يبدو أن فرنسا عازمة على "تذويب الجليد"، الذي تشكل بين باريسوالرباط في الآونة الأخيرة، بسبب مواصلة هذا البلد الأوروبي اللعب على حبلين: المغرب والجزائر، وفق ما كان يسمى "منطق التوازنات في شمال إفريقيا"؛ فحكاية "الانفراج الدبلوماسي" بدأت بالتمثيل الدبلوماسي وتبادل السفراء، لكن قصة "التغزل السياسي" انطلقت بتصريحات ستيفان سيجورنيه، وزير الخارجية الفرنسي الجديد، الذي أكد أن "رئيس الجمهورية طلب مني الاستثمار شخصيا في العلاقة الفرنسية المغربية". الحلقة الثانية من "مسلسل التودد" تحررت بالعاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، حين قال كريستوف لوكورتيي، سفير فرنسا بالمغرب، إن علاقة البلديْن "ينبغي أن نحاول تجديدها"، وهي رغم كونها "مهمة، وقديمة، وذات تاريخ كبير ومتفرد". وآخر الحلقات استقبال قصر الإليزيه الرئاسي في فرنسا ثلاث أميرات شقيقات للملك محمد السادس لحضور مأدبة غداء بقصر الإليزي، بدعوة من بريجيت ماكرون، بحيث اعتبرت الزيارة "تندرج هذه المأدبة في إطار استمرارية علاقات الصداقة بين البلدين". إشارات كثيرة، إذن، ما زالت تُقرأ بنوع من "الحذر السياسي"؛ لكون "الدفء الدبلوماسي" الذي يتم تعبيد الطريق أمامه، لا سيما من الجانب الفرنسي، ما زال معلقا على انتظار الرباط الأكبر: الخروج بموقف واضح من قضية الصحراء المغربية، على غرار إسبانيا؛ فضلا عن انتظارات أخرى منها، وفق متتبعين، "التوقف عن التعامل بالعقلية الاستعمارية القديمة واحترام مصالح المملكة داخليا وخارجيا"، ويبقى "إنهاء التوتر" الذي دام لسنتين متوقفا على "مدى رغبة فرنسا فعلا في المضي قدما بهذه العلاقات". "نهاية الرمادي بداية الوضوح" شادي البراق عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر، قال إن "المؤشرات الإيجابية الأخيرة التي عرفتها العلاقات المغربية – الفرنسية هي دليل على أن الأخيرة شكلت بشكل دائم نموذجا مرجعيا للعلاقات الثنائية المتميزة بين بلدان الشمال والجنوب، حيث ظلت لعقود مضت تتميز بالشراكة الهيكلية والتكامل الاقتصادي البيني والدعم السياسي والدبلوماسي المتبادل"، مرجعا التوتر الذي حدث إلى "اتسام السياسة الفرنسية تجاه المغرب بعدم الوضوح واختيار المسارات الرمادية". هذا الاتجاه "الرمادي"، وفق تعبير البراق، أرخى بظلاله "على مواقف باريس بخصوص العديد من القضايا التي تهم الأمن القومي للمملكة المغربية والمصالح العليا للشعب المغربي انطلاقا من الحملات الإعلامية التضليلية التي تستهدف مؤسسات وشخصيات سيادية مغربية إلى جانب مواقف مناهضة للمغرب داخل هياكل الاتحاد الأوروبي تستهدف نظامه القضائي وتسيئ إلى النهج التراكمي الذي حققه البلد بإنجازات ملموسة تخص ملف حقوق الإنسان والحريات خاصة في العشرين سنة الماضية، إلخ". "المغرب اعتمد في سياسته الخارجية على خيارات دبلوماسية صارمة ومسؤولة وواضحة تجاه كل القضايا التي تمس الأمن القومي للمغرب، كما وضع شروطا موضوعية وعقلانية تخص إعادة تقييم علاقاته مع شركائه التقليديين والجدد تضمن له الحد الأدنى الذي يجعل احترام سيادته الوطنية ووحدته الترابية مقياسا لنجاعة العلاقات"، فصل البراق شارحا: المغرب ينظر، اليوم، إلى دول العالم انطلاقا من مواقفها الإيجابية والواضحة غير القابلة للتأويل في ما يخص قضية الصحراء المغربية. وشدد المتحدث عينه، في تصريحه لهسبريس، على أن "فرنسا اليوم مطالبة بفصل مساراتها الدبلوماسية مع النظام العسكري الجزائري عن مساراتها الدبلوماسية المتميزة مع المغرب؛ وعلى صانع القرار الدبلوماسي والسياسي في الإليزيه إدراك أن مراهنة فرنسا على النظام العسكري الجزائري ودعمها لسياسته العدائية في محيطه الإقليمي فإنها تساهم بشكل غير مباشر في خلق تحديات إقليمية جديدة في منطقة تعرف مستوى عاليا جدا على سلم ترددات المخاطر المرتبطة بالأمن البشري لإفريقيا والعالم". وسجل البراق أن "التوافق الفرنسي الجزائري لن يكون في أية حال من الأحوال على حساب السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية"، خالصا إلى اعتبار "المواقف الإسبانية الواقعية فيما يخص تناولها للملفات المشتركة بين الرباط ومدريد وبشكل خاص ملف الصحراء المغربية والموقف الإسباني الواضح وغير القابل للتأويل في شأن السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية، وكيف يمكن أن يشكل منطلقا منطقيا وعقلانيا أمام صانع القرار السياسي الفرنسي لاتخاذ مواقف فرنسية مماثلة قد تفتح آفاقا جديدة للعلاقات بين البلدين على جميع الأصعدة". "فصل وبراديغم جديدان" لحسن أقرطيط، الكاتب والباحث في العلاقات الدولية، قال إن ما تبديه باريس من اهتمام ب"استعادة ود الرباط" يؤكد صراحة أننا "أمام فصل جديد في العلاقة ما بين فرنسا والمملكة المغربية. وبطبيعة الحال، هذا الفصل سيتم فيه التخلي نهائيا عن 'سياسة التوازنات' التي كانت فرنسا تشهرها دائما في وجه المغرب فيما يتعلق بمغربية الصحراء"، معتبرا "منطق التوازنات المذكور عاجز عن خدمة المصالح الفرنسية، على اعتبار أن المغرب، انطلاقا من براديغم تنويع الشراكات دوليا وإقليميا، فرض هذه المعادلة الجديدة". وأوضح أقرطيط، ضمن إفادات قدمها لهسبريس، أن "المغرب لن يتنازل عن مصالحه الحيوية وما يرتبط بالمصالح العليا للبلاد، سواء تعلقت المسألة بقضية الصحراء أو بما يخص فرنسا والسياسة الإفريقية أو سياسة المغرب في القارة الإفريقية؛ لأن هذا الجانب أزعج كثيرا الفرنسيين على اعتبار أن المغرب حتى على المستوى القاري فرض معادلة جديدة عنوانها حضور المصالح المغربية عبر المقاولات المغربية في البنيات التحتية وفي الاستثمارات في القارة الإفريقية". وأشار المتحدث ذاته إلى "إدراك النخبة السياسية الحاكمة في فرنسا صعوبة مجاراة المملكة المغربية في هذا التصعيد أو في هذه الأزمة الصامتة بين باريسوالرباط"، على اعتبار أن "المغرب فرض معادلة إقليمية جديدة أنهت بشكل لا رجعة فيه ما سمي خلال العقود الأخيرة بالحفاظ على التوازنات السياسية والجيوسياسية في شمال إفريقيا ما بين المغرب والجزائر، والتي كانت دائما الأكمة التي يختبئ خلفها سواء الفرنسيون أو الألمان أو الإسبان أو حتى جهات أخرى في أوروبا". "كلمة السر التي فرضتها المملكة المغربية في أية علاقة، سواء ذات طابع اقتصادي أو سياسي بين الأوروبيين والمملكة المغربية، عنوانها الاحترام المتبادل والشفافية والمصالح المشتركة بين البلدين، وإنهاء عقلية الوصاية الاستعمارية التي حكمت الأوروبيين لعقود طويلة"، قال الباحث في العلاقات الدولية الذي أضاف: "هذه المعادلة الإقليمية الجديدة تنتصب فيها المملكة المغربية كقوة إقليمية؛ وبالتالي لا يمكن التعاطي معها بالعقلية السابقة، ولا الارتكان للسياسة الاستعلائية الاستعمارية". واعتبر المتحدث عينه أن "الأوان قد حان لإعادة تموضع جديد فيما يتعلق بقضية الصحراء وإعادة تموضع جديد فيما يتعلق بالعلاقة مع المملكة المغربية. وأقرب مسافة نحو الرباط هي تمر بالضرورة عبر الأقاليم عبر أقاليمه الجنوبية، وبالتالي إعادة التموضع الفرنسية هذه هي تعبر حقيقة عن أن السياسة الخارجية للمغرب التي اعتمدت الصرامة في كل ما يتعلق بالمصالح العليا للوطن قد أعطت أكلها، وقد اتضح ذلك سابقا مع ألمانيا وإسبانيا".