أصحاب "لعصا فالرويضة سبقو العرس بليلة".. تعج مواقع التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، بمنشورات وتعليقات حول مدوّنة الأسرة، تتوزّع، بالخصوص، على "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب" و"فيسبوك"، بوجوه متعددة ومختلفة ذكورا وإناثا، والعجب العجاب أنها تتلاقى وتتجمّع في "دفوعات" واحدة موحّدة، وكأن هناك "جهة ما" هي الممسكة بخيوط "اللعبة"، فيلتقطها من يسمّون "يوتوبرز"، وكل واحد وواحدة يسابقان بعضهم البعض في "الإيصال"، حتى تحوّل الموضوع، وهو مرتبط بقضية مصيرية تمس مكوّنات العلاقة الأسرية، إلى "نكت" و"تكركير" وتهريج و"تلواك الهضرة"، وصولا إلى "فتاوى رقمية" تحكم بتكفير الناس، ولم يبق إلا "الجهاد" فيهم!!! كان لا بدّ لي أن أتوقف عند هذه الحالة، التي تتفاقم يوما عن يوم، لأنبّه إلى الخطورة القصوى، التي يهددّ بها هؤلاء "الرقميون" تماسك البلاد، وهم يعرفون ذلك، لذلك يستبقون الأمور، ويوجّهون لدعاة إصلاح مدونة الأسرة أصابع الاتهام بالسعي إلى تفكيك الأسرة المغربية، في حين هم من يلعبون بالنار، نار التفرقة والحقد والكراهية، إذ ولا واحدا أو واحدة من هؤلاء "الرقميين" حاول أن يقدّم رأيا بنّاء حول الموضوع، بالتأييد أو بالرفض، المهم أن يكون انخراطا إيجابيا في النقاش العمومي حول قضية من صميم وجود المغاربة على خارطة هذه الأرض الطيبة المباركة... ولا أحد قدّم رؤية مجتمعية للعلاقات الأسرية، ولقضايا الزواج والطلاق، وما يترتب عن انحلال الزوجية من تبعات مأساوية أحيانا على المطلّقة وعلى الأبناء... ولا أحد منهم طرح مشكلا ما من مشاكل الزوجية ووضعه في سياقه المجتمعي، وبحث عما هو الأصلح للأسرة، بكل مكوناتها، لأن مدونة الأسرة ليست أبدا مدونة للمرأة، بل هي مدوّنة لكل الأسرة، للمرأة وللرجل وللأبناء، ونبحث، بكل جدية ومسؤولية، عن واقع الحال، وعن الاختلالات الحاصلة والمحتملة، ونقترح الحلول الممكنة من أجل تحقيق بناء أسري متماسك... ولا أحد عاد إلى وعيه وسأل نفسه عن خرجاته: "ماذا يفعل ببلده ومجتمعه؟"، فمنهم من يلهث وراء "اللايكات" و"الأدسنس"، ومنهم من تتباهى بأنها تتكلّم في كل الأمور وليس فقط في الطبخ و"الربطة الزغبية"، ومنهم من ينعتونه ب"الدكتور"، وتتسابق مواقع وإذاعات على استضافته، وإذا به يقوم ب"جذبة" أمام مضيفته وهي صحافية امرأة، ليقول: "واش بغيتو تمحيو هوية الراجل، واش بغيتي الصباغ إلى جا للدار المرا هي اللي توقف عليه وتقدر تكون لابسة بيجامة، واش بغيتي المرا هي اللي تصاوب بوطاغاز، واش بغيتي إلى سمعنا الصداع في السطح المرا هي اللي تنوض تطلع تشوف اشنو كاين؟"... ولا أحد من هؤلاء فكّر مليا في تسلّل "نفحة" دينية تكفيرية لدى هؤلاء، الذين يشتركون جميعا في أن المقتضيات الجديدة، التي جاءت في المدونة الجديدة (لنلاحظ أن هؤلاء يتحدثون عن مقتضياتٍ لمدوّنةٍ غير موجودة أصلا)، هي "عصيان لأوامر الله"، ليتحوّل هذا "العصيان" إلى عنوان هاشتاغ منتشر على الشبكات الاجتماعية!!! إن هذه "الخرجات" الرائجة، حاليا، حول مدونة الأسرة هي نقاش مفتعل، ويجري تسويقه بطريقة "حلايقية" تبدأ ب"واش سمعتو المدونة"، مع بعض من النّكت "الباسلة"، التي تمس بصورة الأسرة المغربية وتصورها في أتفه أشكال التفكك... نقاش مفتعل لأن أصحابه "سبقو العرس بليلة"، لعدة أهداف تحوم حولها شبهات تتوحّد في التشويش على ورش حقوقي كبير، يهمّ إصلاح قوانين الأسرة، استمع فيه الملك محمد السادس إلى نبضات شعبه، وتابع التفاعلات مع ما يقرب من عقدين من تطبيق مدونة الأسرة الحالية، ودعا الملك، باعتباره أميرا للمؤمنين، إلى إصلاح هذه المدونة، الأمر الذي أشاد به المغاربة والمنتظم الدولي، الذي نوّه بما يعرفه المغرب، بقيادة رئيس الدولة، من مبادرات كبرى ومحمودة لفتح جيل جديد من الإصلاحات، بدءا من الواجهة الديبلوماسية، التي يشرف عليها الملك شخصيا، والتي تحقّقت فيها منجزات مشهودة، سواء في قضية الدفاع عن الوحدة الترابية والسيادة الوطنية، أو في مختلف المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمناخية والبيئية والدينية والثقافية والرياضية، مما جعل المغرب يشكل، اليوم، قوة إقليمية حقيقية... وفي هذا جواب ليفهم بعض ممن طرحوا السؤال: هل هذا الذي تمتلئ به مواقع التواصل الاجتماعي صحيح؟ الجواب واضح، ومنطوق بلاغ الديوان الملكي صريح، ومفاده أن الملك محمد السادس أعطى، يوم الثلاثاء 26 شتنبر 2023، إشارة الانطلاق لتعديل مدونة الأسرة، بعد 19 سنة على دخولها حيّز التنفيذ، وأمر رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، بإعادة النظر فيها، فيما أسند مهمة الإشراف العملي على إعداد هذا "الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع"، كما جاء في البلاغ، الذي أكد أن الملك محمد السادس دعا المؤسسات المذكورة إلى أن تشرك بشكل وثيق في هذا الإصلاح الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين. وقد شرعت الحكومة والمؤسسات المعنية في تنزيل مضامين التوجيهات الملكية، وبدأت الاجتماعات بصفة عملية، وانعقد يوم الجمعة الأخير (29 شتنبر 2023) أول اجتماع للثلاثي المسؤول عن صياغة مشروع المدونة الجديدة: وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة... وكما جاء في بلاغ الديوان الملكي، فإن إعادة النظر في مدونة الأسرة تقتضي مشاورات تشاركية على نطاق واسع، مما يتطلّب الجهد والوقت... وبكلمة: إن مسودة مشروع مدونة الأسرة المعدلة (الجديدة)، لم تتم صياغتها بعد لأنها غير موجودة وتتطلب الكثير من الجهد، لأن المدونة ليست لعب أطفال كما يجري تصوير الأمر لدى بعض "الرقميين"، المدونة قضية مصيرية، لكنها ملحة، بالنظر للمشاكل والاختلالات التي كشفت عنها تجربة 19 سنة من التطبيق، ما دعا الملك إلى أن يمهل الحكومة مدة محددة أقصاها ستة أشهر، من أجل عقد المشاورات الضرورية مع المؤسسات والهيئات والفعاليات المعنية، وبالتالي، لن يتم تقديم المشروع بين يدي الملك إلا في سنة 2024، أي بعد مرور 20 عاما على إصدار المدونة القديمة في 2004. كيف يمكن أن يفهم هؤلاء الرقميون أنهم يتلاعبون بالعقول، وهذه جريمة في حق جميع المغاربة، الذين يحاول هؤلاء استبلادهم، وتضليلهم، بخرجات تقع تحت طائلة القانون، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بالعزف على النزعة الدينية المستمكنة في مشاعر المغاربة، في استهتار فجّ بالالتزامات الملكية، باعتباره أميرا المؤمنين، يتعهّد بعدم تحليل ما أحرّم الله وتحريم ما أحل الله... وهذا استهتار، في نفس الوقت، بإسلامنا المغربي، الإسلام المتسامح المنفتح، إسلام الاجتهاد في إطار الوسطية والاعتدال، وهو استهتار لفائدة إسلام دخيل، هو الذي أنتج الخراب في كل مكان يدخله، وأول ما يبدأ به هو تكفير الناس، وبهذا التكفير يخلقون الأرضية المناسبة لتفريخ متشددين ومتطرفين ومجرمين وإرهابيين!!! ولهذا، فالنقاش الدائر حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي، مفتعل، ويروّج معطيات لا أساس لها من الصحة، كما يفعل العديد من الرقميين، منهم من هم فاهمون اللعبة ومنخرطون فيها، ومنهم من هم مجنّدون لجهات ما، لعلّ أبرزها، كما بدأ ينكشف حاليا، هم فئات متعددة من السلفيين، بدعم وبتصدّر أحيانا من قبل بعض الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم كبيرهم الذي علّمهم السحر: عبد الإله بنكيران... هناك عملية مفضوحة تستهدف التشويش والتأثير على عمل الحكومة، باستعمال "بعض" الآيات، ومن خلال الترويج لبعض المغالطات، حول بعض أعطاب المدوّنة الحالية، ومحاولة تعويم النقاش حول عدة قضايا من قبيل الولاية والحضانة والإرث، وافتعال معطيات وعرضها كحقائق من مثل تخصيص 20 في المائة من أجرة الطليق للمرأة، والنفقة عليها حتى في حال زواجها من آخر، وهلم جرا من الترّهات... وكخلاصة، إن الذين يفتعلون الآن هذا التشويش، ويثيرون الكثير من الضجيج بالترويج لبعض الإشاعات والمزاعم، لا غرض لهم سوى وضع "لعصا فالرويضة"، كما يقال، لكن الخطورة، التي لا يفهمها هؤلاء، الذين يظهرون في الواجهة، وقد لا يكونون يعلمون ب"الجهات الظلامية"، التي تتحرّك وتحركهم من وراء ستار فيتحرّكون هم في واضحة النهار، الخطورة الكبرى هي أن هذه الخرجات والتشويشات والتضليلات لا تستهدف، فحسب، عرقلة أحد أبرز أوراش التنمية الحقوقية والقانونية والاجتماعية في بلادنا، وإنما تتعدّى ذلك إلى محاولة المسّ بتماسك المجتمع والأسرة، وبمؤسسة الزواج، وبمبادئ التكافل والتضامن بين أفراد الأسرة، وبكل قيم الإحساس بالسعادة والأمن والاطمئنان، وهذا هو الخطر الأكبر، الذي يجب على كل القوى الوطنية والديمقراطية أن تكثّف جهودها من أجل التصدي لهؤلاء، الذين يلعبون بالنار... اللهم فاشهد أنني بلّغت... وليتحمّل كلٌّ مسؤوليته...