ماذا لو اطّلعت الهَيئة العُليا للغة الفرنسية على ما ارتكب من مَجازر لغوية في حق الفرنسية، (أما الأخطاء في اللغة العربية فحدث ولا حرج)، مع انطلاق البرنامج الوطني للدّعم التربوي بالمغرب؟ ونحن نعرف أن الفرَنسيس يحبّون لغتهم، ويفتخرون بها إلى درجة القداسة. ستدخل الأمور إلى مجال العلاقات الدولية، وعلاقتنا مع فرنسا هذه الأيام، كما نعرف، ليست سَمْنًا على عَسَل، ولا هي في حاجة إلى نقطة أخرى تفيض الكأس. وبعيدا عن الأمور الديبلوماسية واشتباكاتها، خَلخلت الصور التي شاهدتها على بعض السبورات ذاكرتي، وأرجعتني غصبًا عنّي إلى مُراهقتي في يوم من الأيام. أذكر أنني كنت بمعيّة فرنسي وزوجته أثناء عودتنا من زيارة إلى منطقة تافراوت الجميلة، وأثناء حديثنا استعملت بشكل عفوي فعلا في ال(passé composé) مع (être) وكان عليّ أن أستعمله مع (avoir)، وإذا به يوقف السيارة مُنفعلا، رَكنها إلى جانب طريق كثير المُنعرجات، وبدأ يؤنّبني بحُرقة على فِعلتي، وكأنّني ارتكبتُ ذَنبًا لا يغتفر. صاحت فيَّ زوجته مُتأففة: "Oh non"، ثم قال لي زوجها برنارد معاتبًا بشدّة ومُستخفًّا: "C ́ est impardonnable cher Driss"، وأضاف بانفعال ما معناه: أنت أستاذ لغة فرنسية صديقي إدريس، ولا يجب عليك فعل مثل هذا، ونسي أنني كنتُ مُرشدهم بلغتهم "الفْرَنساويَة" طيلة يوم ونصف مجّانا، ولم أجد حينها أمامي من مبرّر إلا الاعتذار والصّمت. نعرف نحن كأساتذة بالمُمارسة والتجربة، كما بالخبرَة أيضًا، أن بدايات الدخول المدرسي غالبا ما تكون مرتبكة ومَغشوشة، لا تظهر الأمور على حقيقتها، كما لا تعلن عن مكنوناتها دفعة واحدة، والدليل هو أن الكثير من التلاميذ والتلميذات يظهرون في البداية على غير حقيقتهم. والكثيرون منهم يندفعون في أجوبتهم مُبكّرًا، ولكن سُرعان ما يتراجعون تدريجيا إلى الوراء مع مرور الوقت، تاركين أمكنتهم وأجوبتهم وزعامتهم للصامتين والصامتات في بداية الموسم الدراسي، ويظهر أن اندفاعهم كان مفتعلا، وفيه الكثير من الغرور والفَبْرَكة، ويتأكد أن قدرتهم على الاستيعاب والمُسايرة، عندما تشتبك الدروس في تعقيداتها، تكون محدودة. أسباب نزول هذا الكلام، هو ما تتداوله وسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي (Social Media) من صور تتضمن كوارث تعليمية، و"أوديوهات" تتضمن توجيهات وتنبيهات رؤساء بعض الجمعيات المستفيدة من الدعم التربوي للمساهمين في العملية ابتداء من اليوم الأول أثناء العطلة البينية، وإن كنا لا نعرف في الحقيقة إن كان الأمر يتعلق بدعم دروس، أو مراجعة أو تقديم الدروس التي لم تُقدّم أصلا. والأكثر إثارة، هو ما رافق هذه العملية في بدايتها من أخطاء، ولو تسربت لنا فيديوهات بالصوت والصورة، ستكون بدون شك فضائح بالجملة، إن لم نقل كارثة تعليمية في المغرب الحديث بكل المقاييس، إن على المستوى البيداغوجي أو التربوي وطرائق التدريس، والتعامل وفق ما تمليه الديداكتيك، وتحويل المعرفة العالمة إلى موضوع للدراسة، وتقديم الدروس للتلاميذ وفق مناهج وطرق بيداغوجية علمية تلائم العصر، وبالتالي ما تسرّب في الوسائط الاجتماعية لم يفاجئ أحدًا، بل هو ما كان منتظرا في ظل العشوائية التي رافقت تدبير أزمة التفاوض منذ مدة ليست بالقصيرة، وما رافقها من تدبير سيئ وغير مسؤول وجدّي للأزمة التعليمية التي تعرفها البلاد، تجلى ذلك في مُراوغات الوزارة الوصية أولا، ثم مع الحكومة المغربية ثانيا في لجنة مشتركة ترأسها السيد عزيز أخنوش، الوزير الأول، شخصيا مع النقابات الأكثر تمثيلية. ولذلك، واهمٌ من كان ينتظر غير الذي حصل، حين أصبحت العملية التربوية والتعليمية، وهي الأكثر حساسية وذات الأولوية في أي مجتمع، مُجرّد "بْريكولات" للعاطلين و"هْميزات" لرؤساء بعض الجمعيات التي تحتضنهم، ومُسكنات أمنية وسياسية للأسر من طرف الحكومة؟ وكلنا يعرف، بما في ذلك الدولة نفسها بكل هياكلها وأجهزتها، أن مهنة التعليم وما يرافقها من عملية تعلمية-تعليمية، هي أكثر المهن تعقيدا بين كل المهن الأخرى، ولكن هذه العملية على خطورتها وحساسيتها، وأهميّتها في تكوين جيل المستقبل، تخضع بين الحين والآخر إلى ترقيعات بشكل عشوائي في هذا الجانب أو ذاك، ولذلك ندعو الله أن يحفظ مدرستنا العمومية، لأنها الضّامن الوحيد للأمن الثقافي في دولتنا وبلدنا، ووقاية أبنائنا وبناتنا من الضياع، ضياع تعليمي، فكري، معرفي وسلوكي وقيمي... إلخ. لا داعي أن أُقْسِمَ، وأنا بعيدٌ في هذه العطلة البينية عن القسم، أن قلبي يتقطع حسرة على تلميذاتي وتلاميذي، وهم بين أياد أراها غير أمينة معرفيا وتعليميا وبيداغوجيا، وليس لها تكوين تعليمي أساسي أو دراية أو وعي بشيء اسمه الديداكتيك والبيداغوجيا وعلوم التربية والتعليم عامة. هؤلاء الشباب والشابات لا لوم عليهم، ولو أنني أعرف بأنهم لا يعرفون بكل تأكيد، كيف يعاملون تلاميذ وتلميذات وجدوهم فجأة أمامهم، وأنا هنا أعرف ماذا أقول. العملية التعليمية التعلمية هي أكثر من توصيل معارف أو إيصالها، وليس التجاوب الآني بين الأستاذ أو من ينوب عنه مرحليا في غياب الأستاذ والمعلم القسري والاضطراري عن القسم، كما في حالة الدعم هذه، وهي أعقد كذلك من تقديم الدروس نفسها، كما قد يعرف الأساتذة الحقيقيون أنفسهم. ستغيب بكل تأكيد تلك الحميمية والإنسانية الدافئة بين الطرفين: مُخَاطَبٌ ومُخَاطِبٌ، سيغيب الخيط الناظم، ولن يحدث ذلك التجاوب الصادق الموجود بين المعلم أو الأستاذ وتلاميذه وتلميذاته، وهو أمر جِدُّ مهم في العملية التعليمية التعلمية برمَّتها. المسألة هنا لا تتوقف على الشهادة التعليمية وأكبر منها، مهما علا شأنها، ولكن هذه العلاقة تنبني بين المعلم والتلاميذ على الثقة العميقة والمتبادلة، وهذا الأمر يتطلب وقتا طويلا في تحقيقه أحيانا، ننتظر كثيرا بما أوتينا من صبر، حتى يتم إخراج المتلقي من قوقعته. لا يعرف من هو بعيد عن القطاع، معنى أن يُسِرَّ لك تلميذ أو تلميذة بمعاناته الصامتة، وبما يكتمُه من أسرار نفسية وسيكولوجية، لا يستطيع البوح بها حتى لأبيه وأمه، ويظل محتفظا بها لنفسه إلى أن يحين الوقت المناسب للإفراج عنها، ولكنه في المقابل يبوح بها، مهما تكتّم عنها، لبعض أساتذته. قد لا يكفي في كثير من الحالات أثناء الدخول المدرسي أن تسألهم عن أمراضهم وعن مِهَنِ آبائهم وأمهاتهم، وعن حالاتهم الاجتماعية أو طبيعة أمراضهم، لا يغرن إجابتهم عن ذلك في وريقات صغيرة تحتفظ بها لنفسك، وبالتالي تتصرف معهم بناء على بنك المعلومات في معاملة اليتيم والفقير، المريض والمُعافى، الجاد والمتحايل منهم. وتعرف من التلميذ أو التلميذة أن أبوه/ ها عاطل عن العمل أو آباء آخرين بارت تجارتهم وانهارت أحوالهم المادية، ولكن هناك ما هو أعمق بكثير، حين يثق فيك التلميذ أو التلميذة، ويبوح لك بأسرار دفينة، لا تظهر في تلك الورقة الصغيرة، وعن بعض معاناته الصامتة، حتى وهو يعيش مع أسرته، وبين الإخوة والأخوات والأب والأم. مثل هذه الأمور النفسية والسيكولوجية ليست بالأمر السهل واليسير، إذ تتطلب من الأستاذ جهدا ومهارة وتوظيف معرفة بكثير من العلوم الاجتماعية والنفسية والسيكولوجية، وكثير من التلاميذ لا يصلون معك إلى هذه المرحلة إلا بعد مضي شهرين أو أكثر من العمل والاستقصاء الباطني في السّنة. وحين تصل العلاقة معهم إلى ذروتها، وتحل بعض مشاكل التلاميذ التي قد يخفونها عن آبائهم وأمهاتهم، ويسرون بها إليك، بعيدا آذان زملائهم، ولا يعلم بها أولياء أمورهم إلا بوساطة الوسيط التربوي، الذي لن يكون هنا سوى الأستاذ نفسه، بعد أن يكونوا قد أمّنوك واستأمنتهم عليها. وبعيدا عن أي تحصيل معرفي، أتصوَّر، وأنا في عطلتي البينية، أن الكثير من أمثال هؤلاء التلاميذ جالسين في فصول دراستهم أمام هؤلاء المُدَعِّمين الجُدد، وهنا أستحضر كثيرا من الأسئلة في هدوء: هل سيخضع هؤلاء المُدَعِّمين لمُراقبة الأطر التربوية/ المفتشون؟ كيف سيتصرَّف التلاميذ بكل أصنافهم وأنواعهم معهم: مشاغبون، انطوائيون، عدوانيون، لا مبالون... إلخ؟ هل سيصغون إليهم؟ هل سيستقيم أمر البعض منهم؟ أم سيعودون لحالة الانطواء والشغب التي بدؤوا بها موسمهم الدراسي مع أستاذهم، قبل أن يتخلصوا منها جزئيا ومرحليا؟ هل المُدَعِّم الجديد/ البديل المرحلي للأستاذ، هو الآخر مُحتاج أكثر من غيره للدَّعم النفسي والبيداغوجي، بعيدا عن هوَسِ الدّعم الجَيْبي؟ ذلك ما ستبديه لنا العودة المقبلة ما بعد العطلة البينية. فقط كإشارة أخيرة، قبل أن أختم هذه الورقة لا بد من طرح بعض الأسئلة البريئة في طرحها: ماذا يمكن أن ننتظر من مسؤولين في وزارة لا يعرفون أن تدبير المنظومة التعليمية في أبعادها النفسية والاجتماعية والبيداغوجية وغيرها، ليس مثل تدبير رأسمالي لمصنع أو ضيعة أو شركة؟ وإلا كيف يمكن لنا أن نستدرك دعمًا أو تدريسًا لدروس حوالي ستّة أسابيع من الاضرابات في بحر أسبوع واحد؟ ولو كانت الحكومة ومعها وزارة القطاع يتحليان بالقليل من الجدية والمسؤولية، لحلت أسباب الاحتقان مع رجال ونساء التعليم قبل الإضرابات أو الأسبوع الأول منها، و قد كان ذلك ممكنا على الأقل خلال هذه العطلة البينية، والأساتذة المضربين لهم من الكفاءة والتكوين والتجربة والقدرة على التضحية، ما يجعلهم يستدركون ما يجب استدراكه بأقل تكلفة زمنية وإنجاح العام الدراسي الحالي، عوض اللجوء إلى تدبير "البريكولاج" والمراوغات من أجل ربح الوقت، واستنزاف الجميع لفرض أجندات يرفضها الجميع، وليست في صالح المدرسة العمومية ولا المنظومة التربوية الوطنيّتين.