في ظل الاختيار الديمقراطي لبلادنا، تظل الأحزاب السياسية هي الشريك الأساسي في عملية صنع القرار والتعبير عن طموحات المجتمع وتطلعاته ووسيلة لتحقيق طموحاته السياسية والاجتماعية، لكن هاته الممارسة لا تخلو من إكراهات مرهونة بالنزاهة والشفافية داخل الأحزاب وتعزيز الثقة بينها وبين المجتمع، وهذا ضروري لإعادة الثقة بين الأحزاب وقواعدها، فمن خلال التوازن بين دور الأحزاب السياسية كوسيلة لتصريف طموحات المجتمع وبين الحاجة الملحة لإرساء مبادئ النزاهة والشفافية، إلى جانب خطب جلالة الملك، بطبيعة الحال، الذي ما فتئ يدعو إلى تعزيز الشفافية والنزاهة في الحياة السياسية، وتحقيق المصالح العليا للوطن والمواطنين دون النظر إلى الانتماءات الحزبية، نحو تشكيل مستقبل أكثر تقدمًا ونضوجًا لحياة السياسية في بلادنا. يمكننا تحقيق تطلعات المجتمع نحو نظام سياسي يعكس مبادئ العدالة والمساواة. ومن أجل الاستجابة لهاته الحاجة الملحة، يأتي مفهوم "ميثاق الأخلاق السياسية" كأداة أساسية لتحديد المعايير الأخلاقية والسلوكية التي يجب على الأحزاب الالتزام بها أثناء تأدية دورها السياسي. وفي هذا السياق، ظل حزب الأصالة والمعاصرة في طليعة الأحزاب التي تفاعلت مع الرسالة الملكية بمناسبة الذكرى 60 لتأسيس البرلمان المغربي وسارع لتشكيل لجنة للاشتغال على ميثاق الأخلاقيات، وفتح مشاورات واسعة بين أعضاء المجلس الوطني لتلقي مقترحاتهم. وتفاعلا مع هاته الدينامية والتزاما منا بقيم الشفافية، النزاهة، والعدالة، والمساواة. وإيماننا بضرورة تعزيز هذه القيم في جميع جوانب عملنا الحزبي والسياسي. نقدم هاته المقترحات التي نجدها تساهم في توفير إطار عمل أخلاقي يرسي معايير للسلوك الأخلاقي ونتمنى أن تكون إضافة نوعية للنقاش الدائر في هذا الموضوع. أولا: ترسيخ الشفافية والنزاهة كأسس للعمل السياسي الالتزام بالشفافية والنزاهة هو السبيل نحو تعزيز الثقة بين الحزب والمجتمع، ويسهم في بناء علاقات قائمة على الثقة والاحترام. فالشفافية تعني توفير المعلومة الضرورية بشكل دقيق وشفاف لجميع أعضاء الحزب وكذا للرأي العام، كما أن النزاهة يجب أن تكون عنوان ممارسة جميع أنشطة الحزب. إن توفير المعلومة للأعضاء بشكل كامل تمكن جميع من فهم المواقف والقرارات التي يتخذها الحزب، وهذا يخلق بيئة عادلة للعمل لجميع الأعضاء بشكل متساوي وتمثيل عادل للجميع داخل الحزب وفي الحق للوصول للمعلومة وإبداء الرأي، وهذا لا يتم إلا بخلق قنوات اتصال مفتوحة وشفافة تسمح بالرقابة والمساءلة من قبل الأعضاء وعموم المواطنين. مع ضرورة التشديد ضد اي تضليل أو غش في الأنشطة الحزبية، وهذا يستدعي الالتزام الكامل بتقديم خدمة صادقة وفاعلة من طرف أعضاء وهياكل الحزب ومنتخبيه. إن توفير فرص متساوية لجميع الأعضاء في الترقي في هياكل الحزب وتولي المسؤوليات يجب أن يكون أمرا مقدسا، سواء كان العضو في العاصمة أو تخوم الصحراء أو القرى النائية وقمم الجبال، وأن لا يكون الحزب في قبضة لوبي أو مجموعة أو يدار بعقلية الشيخ والمريد، كما يجب مراعاة النزاهة والشفافية في عمليات التعيين في المهام الاستشارية والدواوين وأن تكون الكفاءة معيارا أساسيا، وبهذا الصدد يجب التشديد على حماية الأعضاء الذين يوجهون انتقادات بناءة، وذلك بتطوير سياسة واضحة تحمي الأعضاء من أي انتقام أو تهديدات نتيجة انتقاداتهم لسوء التدبير أو الممارسات غير الأخلاقية داخل الحزب، ويجب أن نؤمن بأن تقدم الحزب وتجويد عمله هو رهين بالإنصات للأصوات المختلفة والناقدة وليس بالاكتفاء بالمصفقين الذين تحركهم المصالح الفردية على حساب مصالح الحزب ومكانته. إن تطور الحزب لن يتم إلا بتشجيع النقاش الحر والمفتوح وضمان أن يكون هناك منتديات وجلسات منظمة بانتظام تتيح للأعضاء التعبير عن آرائهم واقتراحاتهم بحرية وأمان، والعمل بكل جدية على مكافحة الفساد والممارسات غير الأخلاقية، واتخاذ إجراءات حازمة ضد المتورطين فيها. ثانيا: الآليات التطبيقية إن سن ميثاق للنزاهة والشفافية غير كاف بدون وضع آليات واضحة لتطبيقه، وتقديم تقارير دورية حول التقدم المحرز والتحديات التي تواجه تطبيقه، وإجراء تقييمات دورية لمدى فعالية الميثاق وتحديثه حسب الحاجة، في ضوء التغيرات السريعة في المجتمع والمشهد السياسي، ومن ثمة ينبغي على الحزب أن يلتزم بمراجعة ميثاق الأخلاقيات السياسية كل خمس سنوات أو كل مؤتمر لضمان تكيفه مع الحاجات الجديدة والظروف المتغيرة، وذلك من خلال مشاركة واسعة من القواعد الحزبية والخبراء في القانون والأخلاقيات مع توفير قنوات مباشرة وفعالة للإبلاغ عن أي انتهاكات أو مخالفات للميثاق، مع ضمان السرية والحماية للمبلغين، وإنشاء آليات مستقلة لرقابة وتقييم تطبيق القوانين والأخلاقيات داخل الحزب، مع إمكانية فرض عقوبات على المخالفات وتطوير آليات فعالة للتعامل مع الشكاوى وحل النزاعات داخل الحزب، وهنا نرى أن من الأولويات إطلاق منصة إلكترونية تسمح للأعضاء بتقديم ملاحظاتهم، تظلماتهم، واقتراحاتهم بشأن تحسين العمل الحزبي مباشرةً إلى الهيئات القيادية للحزب مع الالتزام بتقديم إجابات وردود داخل آجال محددة، وتسهل التواصل الفعال بين الأعضاء وتنظيم اجتماعات دورية يمكن للأعضاء أثناءها التحدث مباشرة مع قادة الحزب لمناقشة قضايا وطرح التخوفات والتظلمات. إلى جانب تشجيع ثقافة التحسين المستمر والابتكار في ممارسات الحزب الأخلاقية عبر توفير برامج تدريبية منتظمة حول الأخلاقيات والنزاهة لضمان أن جميع الأعضاء مطلعون على معايير الحزب، ولتعزيز فهمهم للقوانين والأخلاقيات الحزبية. ثالثا: مراقبة المنتخبين والبرلمانيين إن المنتخبين والبرلمانيين هم واجهة الحزب ومرآته أمام المجتمع. وبالتالي، يجب إنشاء لجان مستقلة داخل الحزب لمراقبة سلوك المنتخبين والبرلمانيين وضمان التزامهم بمعايير الحزب الأخلاقية والتزاماتهم الانتخابية تجاه قواعدهم وتواصلهم معها والآليات التي يتبعها المنتخب لتلقي الشكاوى والتظلمات والملفات الترافعية من المواطنين، ومن أجل تمثيل مشرف للحزب، يجب على المنتخبين والبرلمانيين تقديم تقارير عن أنشطتهم ومبادراتهم بشكل دوري لتعزيز الشفافية والمحاسبة. رابعا: الشفافية في التمويل والإنفاق ينبغي على الحزب العمل على تطوير نظام مراقبة شفاف للتمويل والإنفاق يتيح لجميع الأعضاء الاطلاع على مصادر التمويل وكيفية إنفاق الأموال، وتقديم تقارير مالية دورية تتضمن تفاصيل كاملة للمداخيل والمصاريف مع ضرورة إتاحتها للعموم على المنصة الإلكترونية للحزب بهدف المساعدة في الحد من الفساد وتعزيز الثقة بين الأعضاء والقيادة. خامسا: أعضاء المجلس الوطني إن المجلس الوطني بصفته برلمان الحزب يقتضي التشديد في مسألة مراعاة الكفاءة والنوعية في عملية انتخاب أعضائه بعيدا عن الولاءات الفردية والمصلحية والزبونية، كما يجب وضع آليات تجبر أعضاء المجلس الوطني على حضور دوراته وكذا المشاركة الفعالة في لجانه، وقطع الطريق على الأعضاء الذين يسعون فقط للقب عضو المجلس الوطني بدون أي فعالية أو مشاركة مؤثرة. سادسا: إشراك الشباب والمرأة لضمان مشاركة فاعلة ومتزايدة من الشباب والمرأة، يجب أن يلتزم الحزب بتطوير وتنفيذ برامج تدريبية متخصصة تركز بشكل خاص على تمكين هذه الفئات الحيوية، والهدف من هذه البرامج هو إعداد الشباب والنساء لتولي مواقع قيادية ضمن الحزب، مما يكفل لهم القدرة على المشاركة بشكل فعال في صنع القرار وتوجيه سياسات الحزب نحو الافضل. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على الحزب أن يعمل على وضع وتنفيذ سياسات تضمن التمثيل العادل للنساء والشباب في جميع اللجان والمؤتمرات، ليس فقط كمشاركين بل كقادة فعليين قادرين على إحداث التغيير وعلى نحو يعكس إيمان الحزب بأهمية التنوع والشمولية في تعزيز العمل السياسي ويساهم في بناء قاعدة قوية قادرة على تلبية تطلعات واحتياجات المجتمع بأسره. سابعا: إلزامية احترام رسمية الأمازيغية نعترف في حزب الأصالة والمعاصرة بأن الهوية الأمازيغية تشكل جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني المغربي، فهي لغة رسمية حسب الدستور المغربي وحسب مخرجات المؤتمر الخامس. وبالتالي، نلتزم بالعمل على تعزيز الوعي والاحترام للثقافة واللغة الأمازيغية ضمن جميع أنشطتنا الحزبية والسياسية. وتعزيز حضورها والإلزام بأن تكون اللغة الأمازيغية لغة رسمية في جميع الوثائق والمحافل الحزبية، ولأننا لاحظنا في السابق ردة تجاه الأمازيغية وتهميشها داخل أنشطة الحزب، ولكي لا نتركها مرهونة بمواقف شخصية للمسؤولين، يجب أن نضع ضوابط واضحة لتجريم أي تصرفات أو تصريحات تمييزية ضد الأمازيغية أو المتحدثين بها، أو تغييبها في اللافتات والمنشورات، إذ يجب أن تتخذ إجراءات صارمة ضد أي عضو أو منتخب ينتهك هذه الضوابط، مع ضمان توفير آليات للإبلاغ عن مثل هذه التصرفات ومعالجتها بفاعلية، كما ندعو لدمج اللغة الأمازيغية في برامجنا التدريبية والتوعوية لضمان وصولها إلى جميع الأعضاء وتعزيز فهمهم واحترامهم لهذا المكون الثقافي المهم. وإشراك المدافعين عن هاته القضية في صنع القرار وفي المناصب القيادية، والسعي لضمان تواجدهم في جميع المستويات التنظيمية. ثامنا: تجارب ناجحة حول العالم هناك العديد من الأمثلة الناجحة حول العالم بخصوص كيفية تبني وتطبيق ميثاق الأخلاقيات السياسية داخل الأحزاب السياسية، وقد أسهمت هذه المبادرات في بناء ثقة قوية بين الأعضاء والناخبين، مما أدى إلى استقرار الأحزاب وتوسيع قواعدها الشعبية. على سبيل المثال، يتبنى الحزب الديمقراطي الجديد في كندا بشكل فعال ميثاق الأخلاقيات الذي يسهم في تعزيز الشفافية والنزاهة في جميع مستويات الحزب إلى جانب الالتزام بالمحاسبة والمشاركة الجماعية في صنع القرار. وفي المملكة المتحدة، أسس حزب العمل لجانا خاصة للتحقيق في الشكاوى والتأكد من التزام الأعضاء بالمعايير الأخلاقية، كما عمل الحزب ذاته على تعزيز التنوع والشمولية في جميع مستوياته. وفي الشرق الأوسط، يبرز حزب العدالة والتنمية التركي، الذي يتبع ميثاق أخلاقيات داخلي يحتوي على إرشادات صارمة بخصوص السلوكيات والممارسات داخل الحزب وفي الساحة العامة. أما في الهند، فحزب الشعب الديمقراطي يعد مثالا رائدًا في استخدام التكنولوجيا لتعزيز الشفافية وهو معروف بتبنيه لمكافحة الفساد والشفافية كجزء من منهجه الأساسي، مما ساعد على توسيع قاعدته بشكل واسع، خاصة بين الشباب. في ختام هذا النقاش، يجدر بنا الإشادة بجهود حزب الأصالة والمعاصرة في سعيه الدؤوب نحو ترسيخ ميثاق أخلاقيات سياسي يُعزز قيم النزاهة، الشفافية، والمساواة. ونأمل أن تُشكل هذه المقترحات إضافة قيمة للنقاش الدائر حول أخلاقيات العمل السياسي في المغرب، مما يُعزز من دوره كمحرك رئيسي للتغيير الإيجابي داخل المجتمع. ونؤكد على أهمية الاستمرار في الحوار والتشاور، ليس فقط داخل الأطر الحزبية ولكن أيضًا مع كافة شرائح المجتمع، لضمان التطبيق الفعال لهذه المبادئ والتحقق من مدى نجاحها على أرض الواقع. ونتطلع إلى أن تُلهم هذه الجهود أحزابا أخرى وأن تُسهم في رفع مستوى الوعي والممارسة السياسية في بلادنا نحو آفاق أرحب من الديمقراطية والعدالة.