إنها غزَّةُ المعزوزةُ، غزة المغْزُوَّة من قِبَل فيالق وجحافل الأشرار والأوضار، قاتلي الأنبياء والمرسلين، ومعذبي القديسين والأبرار. إنها غزةُ التي تعتاش -اليومَ- على بقايا فتات من خبز الصدقات الحافي، وترتوي صباح مساءَ من دمها الزكي، وتغرد وحدها وهي مُعَفَّرَةٌ بالتراب والجمر والغبار والألم. لم يكن لها وليس لها من مُعين وعضُدٍ سوى جلدها وصبرها، وأبناء طينتها، وسلالة صلصالها، وولدان رَحِمِها. إذْ أنها بُحَّتْ من كثرة ما رفعت عقيرتها إلى عَنان السماء، ومن شدة ما أعلت صوتها إلى حيث الأهل "النَّشامى" العربان والجيران، والأشقاء في الدم والتاريخ واللغة والدين بفرعيه الإبراهيمين العظيمين: المسيحية والإسلام. ولا من مغيث، ولا من مجيب ومُلَبٍّ كأن المنادى عليه أصم مغشيٌّ عليه، في أذنه وَقْرٌ، وقطن سميك مغموس بالقطران وفي عينيه قذىً وعمىً. وها إنها، بعد أن يئست، تتلقى بصبر أسطوري، وبإيمان لا نظير له، الكبريت والفوسفور، والزَّقّوم، وماء المُهلِ. تتلقى ما يراد به أن يبطش بها نهائيا ويهلكها، ويُرْديها عظاما مكومةً، وصوتا مختنقا إلى الأبد، ولسانا مقطوعا لا يملك أن ينادي أو يحتج أو يُصاوِلَ أو يُعري عقابيلَ الشر البادية، والغطرسة الفاشية، والإرهاب الدولي الفعلي، الإرهاب المدجج بكل ما تفتقت عنه أذهان "الذكاء الاصطناعي"، وألياف التكنولوجيا الجديدة المتطورة الماحقة، تلك التكنولوجيا التي تتفنن في ابتكار واختراع أزهار الشر.. أزهار الألم، أزهار الدمار والشقوق والحروق، وبالونات الموت والردى. ما من مارق شرير مدجج بالبهتان والزور، وتزويق الأكاذيب وتسويقها، وترتيق مِزَق المرويات والمحكيات الزائفة، وإرسالها في العالمين ليتلقفها "العم سام "، ما من مارق سارق أكثر من إسرائيل. إنه الشر المستطير والشوكة المسمومة الواخزة المحشوة والمحشورة في خاصرة العالم العربي.. في حزام الشرق الأوسط، والحَجَرَة الدموية في حذاء العالم، والكذب المُقَوَّى في كتاب الجغرافية والتاريخ. فما تقوم به النازية الجديدة من تصفية عرقية لشعب أعزل، وعطش فامْبِيريٍّ لِمَصِّ دمائه حتى النهاية، وسعْي محموم إلى إخضاعه وإرْكاعِه، بل وطرده وتهجيره وإخراجه من أرضه التاريخية، أرضه الكنعانية التي سبق فيها أجدادُه تاريخيا أجدادَ هؤلاء الهمج الأفّاقين الملتقطين من كل حدب وصوب، والمُقَطَّنين بحد "السيف" والمكر والغدر، ووابل الرصاص الذي لعلع بليلٍ، ما تقوم به إنما هو تجلٍّ لضغينة رُسوبية مستحكمة، وحقدٍ أسود دفين على العنصر العربي والإسلامي، وكراهية صفراء ذات رائحة نتنة للفلسطيني، ولكل ما يمت لفلسطين بصلة. لقد وُجِدَتْ إسرائيل "شعب الله المختار" قاتل الأنبياء وغير الأنبياء، المدعوم بأسفار التوراة، وآياتها المحرفات التي تدعو إلى قتل الأطفال، وسبي النساء، وحرق الشجر والحجر، وهدم المدن. أقول: وُجِدَتْ لأن دولا غربية أوجدتها وأنشأتها ورعتها وهدهدتها، ولا تزال تُهَدْهِدُها وتوصيها، وتشق لها الطرق والسبل لتردم ما تبغي وتريد، مغدقة عليها المال والمرتزقة، والسلاح الفتاك، السلاح الذكي ذاك الذي كأنما اخترع خصيصا ليتمرن حاملوه ويجربوه على صدور الشعب الفلسطيني، ليتعلموا التسديد السديد، والتصويب الناجع الفاجع. عشرات بل مئات الأطفال والطفلات والنساء والرجال، يتمزقون كل يوم، ويتفتتون، تشوههم نيران القذائف والأغبرة والتربة السوداء، والحجارة والحديد والأسلاك، لا ينفعهم مشفى يلجؤون إليه، ولا مدرسة يأوون إليها، ولا مسجد يتحصنون بزواياه وأركانه ومحرابه، ولا مكتبات، ولا أسواق تعج ب "الخضر" والبضائع الشحيحة. بل، إن يد الموت والغدر والتصفية تَطولُ رجال ونساء الإعلام، وممثلي الأممالمتحدة، و"الكادر الطبي"، وسيارات الإسعاف، أمام أنظار العالم الذي لا يريم. ولا يحرك ساكنا، وإنْ حرك الساكن ورفع المبتدأ والخبر، فبخط يده، وتصريح من فمه يَدين ويشجب ويندد ويحتج على العدوان الغاشم، ثم يجر أول كرسي ليجلس عليه مهدودا، يتنفس الصعداءَ، والعرق يتصبب من جبينه خوفا وارْتِعابا كأنه مرمى لصاروخ أو قذيفة طائشة ستأتيه على حين غرة، أو من وراء حجاب؟ أو يجر إليه أقرب وسادة يضع عليها رأسه المُجْهَد وهو يُغَمْغِم آيات كريماتٍ، ودُعاء دينيا يَقيهِ الشر المستطير حتى لا يصل شررُه إليه، وشظاياه إلى راحته؟ ثمة ما يُضْحِكُ ولكنه ضحك كالبكا -على حد تعبير المتنبي- وما يؤلم ويَحُزُّ في النفس، ويُرينا قَماءتَنا، وذلنا وعجزنا وشللنا، ونحن نرى ونُبْصِر ما يجري كأنما في شريط سينمائي بوليسي يقوم على العنف المصور الخيالي ليس إلاّ. أو في سيرك يتقافز في دائرته بهلوانات غبطة وحبورا، ونحن نسمع صرخات أبنائنا وبناتنا في غزّةَ والضفة الغربية والقدس، وما إليها، كأنما هي صدى لا غير لكوابيس قضَّتْ مضاجعنا بالليل، وتبخرت عند صحونا، وطرد العمش من أعيننا. فَلِمَ الاجتماعات تلو الاجتماعات، والبيانات الفصيحةُ المُشَقْشِقَةُ ما لم تكن نتيجتها الجد والحزم والدعم الفوري ماديا وأدبيا ومعنويا، وإسماع صوتنا كعرب ومسلمين بأنّا جادّون وساعون إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع العدو الصهيوني. وبأنّا جادون مسارعون إلى إيقاف مضخات البترول والغاز الطبيعي، وقطعها على أوروبا وأمريكا؟ ما جدواها إِنْ لمْ توقفِ العدوان الهمجي على شعب أعزل مُجوَّع، ومعطَّش، ومُقَتّل يوميا، ومحروم من الدواء والعلاج، والضروري الأدنى؟ إن هذا الهدْم اليوميَّ المُرَوِّعَ والمجنونَ ما هو إلا حلقة في سلسلة المخطط الغُرْيوني (ابن غوريون)، منذ العام 1948، والوجه الآخر البغيض لوحدات "الهاغانا" الصهيونية التي نفذت تعاليم مؤتمر "بال" بسويسرا، ووصايا ابن غوريون. خطة منهجية جهنمية تتبلور تحت مسميات مختلفة وعديدة لكنها واحدة في الهدف والزَّمَكان. لقد عرّيْنا بما أسعفتنا به اللغة والغضب، مثقفي وسياسيي وإعلاميي الغرب، نقدا وفضحا من حيث أبرزنا وأظهرنا كذبهم، وانحيازهم السافر الأعمى إلى سردية إسرائيل، مع العلم أنهم على معرفة بصنعها واختراعها وتهافتها و"كلبيتها". لكن، ماذا عنا نحن كمثقفين وإعلاميين وسياسيين وحقوقيين، وحكومات وأصحاب قرارات؟ ماذا عنا ونحن أقرب إلى غزة والغزيين والفلسطينيين، بالروح وبالانتماء، وباللغة، وبالدين، وبالتاريخ؟ فإذا كان الغرب وأمريكا ومن لف لفهما، على صراط بني إسرائيل، لأن اللوبي اليهودي هو الأقوى والأشد تغلغلا وانْزِراعا ونفاذا في دواليبها ومؤسساتها وإعلامها واقتصادها، وأنهم واحدٌ من حيث الانتماء الديني والتاريخي والوجودي بحكم جَذْرها المشترك: اليهودي المسيحي، فنحن على صراط مَنْ؟ على دين من؟ على تاريخ ولغة من؟ على كرامة وكبرياء من؟ على نجدة وغَوْث وعون من؟ أسئلة لا تَني تتوالد، وما يوَلِّدها سوى الآلام والأسى والحسرة والعجز البيّن الذي يضاحكنا فنضاحكهُ يُجَمِّشُ آباطنا، فنطير انتشاء ورقصا للتجميش، ثم نُحَوْقِلُ، ونُفَرْقِع أصابع اليدين؟ لِغَزَّةَ العزُّةُ كلُّها. لها المجدُ والخلود، والثارات النفسية العميقة الممتدة في وجدان الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، وجدان الملايين من أبناء أمتنا الذين لا حول لهم ولا قوةَ إلاّ ما يملأ أفئدتهم دماء فوارة، وأسى حارقا وناطقا، وحزنا عاتيا لا قِبَلَ لهم به وهم يرون إخوانهم وأخواتهم صغارا وكبارا، نساءً ومسنين يحترقون كل يوم، بل كل ساعة، ولا يملكون غير حناجرهم وسَخَطِهمْ وغضبهم العارم الساطع الذي يعبرون عنه في المسيرات والهتافات كما يعبر عن ذلك أحرار العالم من شباب وشابات، وكهول، وسياسيين ومثقفين ومثقفات، وحقوقيين وحقوقيات وهم يصارعون الوحش المتمثل في حكوماتهم، والوحش الفاشي الإسرائيلي الدموي في فلسطين. لذلك الدمِ، الدم الفلسطيني الزكي الطاهر. لتلك الجباه الغُرِّ والوجوه المُدَمّاة المعفرة الأجمل رغم الداء والأعداء، رغم التشوهات والموت الذي يُعَصْفِرُها. للأمهات والأخوات والحبيبات الفلسطينيات، وللأطفال: الأزهار المختبئة بين الشقوق والحروق، أرفع صوتي عاليا مادحا مبشرا بحلم الغد وإن طال، ومنحنيا بكل إكبار وخشوع أمام الشهداء والشهيدات.. أمام عظمة هذا الشعب الجبار الذي يصارع طيرا أبابيل في القرن الحادي والعشرين، ترميه بالصواريخ والمُسيّرات، وبالنار والفوسفور. ويصارع وَحْدَهُ ببطولة نادرة عزَّ مثيلها، البوارجَ والسفنَ الحربية في البحر، والدبابات ومختلف الآليات والجرافات في البر، والخرافات الإسرائيلية في الكتاب والشعر والوجود. لهُ، لهذا الشعب العظيم، مديحي.. مديح الدم الغالي، وأزيد مقترضا درويش الأرفع: مديح الظل العالي.