منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا والعالم الغربي لم يدخر جهدا في الظهور بمظهر الحارس العالمي لمبادئ القانون الدولي، إذ اتخذ رزنامة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، ثم صراع في دواليب مجلس الأمن من أجل استصدار قرار يدين دولة روسيا بداعي خرق القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة، خصوصا في ما يتعلق بالفقرة الرابعة من المادة الثانية التي تمنع استعمال القوة أو التهديد باستعمالها ضد الاستقلال السياسي لأية دولة. هذه العقوبات والدفاع المستميت في وجه الغزو الروسي وصل حد فرض عقوبات على الرياضة الروسية، التي منع منتخبها لكرة القدم من خوض مباريات إقصائية خاصة بكأس العالم 2022 وتم تجميد عضوية اتحادها في الاتحاد الدولي لكرة القدم وكذلك الأوروبي، رغم أن لوائح الاتحادين تدعوا لعدم خلط الرياضة بالسياسة. نحن لسنا بصدد الدفاع عن روسيا التي تتوفر على جميع المقومات للدفاع عن نفسها، كما لا يمكن أن ننفي قيامها بخرق مبادئ القانون الدولي ومواد ميثاق الأممالمتحدة، بل قد سبق وأن نشرنا مقالا في هذا الشأن تعرضنا فيه لمختلف تلك الجوانب. بينما الغرض هنا التطرق للانقلاب في الموقف الغربي أمام العدوان الإسرائيلي على غزّة، حيث ترتكب جرائم أبشع وأوضح من تلك التي حرّكت ضمير الدول الغربية في الحرب الروسية الأوكرانية. لم تكتف الدول الغربية بالسكوت عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بل منعت كل مظاهر التضامن والتعاطف مع الشعب الفلسطيني في قمع للحريات والحق في التعبير الذي طالما صدّعت رؤوسنا بضرورة احترامه. بلغة القانون الدولي، فإسرائيل تعتبر دولة محتلّة للأرض الفلسطينية الأمر الذي يعطي للشعب الفلسطيني الحق في المقاومة بجميع الوسائل المتاحة بما في ذلك الكفاح المسلح. حسب التوصية الأممية رقم 1514 لعام 1960 حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، "يعتبر إخضاع الشعوب للاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل إنكارا للحقوق الأساسية للإنسان، ويناقض ميثاق الأممالمتحدة ويعيق قضية السلم والتعاون العالميين". كما أن التوصية رقم 2625 لعام 1970 المتعلقة بمبادئ القانون الدولي التي تهم العلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لمقتضيات الميثاق، أكّدت أنّ الشعوب لها الحق في معارضة السيطرة الأجنبية الاستعمارية وعلى الدول مساعدة الشعوب المستعمرة وتلقي الدعم وفقا لأهداف ومقاصد ميثاق الأممالمتحدة للكفاح من أجل نيل استقلالها. القانون الدولي الإنساني بدوره يعترف بشرعية حركات المقاومة المسلحة وأحقيتها في حمل السلاح على أن تحترم بدورها قواعد ومبادئ هذا القانون، فاتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية الأسرى في النزاعات المسلحة لسنة 1949، في مادتها الرابعة عددّت مجموعة من الشروط التي حددّت فيها المقصود بأسير حرب، حيث أدرجت من ضمنهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة الذين ينتمون إلى أحد أطراف النزاع ويعملون داخل أو خارج إقليمهم وفق شروط محدّدة. وإزالة لأي لبس قام البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف بإلغاء مجموعة من الشروط للاعتراف بشرعية حركات المقاومة واستفادتها من هذه الاتفاقيات مثلها مثل عناصر الجيوش النظامية، كشرط الانتماء أو التبعية لأحد أطراف النزاع. إذ تحدث البروتوكول الإضافي الأول عن الانتماء لحكومة أو سلطة ولو لم يعترف بها العدو من أجل أم يتمتع الشخص بصفة مقاتل ومن ثّم صفة أسير حرب، كما أن جانبا كبيرا من الفقه يصنف حركات المقاومة على أنها ترقى لكونها شخص من أشخاص القانون الدولي، وهنا وجب التمييز بين حركات المقاومة التي تكافح لنيل استقلالها ضد الاحتلال الأجنبي والجماعات المسلّحة التي تسعى إلى تفتيت الاستقلال السياسي والوحدة الترابية للدول. إنّ حركات المقاومة الفلسطينية لها كامل الشرعية في الدفاع عن نفسها والكفاح لنيل استقلالها بشتى الطرق بما في ذلك استعمال السلاح. كما أنها تعتبر بشكل مباشر أو غير مباشر معنية باتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكوليها الاضافيين من حيث الحقوق وكذا الواجبات. في المقابل نجد أن الاعتراف الغربي لأوكرانيا بأحقيتها في الدفاع عن نفسها ذهب إلى حد الدعم بالسلاح والمال، ومحاولات عديدة داخل مجلس الأمن من أجل استصدار قرار يدين التدخل الروسي في أوكرانيا الذي يصطدم بفيتو روسي في كل مرّة. تلك الدول نفسها عارضت محاولة استصدار قرار في مجلس الأمن ليس من أجل إدانة العدوان الإسرائيلي على غزّة بل من أجل وقف إطلاق النار لدواع إنسانية، الأمر الذي يعبّر عن الإفلاس القانوني والإنساني الذي وصلت إليه الدول الغربية. إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية رأت في ما يقوم به الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فماذا عن الجرائم الموثّقة التي ترتكبها إسرائيل داخل قطاع غزّة من قتل للمدنيين واستهداف للمباني السكنية والصحية والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة المحمية بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني. اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب تمنع الاعتداء على حياة المدنيين الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية، وتحظر الاعتداء على السلامة البدنية والقتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية... وإسرائيل باعتبارها سلطة احتلال فهي مسؤولة على جميع الأفعال التي تقوم بها والمخالفة لقواعد القانون الدولي الإنساني، والتي ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ناهيك عن الحصار المطبق على قطاع غزة وما ينتج عنه من تجويع ونقص في الماء والدواء في محاولة لإبادة سكان القطاع. حاولت إسرائيل قلب الطاولة على منظمة المقاومة حماس بعد عملية 7 أكتوبر واستغلالها باستعطاف الرأي العام العالمي خصوصا الغربي، وتصوير الحركة على أنها جماعة إرهابية متطرفة يحق التعامل معها بوحشية عسكرية. إذ طالما خسرت إسرائيل المعركة الإعلامية ضد كفاح الشعب الفلسطيني، لكن تماديها في استهداف المدنيين وقصف المباني دون تمييز بين مدنية وصحية وأهداف عسكرية، خصوصا استهداف المستشفيات أدّى إلى انكشاف حقيقة أفعالها وانكشاف حقيقة الدول الغربية معها. خير شاهد على ذلك تقرير "ريتشارد غولدستن" حول جرائم إسرائيل في عدوانها ضد غزة سنة 2008 الذي بقي طي الرفوف، لتمتع إسرائيل بحماية أمريكية غربية مطلقة شجعتها على ارتكاب المزيد من الجرائم. في انتظار انقلاب الموازين القوة العالمية ستستمر معاناة الشعب الفلسطيني، والسبيل الوحيد لوقف الجرائم الإسرائيلية ولو بشكل جزئي هو المقاومة الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني.