أتذكرين ذلك اليوم الذي كلما طال عليه الأمد كلما صار أكثر حضورا؟ أتذكرين كيف، ومتى، وأين كان لقاؤنا الأول؟ يوم غزلت الصدفة بيدها خيوط اللعبة، ونسجتها بمنسجها، ومن وراء ظهرينا حدّدت الزمان والمكان، وكنا هناك، وما كان لنا إلا أن نكون هناك، فأقحمتنا إقحاما في لعبٍ ما هو بلعب الصغار ولا بلعب الكبار، ما هو بهزل ولا بجد، وإنما هو مزيج من كل ذلك، ومن أشياء أخرى شتى. كنتِ على مرأى من الجسد والروح، ومن كل شيء، وكنتُ بحاجة إلى زيارة "الموزيات السبع"، ربّات الإلهام، لأصفك وصفا يليق بك، لكن لم يظهر لهن أثر. في ذلك اليوم الموعود، وفي تلك اللحظة الخالدة، سجّل غيابهن حضوره الكريه، فجعلت ألعن كل شيء. كل ما استطعت أن أقوله هو أنكِ جميلة. يا لبؤس العبارة! في الواقع، كان كل شيء فيكِ جميلا. شعرٌ طويل منسدل كشلال من فحم تفوح منه رائحة الغار، سرّ دافني المقدس الذي لا يمكن لأنف أبولو أن يخطئ في تمييزه، وعينا مَهَا، وخصر أهيف (هل من الصواب، ومن الحق، أن أسترسل في مثل هذا الوصف البئيس؟). واشعراءاه! إنني أستنجد بكم فهبّوا جميعا إلى نجدتي. من نونيته يختار لي ابن زيدون شطر بيت أسرع إلى كتابته حتى لا يضيع مني في غمرة مشاعر تتلاعب بي تلاعبا كما تهوى وتشاء: "انفردتِ وما شُوركتِ في صفة". وها أنا مثل ابن المعتز أقول لكم جميعا، وكلي ثقة: "إن رأيتم شبيهها فاعذلوني". وكان الفستان (يا إلهي ماذا أقول عنه؟ أي وصف أختار؟) هو الروعة نفسها. زادك الفستان الأبيض رونقا وأناقة (أي كلام سخيف هذا الذي أقول مرة أخرى؟) الواقع أن جسدكِ هو الذي أضفى على الفستان روعته، وليس العكس. لا يليق ذلك الفستان إلا بجسدك، لكن جسدك يليق بذلك الفستان كما بغيره. جسدكِ فاعل جمالي. هو فستان قصير جدا، وبنصف كتف أيسر عارٍ. فستان سهرة على الرغم من أنه لا يبدو أنك ذاهبة إلى واحدة أو قادمة منها. فلا حماس الذهاب يبدو عليك ولا تعب العودة. وهل تحتاج مثلكِ إلى سهرة كي تلبس فستانا مثل هذا الفستان؟ ما الحياة إلا سهرة بأبواب مفتوحة، لا تحتاج إلى وقت محدد للاحتفال، ولا إلى بطاقة دعوة. الجسد حر، ومرح، ومنطلق، لا يهاب شيئا ولا يأبه لشيء، والروح تواقة إلى الأعالي، والعالم كله لك، وبين يديك، ولا ينقص أي شيء. كان الفستان يحرس حدائق المُلْك ويحرّض عليها، كان يسترها ويفضحها، كان يحميها ويبيحها، كان يعطيها ويمنعها، كان يدفع عنها البصر دفعا ويشده إليها شدا، كان يسلّمها بيد ويستردها بأخرى. وكان حبل التجاذب بين كل شيء قد داخ فعلا، بل وجُنَ تماما. كنتِ مُغرية، وزادك الكتاب بين يديك إغراء. كان ثمة شيء أكبر وأعمق من الجمال، ومن السحر، يشعّ في المكان، ويأسر الخلْق بيد من حرير. كنت مثيرة، وبعيدة، ومنيعة، وكل السفن إلى جزرك محروقة على امتداد الأفق. كما كنتِ أصيلة، لا تشبهين إلا نفسك، وعفوية، وبريئة، وصافية، وراقية، ومحترمة بشكل لا يتصور. لم يكن ثمة شيء من حولكِ يثير اهتمامك. فقد كنتِ مستغرقة في كتابك تماما، وغير مبالية بشيء، ولا تفكرين بأي شيء. أي إغراء يملكه ذلك الكتاب "اللعين"، فأصابك سحره، وجعلك تستسلمين له بهذه الطريقة، وتهبينه كل شيء دفعة واحدة، ودون أي شروط، قبلية كانت أو بعدية؟ يبدو هو ذاته سعيدا جدا بك، ومعتزا بنفسه، ومفتخرا بها. كيف لا وأنت في حضرته سالمة مستسلمة، راضية مرضية؟ بشائر السعادة بادية على وجودك بأسره. وصفحاته مرآة لا تكذب. كان هاتفك ملقى على الطاولة بجانب فنجان القهوة. كان شاحبا، ومهملا، ويائسا. بدا ككلب أجرب، أو كمجرم مطلوب للعدالة. لم تكترثي لوجوده، ولم تبحري في عوالمه، ولم تبحثي فيه عن قديم لا يبلى، وعن جديد لا يأتي، وعن حياة لا حياة فيها. أي كاتِبٍ محظوظ ذاك الذي تقرئين كتابه؟ لو بلغه الأمر، حتى لو كان ميتا، فلا بد أن يكون سعيدا ومنتشيا. لا بد له من أن يبوس يديه، وقلمه، وفناجين قهوته، ويبارك الليالي التي استغرقها في الكتابة. لا شك في أنه سيغار من كتابه، ومن نفسه ذاتها. ومن حسد سيردّد مثل بدر شاكر السياب: "يا ليتني أصبحت ديواني"، و"أفرّ من صدر إلى ثان"، ويا ليتها طوتني كما طوتك "فوق نهودها بيد"، و"يا ليت من تهواك تهواني". القراءة قراءات. وقراءتكِ كانت هادئة، مطمئنة. لم تكوني مستعجلة أبدا. لم يكن همّك الوصول إلى النهاية، خلاف حال الكثير من القراء، وإنما كان همّك هو الطريق ذاته. لم تتحسسي أبدا أوراق الكتاب لتعرفي مدى تقدمك من خلال حجم ما بقي لكِ منها. كان التمهل يطغى على خطاك في تتبعك للكلمات، وملاحقتك للأسطر، وتقليبك للصفحات. استوقفك حدث ما في الكتاب. أسعيد هو أم جلل، لست أدري. ثم أغلقتِ الكتاب، رفعت رأسك إلى السماء، وجعلت تتأملين سقف المقهى. أي قراءة تلك التي لا تدفع صاحبها دفعا إلى رفع رأسه إلى السماء، وإلى المكوث هناك مدة قد تقصر وقد تطول، قبل العودة إلى الأرض؟ إمعانا في التأمل والسفر البعيد أشعلتِ سيجارة. وجعلت نظراتك تهاجم في حنو ورِقّة الدخان الهارب من شفتيك مكرها (هل أبالغ؟ هل يلزمني شاهد صادف أن رأى بعينيه ما رأيت؟ يهمس جون جاك روسو في أذني: من واجبي أن أقول الحق لا أن أَحْمل الناس على تصديقه). توقفت رحلة معراج التأمل لمّا دقت الساعة المعلومة. أعدتِ الكتاب إلى حقيبة اليد، ذات الشكل واللون الجميلين، والموشاة بخيوط سوداء، والتي كانت تستلقي في كسل شاعري على الكرسي المجاور. وقفتِ وقوف أميرة، ودفعتِ ثمن القهوة، وغادرتِ على مهل، بخطى أنيقة. حزن الفنجان لمغادرتك، وحزن الكرسي، وحزنت الطاولة، وحزن النادل، وحزنت المحطة برمتها. فلا يجُود الزمن على هؤلاء، في كل يوم، بزبونة مثلكِ، في شبابك، وجمالك، وطولك البهيّ، وذوقك، وذكائك الواضح. وكان القطار، في الجهة المقابلة، ينتظركِ فرحا فاتحا ذراعيه. لا أذكر ماذا حصل بعد ذلك بالضبط. لا أذكر من منا بادر إلى الكلام، أو عمّا تحدثنا بالتحديد، أو إلى أين كنا نمضي أو كانت يد القدر الخفية تمضي بنا. كل ما أذكره هو أننا ركبنا القطار نفسه، وكنا نقصد المدينة البعيدة نفسها، وكنا نتقاسم متعة قراءة ومناقشة مقاطع من الكتاب نفسه. هل أفصح عن اسمك الكامل الذي ملأ أحْنَاءَ الصدر، وصرتُ على أهبة الانفجار به؟ لا بد لي من أن أستشيرك قبل أن أفعل. كان بودي أن أفتح معك الموضوع في اللقاء الماضي، لكن طغيان حضورك أنساني، كما يحدث في كل مرة، كل شيء، وفي انتظار اللقاء القادم سيكون النص قد اتخذ سبيله إلى القرّاء، وأضحى ملكا لهم وحدهم، ولن يكون بمقدوري آنذاك، للأسف، أن أضيف إليه أو أن أحذف منه أي كلمة.