته أن اسمه مهما ذكر أحيى الله به البالي من العظام الذي لم يبق له أثر ببركة ذكر اسمه عنده".
وبما أن القضية محصورة عند البوصيري في الاستحالة فما قيل في معنى البيت يدل على سوء الفهم وقصر النظر، ولو تأمل المرء ما قاله البوصيري قبل هذا البيت وبعده لعلم حقيقة معناه دون جهد.
قال البوصيري بعد أن حصّن نفسه من الوقوع في الإطراء المذموم بالنص :
وانسب على ذاته ما شئت من شرف ** وانسب إلى قدره ما شئت من عِظَم
فإن فضل رسول الله ليس له ** حد فيعرب عنه ناطق بفم
لو ناسبت قدره آياته عظما ** أحيى اسمه حين يدعى دارس الرمم
لم يمتحنا بما تعيا العقول به ** حرصا علينا فلم نرتب ولم نَهِم
يقرر البوصيري في هذه الأبيات جواز نسبة كل شرف وسؤدد للنبي شريطة ألا يكون من خصوصية الألوهية، وأن المرء وإن تفنن في ذلك فلن يصل إلى الحقيقة الأحمدية ليعرب عنها بفمه، من ذلك قول أحد الصحابة : "لم أر قبله ولا بعده مثله"، لذلك كانت آياته – وإن كانت عظيمة القدر – أدنى منه صلى الله عليه وسلم، ولو تعرفنا على عظمته حقيقة لأصيبت عقولنا بالعياء، لذلك حُجبت عنا كثير من حقائقه من باب : "حدث الناس على قدر عقولهم"، ليختم البوصيري هذا المقطع ببيت يدل بوضوح وجلاء على بشرية النبي وعدم إعلائه إلى درجة الألوهية :
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ** وأنه خير خلق الله كلهم.
لقد عرف البراق قدرَ النبي فارفضّ عرقا لحيائه وخجله منه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. وعرف الحجر والشجر والجذع والدواب قدر النبي وعظمته، وعرف الطعام قدر النبي فسبح بين يديه، ولكن البشر لا يعلمون.
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ** قومٌ نيامٌ تسلّوا عنه بالحُلُم
الاستدلال بالأحاديث الضعيفة :
كثيرا ما يستدل الخطباء والوعاظ في مساجد المملكة بأحاديث ضعيفة وموضوعة، وذلك لقصور هممهم في البحث، أو لضعف ملكتهم في هذا العلم، ومن ذلك ما وقع في الخطبة أدناه، حيث استدل صاحبها بحديث "إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله"، وهو حديث رواه الطبراني عن ابن لهيعة، وحديثه لا يُقبَل إلا بشروط عند البعض، وهي غير متوفرة هنا، وبعض العلماء يضعف حديثه مطلقا، إضافة إلى أنه مروي عند الإمام أحمد بلفظ : "لا يُقام لي، إنما يُقام لله"، وهو رد من النبي على أبي بكر الذي قال : "قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق"، وهو رد يبين النهي عن القيام وليس النهي عن الاستغاثة كما هي رواية الطبراني، وفضلا عن هذا الاضطراب، فالحديث ضعيف السند لوجود ابن لهيعة كما سبق، ووجود راو مجهول.
النبي يأمر بالغلو في حبه :
لم يتناقل علماء الأمة عبر العصور النهي عن الغلو في حب النبي على اعتبار أنه الأصل الأصيل الذي لا يجوز لأحد أن يتخلى عنه، لذلك قال البدر الزركشي : "كل غلو في حقه تقصير"، وما ذلك إلا لأن النبي أمر بذلك الغلو حين قال : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، وأمر بذلك حين نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة حب المسلم للنبي أكثر من حبه لنفسه، ولو كان النبي يطالبنا بالاعتدال وعدم الغلو في حبه لنبهنا إلى الاكتفاء بحبه مثل حبنا لأنفسنا وكفى.
غلو الصحابة في حب النبي :
من الصعوبة بمكان أن أستقصي وأستوعب الأحداث والوقائع التي تدل على غلو الصحابة في حب النبي، لذا نكتفي بذكر الآتي :
1 – كان رجل عند النبي ينظر إليه ولا يطرف، فقال له النبي : ما بالك ؟ فأجابه : بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر إليك.
2 – من فرط وغلو الصحابة في حب النبي أنهم كانوا يتمنون إسلام أقارب النبي أكثر مما يتمنون إسلام أقاربهم، ولما أسلم أبو قحافة والد أبي بكر قال أبو بكر للنبي : "والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقرَّ لعيني من إسلام أبي قحافة، وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك"، ولم ينه النبي أبا بكر عن هذا الغلو.
3 – كان الصحابة يبتدرون وَضوءه وكادوا يقتتلون عليه، أليس هذا من الغلو ؟
4 – قال البراء : كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر فأؤخر سنين من هيبته. أليس هذا غلواً ؟
غلو الإمام مالك في حب النبي :
أفتى الإمام مالك فيمن قال "تربة المدينة رَدِيَّة" بضربه ثلاثين درة، وأمر بحبسه وكان له قَدر، وقال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دُفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم يزعم أنها غير طيبة ؟
بناء على ما سبق، يتبين أن من ينهى عن الغلو في حب النبي ومن يحذر من ذلك مخالف للنبي صلى الله عليه وسلم، ومخالف لنهج الصحابة الكرام، ومخالف للإمام مالك رضي الله عنه.
لذا، نلتمس من وزارة الأوقاف أن تشمر عن ساعد الجد في تكوين الأئمة والخطباء تكوينا علميا يحصنهم من الارتماء في أحضان الأفكار والتيارات الفكرية غير الأصيلة، وأن تمد القيمين الدينيين ببعض الكتب المهمة كالشفا للقاضي عياض وغيره من الكتب السهلة التي لا يعسر عليهم مطالعتها والنهل منها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* باحث في الدراسات الإسلامية
رابط الخطبة :
https://www.youtube.com/watch?v=Eq4xFHYPjjM


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.