كان متوقعا أن تفوز جنوب إفريقيا، وقد استحقت الانتصار عن جدارة واستحقاق، ومع سبق الإصرار والترصد. دولة جنوب إفريقيا سجلت النصر وهي تبادر، ويكون لها السبق في رفع أخطر دعوى قضائية في العصر الحديث؛ رفعت دعوى ضد قوى الاستكبار العالمي الذي يمثله الكيان الغاصب. كان لجنوب إفريقيا نصيب من النصر على قوى الشر، جرَّت كيانا مجرما للمحكمة متهمة إياه بأبشع التهم وأخطرها في قاموس الإرهاب، جعلت منه مجرم حرب ارتكب ومازال يرتكب إبادة جماعية في غزة العزة، مستندة إلى ما جمعته من حجج دامغة وأدلة قاطعة في نظرها. قدمت دولة جنوب إفريقيا ومضة ضوء وبريق أمل للعالم، بعيدا عن ذوي القربى من العرب والمسلمين، وليس بعيدا وليس غريبا على دولة اكتوت بنار نعرات ونزعات العنصرية المقيتة، رفعت الراية، وخرجت عن إجماع الذين نخرهم الصمت، وأهلكهم الخوف ولعنهم التطبيع، فلا تكاد تسمع لهم همسا. "هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا" سورة طه الآية 98. هي عظيمة دولة جنوب إفريقيا، تستحق منا التشجيع، وتستحق أن تفوز بكأس العالم، وليس فقط كأس إفريقيا للأمم؛ انتصرت للقيم، وانتصرت للقضية الفلسطينية؛ فازت بما تبقى من أثر للإنسانية التي كانت على وشك أن تموت. حُقَّ لنا أن نشجع دولة جنوب إفريقيا، وأن نفخر بهذا البلد الذي وقف مع شعب أعزل يباد وأمة تقتل. هذا البلد وقف كالجبل صامدا شاهدا على المجازر المرتكبة، والأرواح الطاهرة التي سمت وفازت بالشهادة. كأنها الحبشة التي بها ملك لا يظلم عنده أحدا، قال رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوزا، إنه لم يشعر قط بالفخر الذي يشعر به اليوم، وذلك تعليقاً على رفع بلاده قضية "إبادة جماعية" ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. جاء ذلك في كلمة ألقاها الرئيس خلال مشاركته في اجتماع لحزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" بحسب وسائل إعلام محلية. وأوضح رامافوزا أن هدف بلاده من فتح دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية هو وقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وتابع: "بينما كان محامونا يدافعون عن قضيتنا (القضية الفلسطينية) في لاهاي، لم أشعر قط بالفخر الذي أشعر به اليوم وأنا أرى رونالد لامولا، ابن هذه الأرض، يدافع عن قضيتنا في المحكمة"، وأردف: "يقول البعض إن الخطوة التي اتخذناها محفوفة بالمخاطر. نحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير. قد يهاجموننا، لكننا سنظل متمسكين بمبادئنا. ولن نكون أحرارا حقا ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني أيضا". إنها الفطرة السليمة في أبهى تجلياتها، إنها العزة في أعظم صورها، هي الشهامة والنجدة والنخوة. هكذا تكون أمة حاكما وشعبا عندما تنتصر للقيم الأخلاقية النبيلة، وهكذا قبله صنع النجاشي ملك الحبشة عندما اختار الحبيب المصطفى للصحابة الكرام البررة الهجرة إلى الحبشة بعدما تعرضوا للهجمة البشعة من كفار قريش، وقال لهم كلمته المشهورة التي بقيت راسخة في الأذهان، ولن تنسى وبقيت تتلى وتحفظ وترددها الأجيال، جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه». ويشاء الله أن يرد النجاشي التحية بمثلها، وقد أحسن عملا عندما سمح للصحابة بالعيش في أرضه بسلام، وقال لهم: "...ما أحب أن لي جبلًا ذهبًا وأني آذيت رجلًا منكم". فأية دولة اليوم حملت على نفسها مقاضاة الكيان الغاشم؟ وأية دولة اليوم غامرت ولم تبالي بعواقب هذه المغامرة ونتائجها التي قد تكون وخيمة وسلبية بميزان أهل الأرض؟ لكن ميزان رب الأرض والسماء يكون له شأن آخر. أية جرأة في الحق أعظم مما قامت به دولة جنوب إفريقيا، بغض النظر عما تحقق، وإنما الأعمال بالنيات؟. فضحت جنوب إفريقيا العالم بمبادرتها وأقامت على الإنسانية الحجة. فماذا لو صنعت الدول العربية والإسلامية ما صنعت جنوب إفريقيا؟. بعيدا عن السفسطة وكثرة الشعارات الفضفاضة، والكلام الأجوف عن القضية الفلسطينية. أيها العالم يا أحرار العالم، التاريخ لا يرحم، لا عذر لنا اليوم وشعب يباد، وأمة تقتل وعدد الشهداء يكاد يصل إلى ثلاثين ألفا. وختاما دولة جنوب إفريقيا انتصرت في الجد قبل أن تنتصر في ميدان كرة القدم، سجلت أهدافا في مرمى أمريكا شرطي العالم، وسجلت إصابات في مرمى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من قوى الشر العالمي، وغلبت كيان الاحتلال وسحبته للمحكمة مكبلا مجرورا على وجهه وبطنه مغلولة يده في عنقه إلى محكمة العدل الدولية. وإنه لجهاد نصر أو استشهاد.