واسع هو تراث المغرب القبلي، لِما كان للقبيلة به من موقع محوري بأثر وحضور عبر زمن البلاد منذ العصر الوسيط، ولِما كان لها أيضا من تجليات لا تزال بعض صورها بادية قائمة ممتدة اجتماعيا وثقافيا. ولعل نسب القبيلة كان اطارها الحقيقي فضلا عما يمثله من تحالف وولاء وانتماء، وأن موطنها كان بدور كبير في حياتها باعتباره جوهر لحمتها وصيرورتها وفق نظر ابن خلدون. وغير خاف عن ما كانت عليه القبيلة من عناية وجاذبية مستكشفين زمن الحماية خلال القرن الماضي، لدرجة كون ما أنجز حولها من تقارير كان لافتا في منحاه. مع أهمية الإشارة إلى أن القبيلة المغربية لا تزال تحفظ بعض أطر وجودها اجتماعيا ومجاليا، من حيث ما هو اندماج وقدرة على تحديد تقسيمات لها على مستوى بعض جهات البلاد. ولا شك أن المغرب بعيون دارسين مهتمين، ونظرا لِما كانت عليه القبيلة من دينامية إلى عهد قريب، يعد مجالا خصبا لهذا المكون لدرجة تجعله مختبرا مناسبا لاختبار ما هناك من مفاهيم ذات صلة. وكون قبائله لم تتعرض لصدمات قوية خلافا لِما حصل بأقطار أخرى، جعلها تحفظ خاصية تنوعها وتعددها واثنية سوسيولوجيتها. وجعل رصيد البلاد القبلي بجاذبية أنتروبولوجيين وسوسيولوجيين وغيرهم خلال فترة الحماية، لِما ميز مجالات قبائلها من انتماءات بشرية، فضلا عما شكلته مجموعاتها القبلية من عقبة في وجه التوغل الاستعماري. وعليه، ما كان من دراسات ذات صلة استهدفت فهم كيان القبيلة وأسس وآليات تحكمها في شأنها ومجالها الترابي. وقد شهدت القبيلة المغربية عبر تاريخها الحديث والمعاصر، تحولات عدة كانت بأثر في حجمها ووظيفتها وامتدادها، وذلك بدرجات متفاوتة من منطقة لأخرى نظرا لِما هناك من محدد إيكولوجي مجالي ودرجة تفاعلات، فضلا عن طبيعة نمط إنتاج وعلاقات داخل مجال محدد، وكذا ما كان لزعماء وأعيان وصلحاء هذه القبيلة وتلك من دور في توازنها الداخلي. وإذا كانت الحياة القبلية بالمغرب قد انتهت منذ فترة من الناحية السياسية والاقتصادية وبدرجة أقل اجتماعيا وثقافيا، فإن ما هو ذهنية وعقليات ووعي قبلي لا يزال قائما، لم يغب عن العلاقات الاجتماعية لحد الآن وهو ما يظهر على عدة مستويات. ويسجل أن المجتمع المغربي ظل بتميز خلال القرون الأخيرة، ذلك الذي جمع بين ثلاثة متغيرات ذات علاقة بنسيجه الاجتماعي والثقافي. أولا ما خص عنصر التنوع عبر ما أسهمت به الفتوحات والغزوات والتجارة والهجرة والرحلات وغيرها، ثانيا ما تعلق بحركية هذه القبائل في بعدها الأفقي المجالي، لِما حصل من هجرة وتنقل مستمر لمجموعات قبلية صوب هذه الوجهة وتلك، فضلا عن حركة بطبيعة عمودية همت ما هو وظيفي وأدوار ومراتب ومكانة، علما أن دينامية القبيلة كانت تحكمها مكونات وأعراف وتقاليد. وثالثا ما شهده المجتمع المغربي من تغيرات بقدر ما حصل على إثرها من اندماج بين مجموعات قبلية، بقدر ما نتج عنه من تنوع ثقافي واثني وتعايش ساهم في بناء مرتكزات هوية مغربية جماعية ووطنية. إشارات ارتأيناها مدخلا لبعض الضوء حول واحدة من قبائل المغرب الضاربة في القدم، ويتعلق الأمر بمكناسة تازا التي شكلت إمارة عقب دولة الأدارسة إلى غاية دولة المرابطين، وقد كان موطنها بين سهول ملوية وجرسيف وجبال تازة التي لا تزال بها بقية منها لحد الآن، وهي البقية المعروفة باسمها "مكناسة". والواقع أن الحديث عن قبيلة مكناسة الكبرى التي لا تزال بقاياها بجوار تازة، تسجل معه ملاحظة أساسية تخص ما هناك من ضعف التفات لهذا المكون القبلي من قبل الباحثين المغاربة، رغم ما كان للقبيلة من موقع أساسي وتفاعل منذ الماضي والذي بقدر ما ينتظم عليه الإطار الاجتماعي المجالي للمنطقة، بقدر ما يجعل من هذه الأخيرة (تازة) مجالا ووعاء قبليا بامتياز. ويظهر أن ما جاء حول قبيلة مكناسة من معطيات ضمن عمل البحث والدراسات، كان عرضيا فقط لا يسمح بصورة واضحة صوب وعاء القبيلة المحلي، الذي لم يكن لا أساسا لنشأة كيانات سياسية مغربية ولا سندا لها ضمن مستوى من المستويات. وعليه، ما هناك من حاجة لقراءات علمية رصينة ونصوص هادئة بمسافة كافية، تخص قبائل تازة وبنياتها الاجتماعية وما كان لها من أثر ودور سياسي عبر فترات زمن المغرب. وحول أصول قبيلة مكناسة كما حال باقي قبائل البلاد، فالحديث تتقاسمه فرضيات غير خافية عن دارسين مهتمين، تلك التي تقوم على ما هو جنيالوجي سلالي، إيكولوجي ترابي ثم تاريخي. ولعل كل فرضية من هذه الفرضيات، تجد ذاتها في ما هناك من معطيات داعمة ضمن واقع اجتماعي وثقافي لا يزال قائما. علما أن أصول قبيلة مكناسة هو موضوع خلاف بين من يقول من النسابة، بكونها زناتية أي بانتماء لمجموعة زناتة وبين من ينفي ذلك. مع أهمية الإشارة إلى أنه لم يبق من قبيلة مكناسة في تاريخ المغرب والغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، سوى مجموعة صغيرة بجوار تازة من جهة الشمال، تحد جنوبا بقبيلة غياتة وغربا بقبيلة التسول وشمالا بقبيلة البرانس وشرقا بقبيلة مغراوة وهوارة. وأن ما تبقى من قبيلة مكناسة تازا تتقاسمها بطون ثلاثة هي فرقة "بني علي" (مكناسة الغربية) ثم "بني هيثم" و"ولاد بكار"(مكناسة الشرقية). وغير خاف ما يرتبط بالعصبية القبلية ونهج ابن خلدون، لتفسير نشأة الكيان السياسي (الدولة) من رحم القبيلة في الماضي. ويمكن سحب جدل صاحب العبر هذا على فترات سابقة له لكون القبيلة ظلت من ثوابت تاريخ المغرب الوسيط وعنصرا ذا أهمية في جميع بنياته، رغم أن القبيلة أخذت أشكالا مختلفة ولعبت أدوار عدة ارتبطت بطبيعة الظرفية التاريخية. مع أهمية الإشارة إلى أن عصبية مكناسة تقوت خلال القرن الثاني الهجري، وتدرجت نحو إقامة إمارات بالمغرب الأقصى والأوسط. حيث تمكن بعض أعيانها من إنشاء إمارة بني وسول الصفرية بسجلماسة، وإمارة مصالة بتاهرت وإمارة بني العافية بتازة وكًرسيف وبلاد التسول. وقد انقسمت مكناسة بالمغرب الأقصى، إلى مكناسة الشمال ومكناسة الجنوب ومكناسة الشرقية ومكناسة الغربية. وهي بهذا البناء والامتداد تظل قبيلة بجوانب غامضة عدة، تجعلها بحاجة لدراسات شافية لفهم ما كانت عليه من أثر وعلاقة إما بتشكيل أو توسع أو انهيار كيانات سياسية طبعت مغرب العصر الوسيط، وكذا ما كانت عليه من ردود فعل ومقاومة للأطماع مثلما حصل زمن الحماية على البلاد خلال القرن الماضي. وتعد منطقة تازة مجالا خصبا قبليا جعلها مختبرا للدراسة والبحث، لِما يحفظه مكونها القبلي من رصيد يخص كيانه وبنيته وتنوعه رغم ما شهدته المنطقة من صدامات عبر الزمن. وعليه، كانت بجاذبية استكشافية من قبل دارسين أجانب سواء قبل فرض الحماية على البلاد أو خلالها. مع ما يسجل حول القبيلة المغربية عموما من خصاص معرفي يهم فترة ما قبل الفتح الإسلامي، خلافا لِما هناك من فكرة نسبية بعد دخول العرب للمغرب. علما أن المجموعات التي خضعت للفتح الإسلامي، تشكلت أساسا من البربر والبتر والبرانس ثم الأفارقة. ولعل مكناسة من قبائل تازة عن العصر الوسيط تحديدا بعد الفتح الإسلامي، والتي وردت عنها جملة إشارات في مصادر تاريخية مغربية ومشرقية، وهي القبيلة التي كانت بامتداد وحضور قوي وفق ما تحدث عنه صاحب المسالك والممالك (القرن الحادي عشر الميلادي)، وما ذكره صاحب العبر (القرن الرابع عشر الميلادي)، وقد أورد عنها أنها هي من اختطت رباط تازة علما أن منطقة تازة هي الوحيدة بالمغرب التي لا تزال تحفظ بقاياها، مضيفا أنها قبيلة بربرية في غالبيتها تتميز بقوتها ودفاعها عن ترابها ومجالها الحيوي، وأنها قبيلة جبلية محافظة على موطنها وتماسكها وإرثها وتقاليدها. ويسجل أن قبيلة مكناسة التي تمركزت فرقها ببلاد المغرب، لم تكن بدور ولا تفاعل سياسي ضمن وقائع زمن الفتح العربي الإسلامي للمنطقة نهاية القرن الأول الهجري. بحيث لا نجد في المصادر ما يفيد حول وقوفها لا الى جانب ولا ضد ما حصل من فتوحات، وخاصة من هذا وذلك ما يخص تحولها واعتناقها الإسلام، علما أن من المؤرخين من أشار لمشاركتها في ثورة البربر الكبرى مطلع القرن الثاني الهجري (122ه)، التطورات التي قلصت من الحضور العربي الإسلامي ببلاد المغرب الأقصى، وجعلته بفراغ سياسي ترتب عنه نشأة إمارات مستقلة واحدة منها أسستها إحدى فرق مكناسة (إمارة بني مدرار). ولم يذكر المؤرخون القدامى أي شيء عن مكناسة الشمال إلى حين ظهور زعامة قوية بها، تمثلت في "موسى بن أبي العافية" الذي جعلها بصورة ودور أكبر في تاريخ مغرب العصر الوسيط (القرن الثاني والثالث الهجري). وكان من عوامل بروز وقوة مكناسة الشمال (تازة)، استراتيجية مجالها ورغبتها في التعامل مع قوى الغرب الإسلامي آنذاك خاصة منها الخلافة الفاطمية، فضلا عن الخلافة الأموية بالأندلس. علما أن طموح الفاطميين في السيطرة على بلاد المغرب جعلهم يمدون يدهم لزعيم مكناسة الشمال "موسى بن أبي العافية"، الذي اعتبر العرض الفاطمي فرصة له للقضاء على الإمارات الإدريسية والانفراد بالسلطة في المغرب. وهذا ما تفيد به المصادر التاريخية وكذا كتب الطبقات والتراجم وغيرها، تلك التي تذكر أن مكناسة الشمال (تازة) كانت جزءا من رغبة إمارة النكور ودولة الأدارسة بالمغرب، وأنها مالت للفاطميين لتحقيق مبتغاها وسلطتها ونفودها في المغرب، وعندما تعدر عليها ذلك خرجت عن الفاطميين ومن ثمة ما حصل من ضغط عليها ومن حرب أضعفتها وجعلتها تختار الأمويين بالأندلس، وتنضوي تحت سلطتهم لتحقيق سيادة مكناسة على المغرب والاستقلال به، مع أهمية الإشارة إلى أن إمارة مكناسة لهذه الفترة كانت بنظم تدبير إسلامي وآخر قبلي مع نمط حياة اجتماعية وثقافية واقتصادية خاص بها. وحول اسم مكناسة التي لا تزال معالمها بجوار تازة، من المفيد الإشارة إلى ما ورد حول كون زعيمها "موسى بن أبي العافية" وهو ابن أبي ياسيل بن أبي الضحاك بن تامريس بن ادريس بن وليف بن مكناس بن سطيفالمكناسي، وقد حكم بلاد تازة ومناطق متصلة من جهة الشرق والغرب عبر فاس حتى طنجة وغيرها. ويعتقد من اسم مكناسة يرتبط بسلالة زعيمها "سطيفالمكناسي"، علما أن مكناسةتازة هي أثر تاريخي وموطن بخصوصية جغرافية ودلالات أمكنة، والسعي لمعرفة أصولها ودلالة تسميتها أمر يقتضي نصوصا ووثائق بزمن متسلسل. ولتجاوز ما هناك من غموض من المفيد التقاط ما هناك من إشارات واردة باعتبارها أثرا تاريخيا. واسم مكناسة الذي يعود لمغرب العصر الوسيط زمن الأدارسة، ظل يتردد منذ هذا التاريخ للدلالة على مجموعة بشرية (قبيلة) وعلى مجال ترابي معين. ولعل اسم موقع مكناسة يشهد على ما حصل من تواصل طوبونيمي هنا وهناك عبر الزمن، وهذا التواصل يظهر في وحدة الأسماء الموقعية في المجال المغربي وهو ما يعني وحدة حضارة وانتماء، والمثال واضح في موقع قبيلة مكناسة التي كانت تمتد خلال القرن الثاني الهجري على مجال واسع شمل وادي ملوية حتى البحر المتوسط حتى سجلماسة، وما بين نواحي تازة حتى تلمسان وبسكرة ثم فاسوطنجة وغيرها. علما أن من اسم قبيلة مكناسةتازة، سميت مدينة مكناس باسمها الحالي وفق ما جاء عند ليون الإفريقي صاحب "وصف افريقيا". ويسجل أن زعيم قبيلة مكناسةبتازة "موسى بن أبي العافية" أخذ بيعة عدد من القبائل، علما أنه بعد سيطرته على فاس شتت الأدارسة وأخرجهم منها مطلع القرن الرابع الهجري، بل توجه إلى تلمسان وسيطر عليها وعلى جوارها من المجال. وورد أن انفتاحه على دعوة الشيعة وتراجعه عنها، ترتب عنه صراع عسكري مرير على مستوى منطقة امسون شرق تازة، حيث انهزم وتحصن ببلاد التسول غرب المدينة وظل الصراع قائما إلى أن قتل بمنطقة جرسيف أواسط القرن الرابع الهجري. وتتحدث المصادر التاريخية على أن مدينة تازة الحالية يعود تشييدها للنصف الأول من القرن السادس الهجري، بموقع هام فاصل مجاليا بين الشرق والغرب. وأن مدينة تازة هذه عرفت أيضا ب: مكناسة تازا، لكون قبيلة مكناسة كانت كثيرة العدد وقد استقرت بالمنطقة وسمي الموضع باسمها. وبحسب ابن خلدون وبما أن المكناسيين كانوا يستوطنون نواحي تازة وغيرها من الجوار، يرجح أن هؤلاء هم من اختطوا رباط تازة خلال المائة الثالثة للهجرة. وأمام ما تحتويه تازة وجوارها من أثر بشري قديم وبقايا مادية تاريخية هنا وهناك، يلاحظ غياب أبحاث علمية أركيولوجية مغربية حديثة، اللهم ما لا يزال معتمدا مستهلكا من دراسات عن الفترة الاستعمارية وقد أنجزها مكلفون عسكريون بأهداف محددة، وجاءت بما جاءت به من معطيات بقدر ما هي عليه من أهمية وقيمة تاريخية بقدر ما تحتاجه من تدقيق. ويسجل أن من مواقع بلاد مكناسةتازة الأثرية موقع شهير ب:"عين اسحاق"، وهو عاصمة إمارة مكناسة بحسب تقدير مهتمين باحثين. وهذا الموقع الأثري الذي أورده أبي عبيد البكري لا يزال يحضر في الذاكرة المحلية والرواية الشعبية، من خلال جملة قراءات واشارات ذات صلة بإمارة موسى بن ابي العافية ومكناسة. علما أن معظم المؤرخين عن فترة العصر الوسيط أوردوا أن "عين اسحاق" مدينة أنشأها المكناسي موسى ابن أبي العافية، ومن هنا ما يمكن أن تكون قد لعبته من دور في تدبير إمارته وحمايتها، وفي أيضا انطلاق عملياته شرقا وغربا من أجل سيادته على المغرب. إشارات فقط بمختصر مفيد حول قبيلة مكناسة تازا التي يحفظها تراب المنطقة، وبعض أيضا من شأنه تخصيب ذاكرتها الرمزية. ولا شك أن ما هو تاريخي يخص بادية مكناسةتازة، بات سبيلا بقدر لاستيعات ما تزخر به المنطقة من تراث لا مادي واسع، وللنظر في ما ينبغي من سبل استثمار هذا وذاك في ورش التنمية المحلية. فقط ما ينبغي من استراتيجية عمل وذكاء تدبير ترابي، فضلا عن ثقافة تشارك.