1 "" غالبا ما نحتار في ما نعاينه يوميا من مظاهر التلكؤ في التغيير وفي إصدار القرارات ، الحاسمة منها والبسيطة، مع ما يستلزمه ذلك من اكتواء بنيران ال "انتظار" الحارقة، التي قد تستعر أو تخمد، تبعا لخصوصيات السياق.مع الأسف، في سياقنا المغربي، لا يمكن أن نعزو مرض "الانتظار" لا إلى غياب بدائل مفكر فيها، ولا إلى صعوبة القرار والحسم في خيار من الخيارات الكثيرة التي توضع على طاولة صاحب القرار، ولا حتى إلى تباطؤ في اشتغال آليات القرار. الانتظار عندنا معطى هيكلي في السياسة العامة للبلد، معطى يخترق كل مجالات الحياة، ويؤطر مختلف مستويات العلاقات الاجتماعية.و من أجل فهم ظاهرة "الانتظار" في سياقنا المغربي لا بد من الاستعانة بالانثروبولوجيا .فالانتظار عندنا يكاد يكون، من فرط ترسخه وتجذره في وعينا ولا وعينا، خاصية أنثربولوجية محايثة للإنسان وللمجتمع المغربي. 2 وكما أوضح عبد الله حمودي في مؤلفه "موسم في الحج"،، يعني الانتظار في معناه الأساسي، الوعي بالاختلاف: فأنا انتظر لأنني مطالب بأن أدرك ما لم أكن أدركه من قبل، بأن ذلك الذي انتظره هو الذي يمسك بالسلطة، بأنه كل شيء، وأنني لاشيء.وبهذا المعنى فالانتظار ليس بتلك البساطة التي يبدو عليها، فهو إستراتيجية للسلطة وللحكم، الحكم بواسطة فرض الانتظار . فالدولة بالمغرب تستثمر الانتظار من أجل أن تخلق منا ذوات قابلة للحكمsujet gouvernable . بواسطة الانتظار والاستهلاك الخالص للزمن ، أي بالانتظار لساعات ، أيام، أسابيع، شهور الخ. وليس غريبا أنه في الانتظار يشعر الإنسان بثقل الزمن، فكل دقيقة أو كل ثانية تتخذ شكل أبدية ضائعة. ثم أن تكون محكوما معناه ، في نظر أصحاب السلطة، أن تكون مستعدا للانتظار، أن تعرف الانتظار، أن تقبل الانتظار هنا، ساكنا أو تنتظر عبر الذهاب والإياب، لأن الذهاب والإياب يعني أيضا الانتظار، الدوران في حلقة، مثل "بغل المعصرة".وبالنسبة لأولئك الذين لا يبدون ما يكفي من آيات الخضوع، فالعقاب الشائع يكون هو "دعوه ينتظر، سيرى". وإذا كانت السلطة اليوم لم تعد فقط ذلك الكيان الميتافيزيقي الذي يلقي بثقله علينا من أعلى ، من فوق، ومن خارج، وإنما هي ذلك الواقع الميكروفيزيائي، الذي يخترق كل شيء فينا ، والحاضر في كل مكان .ثم إذا كان الانتظار عندنا محايث دائما للسلطة، فان أهم ما يميز الإنسان المغربي في مغرب الاستقلال هو أنه كائن منذور للانتظار، كائن مطالب دائما بالانتظار ، إذ ينبغي على كل واحد منا– كما يقول عبد الله حمودي- الانتظار دائما وأبدا، و انتظار كل شيء:المدير، الطبيب، الممرضة، الموظفة، رئيس المصلحة، الإعلانات، اتخاذ القرارات، نهاية الشهر، رمضان، عيد الأضحى، المطر، موسم الحصاد، عيد العرش، عيد الشباب...اللائحة تبدو لا نهائية.انتظار الانتظار. وعبر ذلك ينتهي المغربي في الأخير بادراك بداهة الانتظار، وباكتشاف حقيقة أن الحكم في معناه الملموس، لا يتمثل في إعطاء الأوامر وفرض الخضوع، أو حتى "احتكار العنف الشرعي" والحفاظ عليه، فالحكم معناه قبل أي شيء أن تؤسس ذاتك كحارس للممرات الضرورية من أجل إشباع الرغبات .تلك الحراسة التي تتحتكم في فضاءات و الأوضاع ، وخصوصا الممرات، الردهات ، قاعات انتظار، المداخل، محطات الجلوس والوقوف، الفردية والجماعية ...الخ 3 والواقع أن الانتظار ليس معطى آنيا ، عابرا مرتبطا بظروف استجدت على نظامنا الإداري السلطوي، كما التقطتها عين الباحث الانتروبولوجي، بل يكاد يكون محايثا لعقلية الإداري المغربي ، رجل السلطة المغربي ، أو بالأحرى هي قيم مترسخة في هذا المسخ الذي تمخض عن رحم الإدارة الفرنسية الاستعمارية، ، والذي نسميه إدارة مغربية،والذي للأسف الشديد يحمل الكثير من ملامحها، بل ويتفوق عليها في بعض الجوانب..لأننا عندما نتحدث عن مشكل سيادة اللغة العربية في الإدارات المغربية ضدا على ما ينص عليه دستور المملكة، أو عن تعاليها على المواطنين، بل وعجرفتها وسلطويتها، لا سيما تجاه من لا سلطة له ولا نفوذ..فإننا مع الأسف الشديد لا نتحدث بلغة "النهايات" وحتمية انحطاط الآتي واللاحق، مقارنة مع السالف، فالأمر لا يتعلق بالحنين إلى ماض مزدهر ومأسوف عليه للإدارة المغربية. فمن آليات السلطة الإستراتيجية التي استلهمتها الإدارة المغربي من الإدارة الفرنسية الاستعمارية، والتي تشربها الموظف المغربي جيدا ، وتفانى في استعادتها حد التماهي المرضي، هناك آلية الانتظار فكما سبق أن لاحظ ريمي لوفو، في كتابه"الفلاح المغربي المدافع عن العرش"، ف"بروفيل" الموظف المغربي، عقب الاستقلال مباشرة ، كما يرسمه هذا الباحث ، لا يتمثل فقط في ذلك الشاب عموما ، الذي يتحدث الفرنسية، ويحرص كثيرا على رموز السلطة: ربطة العنق، ال الذهبية، وكل المظاهر الأخرى، التي تعكس نعم الاستقلال. وإنما هو كذلك، ذلك الموظف الذي يحرص على إشهار سلطته عبر فرض الانتظار، والذي يصر دائما وفي كل الحالات، على أن يطلب من المواطن المغربي المتردد على الإدارة أن ينتظر، باسم التقدم، التخطيط، التصنيع، وان ينضبط للتعليمات التي يجهلها.والمثير للاستغراب ، يقول ريمي لوفو، ان الإدارة في مغرب الاستقلال، هي غالبا أكثر حرصا على الشكليات القانونية ومفرنسة أكثر من إدارة الحماية. ولن نندهش إذا ربطنا ذلك بالأصول الاجتماعية لهذه البيروقراطية (هنا بمعناه السلبي وليس الفيبري) المغربية الناشئة ، فكما يؤكد ريمي لوفو دائما، فقد نجحت النخب المحلية غالبا، بفضل علاقاتها مع الإدارة الفرنسية، في إدخال أطفالها إلى مدارس الحماية . لهذا نجد غالبا أبناء أو أحفاد القواد أو الشيوخ القدامى هم الذين يعينون كإداريين أو كمنتخبين في النظام الجديد للنخب المحلية، في مغرب الاستقلال... 4 وفي الأخير نقول مع موريس بلانشو بان الانتظار يتجاهل ويدمر ما ينتظره ، إذ كثيرا ما نستغني عن ما ننتظره، خوفا من عنف وقساوة وبرودة الانتظار، أو قد نتظاهر بالاستخفاف بما ننتظره حتى ونحن في أمس الحاجة إليه... لكن أليس الانتظار هو انتظار شيء قد يأتي ولا يأتي ؟ أليست مساحة المجهول في ما ننتظره أكبر بكثير من ما ننتظره؟ أليس الانتظار في حقيقته كما يؤكد بلانشو دائما انتظار ل"اللاشيء"؟.لكن أن ننتظر هذا "اللاشيء" هو ذاته انتظار كل شيء، ففي الانتظار يفتح باب الاحتمالات على مشراعيه.