يوما بعد يوم يتقلص دور القطع والأوراق النقدية لصالح البطائق البنكية، فبإمكان الواحد اليوم أن يؤدي فاتورة الهاتف، وأن يتبضع في الأسواق الممتازة عن طريق بطاقة بنكية، بل بإمكانه أن يزود سيارته بالبنزين، ويقضي العديد من المآرب الأخرى وليس في جيبه غير بطاقة. وقد يشتري ما يريد دون أن يبرح مكانه عبر ما يسمى بالتجارة الإلكترونية. لندع هذا المشهد ونعود إلى مشاهد من القرون الوسطى حيث كان نظام المقايضة هو السائد فيها، وكان مجال تداول القطع النقدية محدود جدا. فما قصة هذه القطع النقدية التي كان التعامل بها محصورا، ثم اكتسحت البلاد، لتبدأ في التراجع مجددا متنازلة عن العديد من مواقعها لصالح البطائق البنكية؟ دور السكة ذكر الحسن بن محمد الوزان، الملقب بليون الإفريقي، في كتابه "وصف إفريقيا" بعض المدن المغربية التي كانت فيها دور السكة، إذ كانت واحدة بمدينة فاس لسك الذهب والفضة، وأخرى في مراكش، وثالثة في تزنين خاصة بالفضة، وأخرى بتيوت نواحي سوس لسك الحديد، وفي كل من هسكورة وأزمور وسبتة. لكن رغم ذلك كان نظام المقايضة هو السائد كما أن النقود قد تختلف حسب المناطق. فالفضة، كما ذكر الوزان، لم تكن تستعمل في سوس ومصمودة وهسكورة إلا حليا للنساء، ولا يتعامل بها أحد. ويشير عبد العزيز بن عبد الله في كتابه "الدارالبيضاء عاصمة المغرب الاقتصادية منذ ألف عام" إلى أن النقود المغربية كانت نوعان: حقيقية مسكوكة كالدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلس المصنوع من معدن البليون، ونقود غير حقيقية لأن معظمها غير موجود، وإنما تتخذ أساسا ومقياسا لغيرها من النقود، ومنها المثقال العربي الذي كان يساوي في القرن الثاني ما بين 10 و15 أوقية وما بين 40 و60 موزونة. الدينار المغربي كان وزن الدينار المغربي يتراوح بين 4.729 غرامات و4.25 قبل أن ينخفض وزنه إلى 3.96 أيام حكم المرابطين، ليرتفع وزنه مرة أخرى في عهد الموحدين الذين حاولوا العودة به إلى وزنه السابق وتقليد الأوائل في ذلك. وظل الدينار في عهد الموحدين مربع الشكل لمدة قرن كامل، إلا انه أخذ شكلا دائريا مع المرينيين دون أن ينقص وزنه. لكن في عهد العلويين بلغ وزن الدينار ثلاث غرامات ومنذ عهد المولى إسماعيل أبطل التعامل بالدينار الذهبي باستثناء نوع صغير منه ضرب في الرباط سنة 1787، لينتهي عهد التعامل بالمثاقيل الذهبية التي استعيض عنها بمثاقيل قياسية من فضة، وكان الدينار الفضي وقتئذ يزن 28 غراما، وصار وزن المثقال القياسي يتناقص إلى أن وصل 1.78 غرام. المغاربة أول من تعامل بالدرهم أما بالنسبة للدرهم فقد ذكر الباحث عبد العزيز بن عبد الله إلى أنه قد عثر في مدينة وليل على ستة دراهم سكت في "واسط"، وهو مقر الحجاج بين البصرة والكوفة، سنة 713م. ودراهم ضربت سنة 737 وأخرى على نوعين ضربت سنة 787، ودراهم سكت باسم خلف بن الماضي سنة 791 وأخرى باسم المولى إدريس سنة 799. وبالعثور على درهم المولى إدريس يتأكد أن المغرب الأقصى هو أول بلد في المغرب العربي والأندلس سك الدراهم. وذكر ابن بطوطة في رحلته أن دراهم المغرب صغيرة وفوائدها كثيرة. وذكر الناصري في "الاستقصاء" أن المولى محمد بن عبد الرحمان أمر بضرب الدرهم سنة 1868 وأمر بالاعتماد عليه وحده في المعاملات والأنكحة والعقود، وأرجعه إلى أصله الذي أسسه سلفه وقيمته عشرة دراهم في المثقال، وكان السلطان المغربي محمد بن عبد الرحمان يعاقب كل من خالف ذلك. و"الدرهم الحسني" أو "الحسني" كما كان معروفا فقد كان يساوي العشر الواحد من الريال. وقد أضاف المولى عبد العزيز إلى الريال أربعة نقود من البرونز. وكان الدرهم الفضي الصحراوي، الذي يتعامل به في الصحراء، مربعا في عهد الموحدين، لكنه كان مدور الشكل في الغالب. وكان يحمل في أحد وجهيه اسم مكان السك وفي الوجه الآخر قيمته وقد تم سك الدرهم الصحراوي في عهد السلطان المولى سليمان، وانخفض وزنه من غرامين وربع إلى غرام ونصف، وكان يحمل اسم السلطان الذي سكه. واستمر هذا النظام إلى عهد السلطان الحسن الأول العلوي، قبل أن يظهر الشكل الجديد للدرهم والأوراق النقدية وتتناسل بشكل مطرد. يوم كانت المقايضة هي السائدة كان التبضع عملا شاقا يتطلب مجهودا كبيرا، ما جعل العديد من المغاربة يتعاملون ببعض المعادن النفيسة كالذهب والفضة التي تحولت مع مرور الوقت إلى قطع نقدية يتعامل بها، لكن ندرتها دفعت الإنسان المغربي إلى اتخاذ قطع نقدية قياسية من معادن رخيصة، إلى أن صار سك النقود عملا من اختصاص السلطان. واستمر هذا التطور إلى أن أصبحت المعاملات التجارية جد معقدة كما هي عليه اليوم.