صادفت فكرة جميلة للمرة الأولى في مشوار قراءاتي الأدبية، وأدهشتني، إنها فكرة قراءة رواية "الآمال الكبرى" للعبقري الشامخ "تشارلز ديكنز"، بترجمة عربية إنجليزية مصاحبة كما لو كانت ترجمة فورية. فما تكاد تقلب الصفحة، حتى تجذبك حروفها باللغة الأصلية على يمين دفة الكتاب، في مقابل ترجمة باللغة العربية للنص نفسه على يسار دفة الكتاب. وهي فكرة مبتكرة حبذتها للوهلة الأولى، ليس لأنها تسمح للمبتدئين، كما للمتخصصين بالمقارنة بين النص الأصلي واللغة التي تمت الترجمة إليها أثناء فعل القراءة فحسب، وإنما لكونها تسمو بجمالية فعل القراءة، من خلال ترسيخ هذه الفكرة المبتكرة، لا سيما عندما تكون النصوص قصيرة أحيانا، مما يسهل متعة القراءة المقارنة، وتحبيب فكرة النص الأصلي كمكون ثقافي يغني الرصيد المعرفي للقارئ، ويشركه بلذة ملتاعة في متعة فعل الترجمة وترسيخ جاذبيتها. وبالعودة إلى كرونولوجيا ظهور هذا العمل الروائي الشيق بدءا من 1991 حتى سنة 2018، نجد الرواية، قد اتخذت عناوين مختلفة، وظهرت بعدة ترجمات، ما يفسر الاختلاف في تأصيل المفاهيم والمصطلحات أثناء ترجمة المعاني، ونقل دلالاتها إلى اللغة العربية بدءا من "توقعات عظيمة"، "آمال عظيمة"، أو "توقعات كبرى"، أو "الآمال الكبرى"، "الآمال الكبيرة"، ومع كل ذلك تظل الرواية الشيقة للكاتب الشامخ "تشارلز ديكنز"، من بين أجمل الأعمال الأدبية الإنجليزية خلودا، روعة وجاذبية. تبدأ الرواية بزيارة "بيب"، بطل الرواية إلى قبر والديه، ويقابل سجينا هاربا يطلب منه أن يحضر له في اليوم التالي، بعض الطعام ومبردا حديديا؛ وبالفعل يحضر "بيب المطلوب منه، حتى أنه يلجأ لسرقة الطعام من بيت أخته التي كان يسكن معها زوجها. يقول بطل الرواية عن نفسه "لقب عائلة أبي هو بيريب، واسم العائلة الأول هو فيليب، إلا أن لساني الصغير لم يستطع أن يستخرج من كلا الاسمين اسما أطول من بيب؛ لذا فقد أسميت نفسي بیب، وأصبحت أنادى بهذا الاسم أيضا، ونظرا لأنني فقدت والدي منذ أن كنت طفلا رضيعا، فقد ربتني أختي، السيدة جوجارجرین زوجة حداد الحي". وتتطور الأحداث بشكل دراماتيكي إلى أن يحصل "بيب" على دعوة من الآنسة "هافيشام" اللعب في بيتها، وهي شخصية عرفت بأطوارها الغريبة. كانت ترتدي ثياب العرس بالرغم من إنها عجوز طاعنة في السن، وكان لهذا سبب واضح، إذ تم الغدر بها من شخص وعدها بالزواج، وخلي بها، لذا صارت حزينة، واحتفظت بكل مراسم العرس من ثياب. حتى الساعة توقفت عند الساعة التي أعلن فيها تركها بعد أن استولى على أموالها، وفي هذه الأثناء سيتعرف "بيب" على "استلا"، والتي كانت في نفس سنه الصغير، ولكنها كانت مغرورة ومتعجرفة، وفيما بعد تبين أن "استلا" قد تبنتها السيدة "هافيشام" لتسليها في وحدتها. وتعود ذكرياتي بيب الأولى إلى ذلك الوقت البارد الرطب الذي يتوسط ما بعد الظهيرة والمساء، فيحكي عنها بصفاء وواقعية" إننا نقطن في أرض المستنقعات التي تطل على النهر، وعلى مسافة 30 ميلا من البحر.. في مثل ذلك الوقت وجدت على وجه اليقين أن ذلك المكان العاصف القابع تحت الحشائش الطويلة هو المدفن التابع لدار العبادة، وأن أبي وأمي وإخوتي الخمسة الصغار يرقدون هناك، وأن تلك الأرض الفضاء المسطحة هناك هي المستنقعات، وأن ذلك الخط المنخفض الرفيع الذي يقع على مسافة أبعد هو النهر؛ وأن ذلك المكان البعيد الذي تهب منه الريح كان البحر، وأن ذلك الفتى الصغير الذي يكاد يموت رعبا من كل ذلك، والذي شرع في البكاء هو بيب". وصولا إلى الصفحة 312 من الرواية وهي لحظة فراق بين بيب وحبيبته "تسعدين بالفراق مرة أخرى، يا "استلا"؟ بالنسبة لي، الفراق أمر مؤلم. لطالما كان فراقنا الأخير مؤلما". لترد أستلا "بعد أن علمني العذاب أن أفهم ما كان عليه قلبك دائما. لقد أذللت وتغيرت، ولكن أتمنى أن أكون قد تغيرت إلى الأفضل. كن طيبا معي كما اعتدت أن تكون، وقل لي إننا أصدقاء". قالت "استلا": "وسوف نبقى أصدقاء مهما باعدت بيننا الأيام والمسافات" أخذ بيب بيدها، وغادرا المكان الخرب، ونظر عبر الحقول في ضوء المساء الخافت، فلم ير أية ظلال لفراق آخر" وبإجماع المصادر، نشرت الرواية لأول مرة مسلسلة بدءا من عام 1860، ثم نشرت كاملة في 1861 وتعد من أحسن أعمال ديكنز وواحدة من أكثر رواياته شعبية، وتم تجسيدها على المسرح والشاشة أكثر من 250 مرة. تتحدث "الآمال الكبرى" عن قصة بيب، الطفل اليتيم، من طفولته المبكرة وحتى مرحلة البلوغ وثقتفي محاولاته لإدراك النبل أثناء مسيرته تلك. وتجري أحداثها بدءا من عشية عيد الميلاد عام 1812، عندما كان بطل القصة في السابعة من عمره، وحتى شتاء 1840. ويمكن اعتبار الرواية سيرة شبه ذاتية للكاتب على غرار الكثير من أعماله، يستقي فيها من خبرته في الحياة ومع الناس. كانت أكبر أمنية ل"بيب" حينها هو أن يعمل صبي حداد في ورشة "جو" زوج أخته. وبالفعل تم تحقيق الحلم، ولكن "بيب" الصغير لم يشعر بالسعادة قط من هذه المهنة. فقد شعر من معاملة "استلا" له أنه من الطبقة العامة التي لا تجيد التعامل اللبق مع الغير. شعر حينها أن حصوله على مهنة صبي حداد في ورشة ليست هي الغاية. كان "بيب" يجيد القليل من القراءة والكتابة. جاءت الفرصة ل"بيب" على طبق من فضة فقد تبرع أحد المحسنين له كي يصبح -جنتلمان- وحصل علي مبلغ من المال ليسافر إلي لندن ليتعلم هناك وبالفعل تعلم وأصبح رجلا له مكانه ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فقد أحب "بيب" "استلا"، ولكن لم تكن هي تبادله الشعور نفسه وعاش في وهم أن الآنسة "هافيشام" هي المحسن الحقيقي الذي صرفت عليه لكي يتعلم ويصبح جنتلمان، ولكن انكشفت الحقيقة أن المحسن الحقيقي هو ذاك الرجل -السجين الهارب- الذي قدم له يوما ما الطعام والمبرد الحديدي لكي يبرد الأغلال عن يده وما كان منه إلا أن يرد الجميل لهذا الصبي "بيب" الصغير. تدور الأحداث ويعرف "بيب" أن السجين الهارب هذا هو نفسه والد "استلا" وأن أمها تعمل خادمة عند المحامي الذي كان الوسيط بينه وبين والدها الذي قدم له العون في استكمال تعليمه. ولكن "استلا" عاشت طيلة حياتها تجهل أمها وأباها. اتهمت أم "استلا" بالقتل فقد قتلت عشيقة والداها، ودخلت السجن وحكم عليها بالبراءة وعملت عند المحامي الذي ترافع عنها. مات الرجل المحسن على "بيب" والذي كان يدعى "ماجويتش" بعد صراع للهرب بمعاونة "بيب" وأصدقائه ولكن تفشل خطة الهروب فشلا ذريعا ويلقى حتفه في مستشفى السجن. تتزوج "استلا" من رجل غني، ولكنها تحيا حياة بائسة، وتتزوج للمرة الثانية ولكنها لا تنعم بالسعادة برغم الثراء التي تتمتع به. وفي نهاية المطاف يقابل "بيب" "استلا" بالصدفة بعد سنوات كثيرة في بيت العجوز "هافيشام" التي رحلت متأثرة بحروقها، وآلت كل الثروة من بعدها ل "استلا". شعرت "استلا" بالأسى والحزن وفوات العمر دون فائدة، فقد ضيعت حب "بيب" الصادق وكانت ضحية تلك العجوز التي حولتها لصاحبة قلب بارد كي تنتقم من كل الرجال بسبب هذا الرجل الذي تركها في يوم عرسها. تلك خلاصة هذا العمل الأدبي الرفيع الذي يلخص محنة وأحلام الإنسان الكبرى، وهي تترنح ما بين الإجهاض القهري، وعبقرية الوصف الأدبي الرفيع وتحليل تفاصيل حياته بتمازج يشد الروح . الآن لنُلق نظرة عن المؤلف، إنه "تشارلز جون هوفام ديكنز Charles John Huffam Dickens (1812 – 1870)"، والمعروف باسمه الأدبي "تشارلز ديكنزCharles Dickens ": وهو روائي وناقد اجتماعي وكاتب إنجليزي يُعد بإجماع النقاد أعظم الروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري، ولا يزال الكثير من أعماله يحتفظ بشعبيته حتى اليوم. تميز أسلوبه بالدعابة البارعة، والسخرية اللاذعة. صور جانبا من حياة الفقراء، وانتقد المسؤولين عن المياتم، والمدارس، والسجون. من أشهر مؤلفاته "أوليفر تويست" (عام 1839)، و"قصة مدينتين" عام 1859)، و"أوقات عصيبة"، و"دايفيد كوبرفيلد" (عام 1850) "ويكيبيديا".