أطرقت رأسي ملقيا السمع متحفزا لسماع خطبة "نارية" عصماء عن القدس والجهاد والرجال وصلاح الدين الأيوبي وضرورة البذل والتضحية والمقدسات وفلسطين والمسجد الأقصى...، أو خطبة "إيمانية" تربوية تذكيرية حديثية قرآنية تخشع لها القلوب والجوارح وتذرف لها العيون وتحن الأرواح للقدس المحتلة والأقصى الأسير. هكذا ضننت وتمنيت على الأقل في الذكرى 61 لنكبة فلسطين والأمة الإسلامية وبداية الاحتلال الصهيوني، ولكن يا للخيبة. "" قلت علها خطبة استثناء أو شرود خطيب لا يعلم عن 15 ماي 1948 شيئا أو نسي لطول الأمد، لكني سألت عددا من الأصدقاء والإخوة من الدارالبيضاء وخارجها فوجدت الاستثناء قاعدة، والخطيب خطباء، والشرود عام، والتناسي منهج، والتغاضي سلوك الوزارة الوصية والدولة المغربية، وإيثار السلامة خيار منبر الجمعة. الخطاب الرسمي والقدسالمحتلة.. حالة برود عشنا الجمعة 15 ماي الذكرى 61 للنكبة، أزيد من ستين سنة على احتلال تلك الأرض المباركة وأسر مسرى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، أزيد من ستين سنة من التهويد المستمر لمدينة القدس ومن التحايل المتصاعد لهدم المسجد الأقصى، أزيد من ستين سنة من الاعتداء على البقاع المقدسة وأوقاف المسلمين-ومنها أوقاف المغاربة هناك- وهدمها وطمس معالمها، أزيد من ستين سنة من تهجير شعب واحتلال أرضه وتهجير أبنائه وتقتيل رجاله ونسائه وأطفاله. إنها فعلا جريمة العصر، إن لم تكن أكبر جريمة في التاريخ، بكل ما للكلمة من معاني المأساة والجراح والآلام. ومع ذلك لا يتم التذكير بذلك ولو على سبيل إبراء الذمة أو إلقاء العذر!!. إنه لغريب حقا هذه الحالة الرسمية من البرود اتجاه القدسالمحتلة والمسجد الأقصى المبارك. دولة تدعي أنها إسلامية ويرأس قائدها الأول لجنة معنية بالقدس ولا تخصص ولو خطبة، مجرد خطبة، للحديث عن هذه القدس ومكانتها وواقعها، فبله أن تجعلها مشروعا وبرنامجها ضمن دائرة أولوياتها. في الذكرى 61 للنكبة لم تخصص وزارتنا في الأوقاف حملات ولا برامج تشرح ما حدث، ولا كيف جرى، ولا غاياته الرامية لضرب الأمة في وحدتها وصميم مقدساتها، ولم تنظم لا يوما دراسيا، ولا مائدة مستديرة ولا مربعة، ولا ندوة صحفية، ولا حتى برنامجا تلفزيا عاديا للحديث عن القضية وفلسطينوالقدس والأقصى، لتساهم ولو قليلا في توريث القضية إلى الأجيال الجديدة وترسيخها في الذاكرة وتوطين الحق والمطالبة به في القناعة والسلوك. لم تخصص أي شيء من ذلك، بل إنها سطت حتى على خطبة الجمعة اليتيمة. ولم تقدم التبني -ولو في حده الأدنى- المفترض لقضيتنا العادلة ولأمانة الرسول الكريم فينا القدس والمسجد الأقصى، ولم تعرض الدعم -ولو في صورته الجنينية- الذي يلزم أن تقدمه دولة إسلامية لأختها المحتلة، والنصرة واجب، ولم تتحلى حتى بأدنى درجات المشترك الإنساني المُطالب بالدفاع عن المظلوم والانتصار له. وفي سنة القدس عاصمة للثقافة العربية تحيي وزارتنا في الثقافة السنة على طريقتها الخاصة، مهرجانات بالعشرات على طول البلاد وعرضها، وملايين الدراهم تصرف على ليالي اللهو والغناء الماجن في "موازيين" و"البولفار" و"العيطة"... وغيرها، ولم أسمع شخصيا أن الوزارة خصصت مهرجانا للقدس لإبراز ملامحها الثقافية وعمقها الحضاري ومسارها التاريخي ومكانتها الدينية. ولم نسمع عن احتضان رسمي لأيام ثقافية في المدن ودور الشباب والمدارس والجامعات وحملات تلفزية وإذاعية تعطي ل"القدس عاصمة للثقافة العربية" معنى وحقيقة في المغرب. ستة مغنين عرب سيتقاضون في مهرجان موازين ما مجموعه 390 مليون سنتيم وثلاث غربيين لكل واحد منهم أكثر من مليون دولار من أجل سويعة غناء معروف سلفا طبيعتها وأجواءها، وفي المقابل تقشف وتقتير غير مفهومين إزاء قضية مركزية هي قضية القدس، بل إنه الصمت المطبق والتجاهل التام هو الذي اختارته وزارة الثقافة وعدد من الدوائر المعنية بالمجال أن تحيي به السنة الثقافية للقدس. قد لا نستغرب كل ما ذكر إذا علمنا أن لجنة القدس، التي يرأسها ملك المغرب، هي الأخرى مغرقة في السبات الشتوي ولا تبدو عليها حالة من يمكن أن يصحو قريبا، فلا لقاءات ولا فاعلية ولا أنشطة. واللجنة اخترت شعار "السكوت حكمة" في كل كلامها وفعلها. إنه الصمت المطبق والبرود الجامد هو الخيار الرسمي في تذكر القدسالمحتلة وتخليد ذكراها وإحياء سنتها، صمت ينتظم السلوك الرسمي من أعلى درجات المسؤولية السياسية إلى صياغة خطب الجمعة. خطبة الجمعة وقضايا الأمة.. حالة شرود مع التقدير الشديد الذي يحمله كل مسلم -وهو ملزم بذلك- للخطباء والوعاظ والعلماء، فإنه غالبا ما يستغرب صمت كثير منهم وتماديهم في التماهي مع الخطاب الرسمي للدولة مهما كان مختلا أو بعيدا عن منطق التوازن والاعتدال في التعاطي مع الأشياء، والتعبير عن المواقف، وتقييم المعطيات لقول الكلمة الأقرب إلى الفهم الصحيح للدين، وتوجيه الناس للخير الذي يريده لهم رب العالمين. في أكثر القضايا التي تعني هموم الأمة، العامة والخاصة، الأممية والقطرية، السياسية والاجتماعية، تجد حالة شرود مستهجنة يختارها خطباء الجمعة، وتفر إليها خطبة الجمعة هربا من زوايا الضيق وأفخاخ توثر العلاقة مع وزارتي الداخلية والأوقاف الوصيتين على المنابر. وإذا كان هذا الخيار قد يسلكه أحيانا خطيب الجمعة كرها، وفي هذه الحالة قد يكون مفهوما التغاضي عن بعض المواضيع والصمت في أخرى أو الاكتفاء بالتلميح والإشارة، فإنه من غير المفهوم ولا المقبول أن يُوسِّع الخطيب من دائرة هذا "الخيار المكره عليه" ليصبح خيارا طوعيا يمارس من خلاله رقابة ذاتية مفتعلة وشرودا اختياريا دائما وصمتا دائما هجينا. إن خطبة الجمعة جُعلت لتوجيه الناس في دينهم ودنياهم، ولينتظم دينهم سائر مجالات حياتهم في الدنيا في المعاملات والسلوك والاختيارات، فلا معنى للمنبر إن قدم استقالة شبه رسمية من مساحات هو مطلوب أن يملأها بتوجيهه ورأيه وكلمته، ولا دور للخطبة إن كانت ستحول المسجد إلى زاوية وخلوة وحديث فردي عن سلوك فردي و"أنا دينية" ولتمت الأمة بعد ذلك، ولا عذر للخطيب إن اختار هذا السلوك فحول المسجد إلى منبر آخر من منابر العلمانية والفصل الحقيقي بين الدين والدنيا واقتنع بل روج للمقولة اللائيكية "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة". إن المرء، فبله الذي يتصدى لمهام دينية، عليه أن يكون أحيانا أو لا يكون. أي إذا كان العذر يسع الجميع وتَعقُّد الأمور قد توجد للإنسان تأويلات تريحه ليؤثر السلامة ويبتعد عن "المشاكل"، فإن الإنسان عليه في لحظات الاختيار الفاصل والحاسم بين القيم وضدها، والتنازل عن المبادئ والصمود، والتحريف قولا أو صمتا والصدع بالحق، عليه أن يكون حاسما وواضحا مع نفسه وأن يختار الطريق والسلوك والمنهج الذي يطمئن له القلب ويشير به العقل ويرضى به الرب سبحانه وتعالى. خاصة عندما تكون لحظات الاختيار هذه حاسمة، ليست في مساره الشخصي فقط، بل عام تأثيرها على عموم الأمة أو جزء من الأمة. وفي موضوعنا هنا، من الصعب أن نفهم أو نتفهم صمت الخطباء المطبق على قضيتنا العادلة في فلسطين، وتغافلهم عما آل إليه الوضع في مدينة القدسالمحتلة التي أوشكت على أن تصبح "يهودية" بفعل التهويد المستمر، وإهمالهم الحديث عما أصبح عليه حال المسجد الأقصى المبارك الأسير والذي يتهدده السقوط الجدي وليس الخطاب التهويلي. من غير المقبول إطلاقا أن يصمت من هم في موقع الكلام، والكلام الحق، على التواطؤ الدولي والعربي الرسمي لتفويت الأجزاء الكبرى من المدينة المقدسة للكيان الصهيوني الغاصب أو التمادي في السكوت بداعي "التعليمات" حتى يصدم الجميع وهو يشاهد على الشاشات مسجدنا الأقصى ينهار. ولات حين ينفع الندم. من غير المقبول أن يفضل خطباء الجمعة منفى الغياب، الاضطراري أو الاختياري، عن قضايا الأمة وقضايا البلد. فلا عراق ولا سودان ولا صومال ولا أفغانستان...، لا غلاء في المعيشة ولا ربا في المعاملات البنكية "الرسمية" ولا "سياسة رسمية" للإفساد في الأخلاق والإعلام والتعليم... من غير المقبول هذا الصمت المطبق، أيها الخطباء، وقد ورثتم منابر الأنبياء الذين قال لهم رب العزة سبحانه "ولتبيننه للناس ولا تكتمونه".