يحكى أن أحد التلاميذ "النبغاء" قرر الدخول في تجربة "علمية" لدراسة الحواس، فكان اختياره على القطط، بدل الضفادع أو الفئران كما هو المعتاد في عالم الاختبارات.. في إحدى التجارب تركز اهتمام التلميذ على دراسة حركية قط ما، فقادته التجربة (تَسَاوُقاً مع عادة الاستئصاليين) إلى بتر إحدى أرجل القط في كل محاولة تجريبية وجذب انتباه الحيوان المسكين للحركة مع تسجيل ملاحظات الزحف والعرج إلى أن بقيت الضحية دون أرجل تماما.. لم تُجْد الكلمات المألوفة في تحريك القط من مكانه هذه المرة، فكان "الاستنتاج العلمي" العظيم! قال "النابغة": إذا حذفنا الأرجل الأربعة للقط، نستنتج أنه يفقد حاسة السمع!! "" ذلك هو مثال بعض المتحدثين "النبغاء" اليوم، كلما وجدوا أنفسهم أمام موقف محرج يستدعي تصحيح الأخطاء والنهوض بالنقاش إلى مستويات "العلمية" و"الموضوعية" و"المبدئية"، أخذتهم العزة بالإثم وقفزوا فوق الحقائق باحثين عن صياغات بالية وملاحظات مهترئة ومتجاوزة، يتشبثون بها في تصريف بضاعتهم المزجاة، أو مستعينين بأنامل يحركها الغيض الدفين تجاه كل ما ينتسب للإسلام، سواء أكان هذا الانتساب مشروعا أو غير مشروع. وكلما وُوجِهوا بالحقائق الواقعية والآنية؛ إلا رأيتهم يتنكرون لهذا الواقع، حاصرين خياراتهم "العلمية" في ماضوية يمقتونها نظريا، لكنهم ما يفتؤون أن يستخرجوا منها استنتاجات أكثر فظاعة من قصة التلميذ "النابغة". فأين يتجلى الوهم يا ترى؟ وأين يتجلى إعمال العقل إذن؟ وأين يتجلى الأخذ بقواعد الديمقراطية بكل ما تمثله من أبعاد التعددية الفكرية البعيدة عن الإقصاء ومحاولات الاستئصال للمخالفين؟ في إطار رصد مشاكل التفاعل السياسي على المستوى اليومي نجد ظاهرة مركبة في واقعنا الثقافي تمثل إحدى عقبات التواصل الفعال على صعيد المجتمع ككل، وتتجسد فيما يسميه د.حسن وجيه ب"ابتذال أحقية -أو أهلية- النقد"، خاصة تلك التي يقوم بممارساتها أناس يمثلون "ثقافة الاستلاب" ممن أصابهم الإحباط المستمر، وتتسم تفاعلاتهم بتسطيح وتعميم الإحباط الذي يكون الأساس لممارسة النقد السلبي. وبمعنى آخر، أن تكون رؤية "الناقد" للأحداث أو الأعمال أو الأشخاص من منطلق إحباط وقتي طبيعي قد يمر به أي إنسان عادي، بل يكون الإحباط الحاد متأصلا ومهيمنا على حوار وإدراك مثل هذا "الناقد"؛ بحيث لا يكون إحباطه بخصوص شيء واحد محدد، أو في إطار موضوع بعينه، بل إن كلاّ من الإحباط واليأس يكون مطلقا وعاما، ويصل إلى أبعد الحدود، وإلى الحد الذي يعكس فقدان أي قدرة على التصور الإيجابي على تحقيق التغيير إلى الأفضل أو تحقيق تحولات إيجابية جذرية.. وهنا يكون هذا المتفاعل من المستسلمين لأوضاع يكرهون -مِن يَأسِهم- قيام الآخرين بأي محاولة إيجابية لمقاومتها؛ ومن ثَم يتحول أمر الخوض في الإحباطات إلى نوع من المتعة أو الإدمان الذي يصبح الإقلاع عنه من أصعب الأمور، فمثل هذا "الناقد" للأشخاص أو الأعمال أو الأحداث لا يرى إلا نصف كوب الماء الفارغ فقط ودائما(1). هذا هو حال من يريدون إغراق الناس في كتابات تحن إلى كثير من التيئيس بنكهة الماضوية التي تذكرنا بزمان "الأبيض والأسود"، وبكل ما يمثله هذا الزمان من قتامة معيشية واستبداد سياسي وتحجر فكري وتخلف عمراني. وهؤلاء لما يقومون بهذا الفعل، ويضيفون عليه نمطا سلبيا من التعميم وإطلاقية الأحكام التي لا ترى الواقع (بشخوصه وأحداثه) بما له وما عليه في إطار موضوعي منصف، إنما يعبرون عن جهل عميق بأسباب التقدم وطرق الإبداع وأدوات الإنتاج، ويكرسون بذلك عقبة تشكل أحد ألد خصوم النجاح والتفوق على جميع المستويات. لما دعونا للمبدئية سابقا، إنما كان ذلك من منطلق الحرص على تقديم خطاب علمي رصين ينهض بالحجة والدليل -المادي والنظري- على كل دعوى قد يطلقها معسكر إيديولوجي من هنا أوهناك، في احترام تام للقناعات الذاتية للأنا والآخر؛ فمن السهل أن يستعين بعض الشواذ بكلام بعض الملاحدة لتوصيف ابن الراوندي بالشاذ جنسيا المتغزل بجسم الرجال، ومن السهل أيضا أن نتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وسيد قطب والشيخ القرضاوي بأنهم مهووسون ومجانين، ومن السهل كذلك أن نرمي المذهب الحنفي بتهمة تجويز الخمر المنصوص على تحريمه القطعي في القرآن الكريم الذي يصوره بعض المتحاملين أنه مجرد نصوص تخدر العقل وتَسُوق المسلمين كالقطيع لممارسة الشعوذة والإرهاب.. ليس هناك أسهل من إطلاق هذه القنابل الصوتية في فضاء الفكر المفعم أصلا بمثل هذه الدعوى الباطلة، لكن علامة الاستفهام حينها لن تفارق التساؤل حول "القيمة العلمية" لمثل هذا الكلام وغيره، وأي حجة نظرية دامغة تدعمه؟ وأي دليل واقعي عملي يثبته؟ نحن اليوم -مجددا- ندعو مثل هؤلاء إلى رؤية العالم، والواقع من حولهم، بمنظار العصر الذي تتمازج فيه الكثير من الألوان الفكرية وتتلاقح فيه العديد من الإيديولوجيات، مشَكّلة فسيفاء يضفي عنصر التنوع الإيجابي على اختلاف التصورات العقدية والمذهبية -المادية كما الروحية- للمجتمعات والأمم والحضارات. كما ندعو كل ذي عقل ورؤية غير شاذة، من المحسوبين على مذهب العقلانية والحداثة إلى تبني المبدئية فكرا وممارسة؛ فليس من المبدئية أن ندعو للتعددية ونمارس الإقصاء باسم "التعددية" ونوصي الأنظمة بأن تقطع الطريق على جهة ما.. وليس من المبدئية أن ندعو إلى الديمقراطية ونمارس الديكتاتورية باسم "الديمقراطية" ونوصي ما يسمى القوى الديمقراطية بالتعامل "بحزم وبلا هوادة" مع طرف ما.. كما ليس من المبدئية أن نفرض الوصاية حتى على زاوية النظر التي يبني عليها البعض رؤيتهم، في الوقت الذي يخوض فيه البعض الآخر معارك ضارية ضد الحجر على أفكار شاذة بكافة المعايير الإنسانية. إذا كانت هذه هي المبادئ التي تحرككم معشر الاستئصاليين، فلا تلوموا غيركم إذا ما أخذوا بذات المبادئ؛ لأن كل جهة تكون لها الأحقية حينها في الرد بالمثل على كل فعل من الجهة الأخرى. ومثل هذه الاختيارات المبدئية تشكل عين الجهل الذي يجب أن يدافعه العقلاء! ونحن لما نفتح الباب أمام خطاب الحوار العلمي والعقلاني والمبدئي؛ فإننا لا نمارس الاستجداء على عتبات بعض من قد يتوهمون تأويلات لفظية ذات أبعاد مَرَضِيَة فكريا، ولا نمارس التضليل أو التقية السياسية؛ كما لا نمن على أي كان بأي قيمة يجب أن تشاع بين بني البشر كونهم مكرمين بالعقل ويجب أن تُحترَم فيهم آدميتهم وإنسانيتهم على الأقل؛ إنما هذا المبدأ راسخ في فلسفتنا من منطلق "تعالوا إلى كلمة سواء"، ومتجذر في خلفيتنا الفكرية التي تؤسس للحوار في أشكاله الراقية والبعيدة عن الإكراه والإلزام أو التعصب والتشدد. وإذا كانت مبادئ البعض تسمح لأصحابها بمحاسبة نوايا الغير واتهامهم باستبطان ما لا يعلنون، فنحن من جهتنا مطالبون بالحكم على ما نرى فقط دون تدخل في النية، وما رأيناه لحد الآن يكفي لإصدار مجموعة من الأحكام؛ لكن حسبنا أن القدوة لا تتمثل فيمن يعانون مرض "الدالتونية" حتى نرد لهم صنيعهم المشين. ولما نأخذ بمبدأ العفو من جهتنا، نتأمل أن يعلن البعض -على الأقل- عن مبادئهم الفلسفية التي يمُنّون بها على الناس (ومن بينها طبعا مبدأ "الثالث المرفوع" لأريسطو)والتي تحصر خياراتهم في لونين إما أبيض أو أسود (على غرار إما معي أو ضدي)، وفي نفس الوقت نطالبهم أن يفتحوا أمام المجتمع آفاق الطيف الفكري بجميع تلاوينه، وحينها لن يصح إلا الصحيح؛ فللناس حواسهم المستقلة التي يفصلون بها الغث من السمين، وهُم الحَكَم والفَيْصل في آخر المطاف. لقد رفع البعضُ الكثيرَ من الخطابات الساذجة والواهمة وأحيانا الحالمة، ونحن نكرر رؤيتنا اليوم على أمل أن يستجد الجديد العقلاني والديمقراطي والمبدئي، ولسان حالنا والمتتبعين يردد: ماذا بعد..؟ ------------------------------------ 1. حسن محمد وجيه، مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي و السياسي، ص 185-186. بتصرف يسير.