الديمقراطية لا تأتي من صناديق الاقتراع و لا عن طريقها كما يتوهم الكثير ممن ينساق وراء المقدمات المشهورة التي غالبا ما "ينزل" بها عليهم دوي المخططات المدروسة و دوي استراتيجيات التعامل مع ما يسمونهم ب"الهَبْش" ذات القدرة على السيطرة و التمويه على المدى البعيد. إن الديمقراطية لابد و أن تبدأ من خارج صناديق الاقتراع التي ما هي إلا صناديق تكرس اللامساواة و الفوضى. فكل المشاكل تبدأ من صناديق الاقتراع هذه التي تجسد حالة حية من حالات تكريس الطبقية و عدم تكافؤ الفرص؛ حيث يترشح دوي النفوذ و يكتفي الفقراء و المساكين الذين يشكلون عصب الدولة ببيع أصواتهم في سوق نخاسة. "" متى كانت الديمقراطية تتولد عن صناديق لا ديمقراطية مصنوعة من بلاستيك، زجاج شفاف، أو حديد. و هل نجح يوما في انتخابات ما رجل صالح لا ينتمي إلى حزب يفرض عليه قانون لعبة المخزن و الأحزاب. بالطبع لا، و لن يفوز، و إذا حدث و فاز فسيكون حاله تماما مثل حال كلب أصحاب الكهف. سيقول البعض إن باب الترشيح في الانتخابات مفتوح للجميع. نعم مفتوح لكن لمن: إن الأحزاب تتفق تماما مع مخطط يفوق تصور أي كان، إلا القلة طبعا. و للأحزاب أدوات ووسائل عمل و توافقات عُليا و تراشقات سُفلى. و على أساس ذلك تكون لها الميزانية كما لها دور. و دورها بالطبع الاستقطاب، و التنويم، و التحريك المبرمج، و التحريض حسب موقفها من الكعكة و من السلطة. و هل من المعقول أن الأحزاب المتواطئة كلها سوف تسكت إذا حدث و فاز، كافتراض جدلي، أشخاص لاينتمون لأحزاب معينة هدفهم العمل على تغيير الوضع نسبيا نحو اللأفضل بأكبر عدد من مقاعد في البرلمان أو رئاسة الجماعات و البلديات. سوف توقد الأحزاب نارا، و سوف تتواطأ معها أجهزة من كل حدب و صوب، و سوف يدَعون أن البلد سائر في طريق الهلاك لأن اللامنتمون ليس لهم برامج سياسية للعمل و لا تصورات. و كل ذلك بالطبع لأنهم سيفقدون مجموعة من الصلاحيات و الميزانيات و السُلط. إن مشكل وجود الأحزاب هو تماما مشكل وجود اللاديمقراطية، فهي في تعددها و انتهازياتها اصل المشكل، و الديمقراطية و الأحزاب هم نقيضان لا يلتقيان. فما هي إذن تلك الديمقراطية التي تتغنى بها الأحزاب، و لماذا تريد الجميع أن ينخرط في التصويت عليها و لها في نفس الوقت. إن المؤسسات الحزبية لها دوران أساسيان فقط: دور المحافظة على وجودها أصلا من اجل الاستمرار في مصادرة الحقوق و النهب باسم الشعب، و العمل لمصلحة سلطة أكبر منها من اجل ضمان جو عام معين لها. الديمقراطية أيها السادة عليها أن تبدأ من الحياة اليومية، من الفيلات حيث يسود الترف الفاحش، و المنازل التي ليس بها ما يجعلها منازل سوى الجدران الآهلة للتآكل و السقوط، و دور الصفيح و الكهوف و الخيام التي يسكنها أقوام حاشى وأن يستطيع أحد أن يكلمهم عن السياسة و المشاركة الفاعلة بينما البؤس و العوز و الفقر ينخر حياتهم طولا و عرضا. الديمقراطية لا تأتي أبدا عبر صندوق، لأنه منطقيا على أصحاب الصندوق أن يكونوا ديمقراطيين سلفا حتى تتمكن الصناديق من أن تفرز الديمقراطية. إن الديمقراطية تبدأ من المكاتب الإدارية التي يسود فيه التغول و التعالي و الارتشاء، و المدارس التي ينتفي فيها العلم و الوقوف جانب المعلم و المتعلم سواء، و الجامعات التي تسيطر عليها لوبيات من ذوي الأيديولوجيات العمياء و المصالح الرخيصة، و المؤسسات المخزنية و الحكومية حيث تسود التراتبية و الزبونية. الديمقراطية ليس هي أن تُقسَم الأوطان جغرافيا مثل كعكة يأخذ منها كل حزب حصة معينة مسبقا حسب قربه من خط السير العام للدولة. الديمقراطية هي نشر المعرفة و الحقوق و المساواة بين الناس و إخضاع الكل سواسية للقانون. على الناس أن تسود بينهم الديمقراطية حتى يتسنى للصناديق أن تفرز منتخبين ديمقراطيين. لان دور المنتخبين ليس زرع الديمقراطية بين الناس بل هو محاولة المحافظة على الديمقراطية الموجودة فقط، أو إذا كان المنتخب صالحا أضاف شيئا من الديمقراطية إلى الدمقرطة الحاصلة، كما هو حاصل في الدول الديمقراطية. أما إذا علمنا أن الوضع الحالي هو تحصيل حاصل. و أن هذا الوضع يساهم في بقاء هرم سكان هذا البلد على ما هو عليه لمدة نصف قرن قادم على اقل تقدير. فسنعلم قطعا بل و نجزم أن الكثير من الناس من ليس له رغبة في التغيير. و سنعلم أن هؤلاء الذين ليس لهم أي استعداد للتخلي عن كراسيهم و مناطق نفوذهم هم من يملك زمام الانتخابات، هم من يسيطر على نتائج الانتخابات، هم من يريد انتخابات بهذا الشكل، هم من يدعو بتناقض غير واضح إلى انتخابات "نزيهة"، هم من يقود الناس، هم من يساعد و يدفع تُجاه تكريس الوضع الحالي بكل ما يحمله من تناقضات يُتستَر عليها بالشعارات الزائفة. فيبقى الحلم بالديمقراطية مجرد تمن يعيشه الناس في الأحلام للترويح عن أنفسهم من هول الفواجع المتتالية. أما إذا أردنا أن نعالج الأمر ببساطة وواقعية فإننا لابد و أن نعتمد الواقع الحاصل اليوم بعين الاعتبار. و إذا ما حاولنا أن نكون واقعيين فإن أول ما سنلاحظه بصفة عامة هو أن احد ابرز الأسئلة التي يسال من أجلها الكثير من المداد في الصحف و المجلات و التقارير، و يكثر حولها القيل و القال في العديد من الاجتماعات، و التجمعات، و اللقاءات هي هل الانتخابات القادمة ستكون نزيهة، شفافة، و ديمقراطية كما يريدها الناس و كما تدعي الحكومة ؟ أما أحد أبرز الإشكالات التي تبرز ضمنيا مع هذا السؤال فهو ما الفائدة من أن تكون الانتخابات نزيهة أم لا؟ في محاولة للجواب عن السؤال الأول نستطيع أن نجزم بيقين مسبق أن الانتخابات لم تكن يومًا و لن تكون نزيهة و خالية من الغش، و التزوير، و بدل المال لشراء الذمم، و تشكيل التحالفات لإسقاط الأعداء، و الكذب على الناس. فمع قدوم موسم الانتخاب تبرز إلى الوجود ظواهر غريبة لا تنشط إلا قبيل حلول هذا الموسم. يقوم المترشحون لأول مرة بزيارة أمكنة لم يزوروها من قبل أبدا، يدخلون بأرجلهم أحياء و مداشر لم يكونوا ليعلموا بوجودها لو لم يحملهم الطوفان إليها، يصافحون أناسا كانوا في الأمس القريب يبدون بالنسبة لهم مجرد أشباح تدب على الأرض، يطرقون أبوابا كم طرَق أصحابُها أبوابهم ليمدوا لهم يد العون فلم يجدوهم، يفشون السلام في الناس بالأطنان، يحظرون صلاة الجماعة بإصرار و بجلابيب بيضاء ناصعة أو بدلات ذات سواد داكن كجزء من حملتهم الدعائية... إن هذا النفاق الاجتماعي و السياسي الواضح يدل على أن المنتخبون هم طبقة من دوي المصالح الخاصة يريدون قضاءها على حساب من يستخفون بعقولهم و يتلاعبون بضمائرهم، و على حساب من يشترون أصواتهم، و من يهددونهم بعدم قضاء مصالحهم في حالة الفوز... و هكذا يبدو بوضوح أن الأمر ليس ديمقراطيا منذ البداية، و عليه لن يكون أبدا ديمقراطيا حتى النهاية. إن المشكل الخاص بالديمقراطية و كيفية تفعيلها يكمن في السلوكيات العامة و العقليات خارج الصناديق. أما من ينتظر الصناديق أن تنتج له دَمقرطةً فهو إما جاهل أو يتجاهل. و أما من صدق أن الأحزاب أساس وجود الديمقراطية فذاك مازال في ظلمات غيابات جب الجهل السياسي تائها.