في زمن استوجب فيه على المغاربة، كل المغاربة، صغارا وكبارا، نساء ورجالا، الانكباب على مناقشة القضايا المجتمعية الكبرى، خصوصا ذات الأولوية منها، من قبيل إشكالية الأمن المائي، والأمن الروحي والأمن الطاقي، ومدونة الأسرة، وغلاء الأسعار، واستراتيجية الحكومة لتعويض الزمن المدرسي المهدور... إلى غير ذلك من القضايا المهمة التي تشغل الرأي العام الوطني. نجد أغلبية ساحقة من جيل الشباب واليافعين معتكفين داخل هواتفهم، منشغلين لساعات طوال بتلقف وتتبع فيديوهات شخصيات تحسب نفسها مؤثرة، لا يعرف لها أساس ولا رأس... شخصيات بوهيمية لا حدود لتنطعاتها ووقاحتها وبذاءتها في الحديث وفي السب والقذف في جميع الاتجاهات. شخصيات لا مكان لها في الواقع ولا أثر، ولكنها متواجدة في كل مكان افتراضي تلجه، تجدها في الفايسبوك والانستغرام والتيكتوك، وتخرج عليك في اليوتوب، وحتى إذا لم تكن تتوفر على حسابات في هذه الوسائط الاجتماعية، تجدها مرسلة لك عبر أحد معارفك على الواتساب... بشكل يجعلك تتساءل عن الأسباب من وراء بروز مثل هذه الفيديوهات ورواجها الواسع على مختلف الوسائط والحسابات. هل تحولت قيم المغاربة إلى هذه الدرجة؟ هل تم القطع مع الهوية والتاريخ المغربيين الأصيلين؟ أخلت الساحة الوطنية من المثقفين والمثقفات الذين من المفروض عليهم أن يقودوا الحس الفكري والثقافي والفني للأجيال الصاعدة؟ هل خلى المشهد الوطني من النموذج القدوة الذي يمكن لليافعين والشباب الاقتداء به واتباع أفكاره ومحاكاة مساراته؟ إنه لمن المحزن حقا، أن يتحدث يافع عن مستقبله، فيقول لك بأنه يحلم أن يكون مؤثرا في وسائل التواصل الاجتماعي، وأنه مستعد لفعل أي شيء حتى تحظى صفحته بمتابعة آلاف المعجبين، خصوصا بعدما تم ربط التوفر على المعجبين والمشتركين في الصفحة وتفاعلاتهم مع المنشورات بالعوائد المادية وبالرأسمال الرمزي، سيما وأن شركات كثيرة دخلت على خط التسابق لاستقطاب أصحاب الصفحات النشيطة ودعمها، وخصوصا الإناث منهم، يمولون سفرياتهم ويخصصون لهم دعما منتظما مقابل الإشهار وبناء على رأسمال المتابعين الذي يتوفرون عليه، حيث تحول الرأسمال الافتراضي إلى رأسمال مالي... رغم أنه رأسمال مبني أصلا على التفاهة والميوعة. هذا الواقع، دفع بالعديد من الشباب إلى إنشاء صفحات خاصة بهم، ليست كبقية الصفحات، فمنهم من استخدمها بشكل إيجابي وخصصها لمحتويات ذات فائدة إيجابية على المتلقي، وهذا هو الجزء الأنقى في هذا الواقع الافتراضي، ومنهم من ساير موجات الرداءة والبحث عن البوز، وهم كثر للأسف الشديد، حيث برزت العديد من الصفحات الأخرى أضحت تتنافس في السب والقذف في أعراض الناس والتسابق نحو إعطاء أخبار لا أساس لها من الصحة، أو نشر محتويات بذيئة وتافهة لا طائل منها، فأصبحنا أمام تنافس شرس في حمولات الكذب والسب، ومحتويات التفاهة والبذاءة. وهكذا ظهرت شخصيات كارتونية، تتفنن في العري والتحدث بالكلام البذيء ونشر محتويات الميوعة والابتذال، من قبيل ساري كول وصوفيا طالوني وولد الشينوية ومولينيكس و... ولم تكتف هاته الشخصيات بذاتها، بل انطلقت في محاورات ومنافسات تيكتوكية مع بعضها البعض، حتى أصبحنا أمام سلطة مفروضة، هي سلطة التفاهة بامتياز. تماما كما أجاب ألان دونو عن سؤال أين تكمن مقدرة التافه الرئيسية؟ بقوله أنها توجد في التعرف على تافه مثله. فهكذا يعملان معا بمبدإ: أضيء لي أقدح لك، وبين لي أجبك، حتى تقوى شوكة جماعة عددها في ازدياد، إذ لن يطول بهما الأمد في حشد أمثالهما إليها. ليس المهم تجنب السخافة، بل جعلها تكتسي صور السلطة. لقد غدا التهافت على محتويات التفاهة سلوكا يوميا لدى البعض، يهرب به من واقعه، أو يتطلع من خلاله على واقع آخر، قد يشبهه، أو قد يجد فيه متعة غائبة. كما قد يجد في التافه نفسه أو بعضا منه. وهنا تكمن المشكلة، حيث ينجلي الخوف على الأجيال الصاعدة من نفسها. من اختياراتها، من المتاح لها. من توجيه الواقع التافه لها. الخوف من أن لا تجد من تقتدي به غير هاته الشخصيات المشهورة والمكتسحة لجميع الوسائط. والتي تتنافس في من سيسب أحسن سبة، ومن سيضحك أطول ضحكة، ومن سيجيد تقليد الكلب أو القرد أو السمكة، ومن سينتصر في مسابقات التسبيك والتدليك والتبعكيك. إننا أمام حال سيطرت فيها المولينكسات على العالم الافتراضي وأصبحت قدوة للأجيال، حتى أصبح العالم الواقعي مهددا بتأييد سلطة التفاهة والتهافت نحو التفاهة. فإلى متى ستظل الدولة صامتة على ما يجري؟ وإلى متى ستظل الأسر المغربية في موقف المتفرج اللامبالي والمتابع عن بعد اتجاه هذا الانجراف الذي يجر الشباب واليافعين وحتى الصغار من أبنائنا؟ وإلى متى ستظل النخبة المثقفة متقاعسة تنظر من فوق للتحولات القيمية والثقافية والسلوكية التي يعرفها المجتمع دون أن تحركها ساكنا؟ ومتى ستهبط من برجها العاجي لتدق ناقوس الخطر ولتعالج هاته الاختلالات القيمية؟