شخصياتٌ أكاديمية ومسؤولة بارزة تستمر في تذكّر مناقب وعطاءات عميد الأدب المغربي الراحل عباس الجراري، بعد عمر أسّس فيه درس "الأدب المغربي" في الجامعة المغربية، وخرّج أجيالا من المتخصصين في شعرِ ونثر وفكر وثقافة المملكة والعالم العربي والإسلامي، فضلا عن مسؤوليات شغلها مستشارا ملكيا، ورئيسا للمجلس العلمي بالعاصمة، وعضوا في أكاديمية المملكة المغربية، ورئيسا للجنة الملحون بها التي أخرجت للنور تحت إشرافه مشروعا بارزا من أحد عشر جزءا هو "موسوعة الملحون". وفي ندوة تأبينية نظمها، الجمعة، أعرق ناد ثقافي بالمغرب، "النادي الجراري"، بشراكة مع المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، قال عبد الحق المريني، مؤرخ المملكة المغربية الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، إن "الدكتور عباس الجراري كان هرما شامخا من بين أهرام الثقافة في بلادنا، وكان شخصية موسوعية متعددة الأبعاد، والاختصاصات"، وأضاف: "الإشادة بأعماله الأدبية من قِبل المفكرين الأجلاء في عدة مناسبات أصدق تعبير عن عطاءاته الفياضة في مجالات الأدب المغربي والبحث العلمي والدراسات الإسلامية والفنون الشعبية المغربية". وتابع المؤرخ الذي أشرف على أطروحته العلَم الراحل: "لقد ألف ما يناهز 100 مؤلف في مختلف فنون المعرفة، نظرا لإمكاناته الفكرية، وقدراته الإبداعية، وأشرف على إعداد الرسائل الجامعية؛ 40 رسالة دكتوراه، و80 دبلوما للدراسات العليا، رعى الباحثين فيها والعاكفين عليها، وصاروا بعدها من رواد الأدب والثقافة المغربية في بلادنا، وهكذا أدى الرسالة الثقافية الجامعة القيمة لوطنه ولطلابه ولكافة المثقفين الذين جنوا ثمراتها، وأصبحوا دعائم راسخة للنهضة الثقافية في هذا البلد، وللتطورات الفكرية في مجتمعاتنا". لطيفة مفتقر، مديرة المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالنيابة، ذكرت أن "المفكر والأديب المغربي الدكتور عباس الجراري (...) سخر حياته للبحث في حقول ومجالات مختلفة، فضلا عن عمله الجامعي، وإشرافه على أطروحات ذات كم ونوع، وأغنى الخزانات الوطنية بمؤلفات همت الدراسات المغربية والتراث الشعبي والعربي الإسلامي والأندلسي، وقضايا الثقافة والفكر الإسلامي (...) واعتلى وهو حي منصات التكريم أكثر من مرة". مصطفى الجوهري، محافظ النادي الجراري، قال إن هذا الموعد "تكريم وعرفان لأستاذنا عميد الأدب المغربي رحمة الله عليه"، وزاد: "نلتقي رغم أن الرزء مازال حديثا، لكن أفادنا الله تعالى بقوله (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)". وتابع الجوهري: "أستاذنا سيدي عباس الجراري، أكرم الله مثواه، معروف بثقافته المعرفية السامقة، وهو عالم مشارك، ومفكر إسلامي باحث، وشاعر مبدع، وفقيه مفت، وخطيب مجدد، ومحاضر مقنع، وأستاذ جامعي مبرز، ومرب نزيه، ووطني مناضل، ورجل دولة وسياسي حكيم ودبلوماسي محنك، وجمعوي متطوع، وإنساني متخلق، ومؤلف غزير (أحيى الكثير من تراث الأمة وذكرى أعلام امتد إليهم النسيان)، أفلا يستحق أن يكون عميدا للثقافة والأدب المغربي؟!". عبد العزيز التويجري، المدير العام السابق للإيسيسكو، ألقى قصيدة نظمها عما يكنه للعلَم الكبير والمغرب "من تقدير وإجلال ومودة"، بعد حديثه عن حضوره "وفاء لفقيدنا الكبير عميد الأدب المغربي، الذي ربطتني به علاقات أخوية متينة طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود، وكانت له مشاركات مفيدة خلال إدارتي للإيسيسكو، وشرفني بكتابة تقديم كريم لديوان شعر أصدرته بعنوان (نبض الفؤاد)، وهو علَم في رأسه نور، ترك بيننا أنوارا نستضيء بها، وفقدت بموته أخا عزيزا وصديقا صدوقا، غمرني بصادق المودة". محمد احميدة، الكاتب العام للنادي الجراري، تحدث من جهته عن "عفّ الشمائل"، ذي المشورة "العفية عن الارتياب"، ومُشرع باب السماحة، ذي "الفضائل على الناس بعدد الحصى"، واقتبس من عطائه مثالا هو الملحون الذي لا يمكن اليوم الحديث عنه دون استحضار عطاء عباس الجراري في أطروحته "القْصيدة" ومؤلفاته وإشرافه بعد ذلك على مشاريع قادت إلى "احتضان اليونسكو قصيدة الملحون" بوصفها تراثا للإنسانية. وختم الأكاديمي نعيه بقوله: "عباس البسام، موئل الشمائل الحميدة، ليس رحيله رحيل واحد، بل بنيان قوم تهدم. عزاء يا وطني". عبد الكريم بناني، رئيس جمعية رباط الفتح للتنمية المستديمة، قال إنه يصعب عليه الحديث عن "رجل من طينة فقيدنا وفقيد المغرب والثقافة العربية والإسلامية، لما كانت له من مكانة متفردة في عالم الفكر والأدب والثقافة، ومنها جانب الاهتمام باللغة العربية، والاهتمام بالنادي الجراري". وزاد المتحدث: "هو من الرجال المشاركين، من أولئك العلماء الذين بصموا الثقافة المغربية والعربية والإسلامية، ببصمات معمقة ومتفردة، واهتماماته مترابطة ومتكاملة في إطار مشروع فكري حداثي متكامل، وأُسُّ هذا المشروع الفكري اللغة العربية, وتربى لدي تعلق وتعمق في اللغة العربية عند مجالسة الفقيد الأعز، ومن خلال قراءات كتاباته الرفيعة وصل بي معه الحب حدّ العشق للعربية"، وواصل: "كان رحمه الله يصحح العديد من الأخطاء الواردة في بعض الكتابات والإلقاءات الشفهية (...) وكانت له أفكار جديدة حديثة مركبة عن الموروث الحضاري المغربي الصرف، بعيدا عن الانحرافات التي نشهدها اليوم في أوساطنا الشبابية على وجه الخصوص". وحول قضية الأمازيغية في فكر الجراري، استحضر بناني جهوده التي شهد عليها عمر أمرير وسعد الدين العثماني في شهادات سابقة، ثم قال:"الأستاذ الجراري لم يكن موافقا على كتابة الأمازيغية بالتيفيناغ وطالب، غير ما مرة، بأنه كان من الواجب كتابتها بالحرف العربي، علما أن هذا هو الذي كان سائرا في جميع عصور الثقافة المغربية، إلا أنه مع كامل الأسف بقيت هذه القضية غصة في ضمير أستاذنا، وكان يقول إنه كان من الأفضل كتابتها بالحرف العربي ليسهل على الجميع كتابتها وقراءتها، ولو كانت معيارية، ويسهل تعليمها". وتابع المتدخل: "المشكل تقني وليس سياسيا، فجلالة الملك محمد السادس أرسى دعائم هذه الثقافة الأمازيغية وجعلها من مكونات الهوية المغربية العامة، وذلك ما كان يدافع عنه باستماتة أستاذنا عباس الجراري"، ثم استحضر جلسات للنادي الجراري كان من بين أطوارها مناقشة كتاب (التاريخ الأمازيغي: جذور الديمقراطية بالمغرب) للأكاديمي عمر أمرير؛ ف"اهتمامات الأستاذ كانت متعددة التخصصات، وكان يدافع عن الثقافة الأمازيغية بوصفها مكونا أساسيا للهوية المغربية (...) ناهيك عن دراسته المعمقة لقضية الهوية، وعلاقة اللغة العربية بها، وخاصة بعد مظاهر العولمة، وتأثيرها على هوية المجتمع المغربي؛ فنعيش اليوم أزمة المجتمعات من خلال ما ترتب على قضية العولمة من طمس للهويات وفي مقدمتها اللغة العربية". ثم ختم المتحدث: "بعد ست سنوات يكتمل قرن من عمر (النادي الجراري)، وتوجهه ما كان الأدب والشعر فقط (...) بل انفتح أيضا على مواضيع الساعة، مثل العلوم العصرية، والمستجدات الاقتصادية، والتكنولوجية... وأتمنى استمرار النادي الجراري في الحضور والوجود، لأن استمراره استمرار لروح الفقيدَين عبد الله وعباس الجراري، ولو صَعُب الحضور وكرسي الرئيس فارغ". المخرج المسرحي عبد المجيد فنيش، استحضر بدوره في كلمة ألقاها بالنيابة عن نور الدين اشماعو، رئيس جمعية أبي رقراق، "الفقيد الغالي الحبيب (...) الذي حباه الوهاب وأودع فيه أبدع وأطيب ما تفرق في الغير"، قبل أن يضرب موعدا في شهرَي أبريل وماي لتنظيم "محطة وفاء أخرى للراحل الشامخ السامق".