لو سئل أحد المهتمين بالشأن الثقافي، في أي مكان كان، عن سمات المثقف الجدير بالتسمية لقال بداهة: هو "المثقف العضوي"؛ نظرا لذيوع هذا المفهوم الذي صاغه المفكر الماركسي غرامشي، وطارت شهرته في جل الجغرافيات الثقافية، وفي أوساط الثوار الذين وجدوا في مفهوم غرامشي النموذج الأسمى الذي ينبغي بثُّه في صفوف المثقفين التحرريين، لخلق هيمنة ثقافية ثورية تقدمية بديلة ومناهضة للنموذج الماضوي وحراس معابده الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، وفي طليعتهم المثقفون التقليدانيون. لكن على الرغم من لباس القداسة الذي تسربل به مفهوم "المثقف العضوي"، وبخاصة من قبل لفيف من مثقفي العالم الذين يشتركون مع غرامشي في الانتماء الطبقي والانتساب الإيديولوجي والسياسي، فإنه لا جرم أن نقول: إن هذا المفهوم كان يحمل في طياته بذور موته، هاته البذور القاتلة التي ظهرت إلى الوجود بمجرد اندثار الشروط التاريخية التي أفرزته، وأفول سلطان الإيديولوجية السياسية التي تبنته وأذاعته في الأوساط الثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية المتماهية مع خطابها وتصورها لسلطة المثقف العضوي. من هنا، يجوز لنا أن نسأل: هل ما زال مفهوم المثقف العضوي صالحا للتبني في زمننا المعاصر، أو بتعبير آخر ما هي سمات المثقف الذي يليق بعصرنا؟ في تقديرنا، إننا اليوم في حاجة إلى مشروع مثقف ما بعد المثقف العضوي وما بعد المشاريع الثقافية التي تفرعت عن مفهوم غرامشي، في حاجة إلى مثقف شارعي ببعدين: بعد شعبي وبعد كوني؛ فالبعد الشعبي نعني به التحام المثقف الشارعي، وهو الاسم الذي نقترحه، بقضايا الشعب الذي ينتمي إليه التحاما كليا لا جزئيا كالذي مارسه مثقف غرامشي العضوي الذي ازدوج خطابه الملحمي الجماهيري المعلن بتعصب طبقي مضمر وتعصب إيديولوجي مشرعن لكل ما يصدر عن الغرامشيين الطامعين في هيمنة ثقافية مؤدلجة ومعممة على الجميع، طوعا وقسرا. أما البعد الثاني الذي ينبغي أن يتميز به المثقف الشارعي، فهو البعد الكوني والأفق الموسع الذي يحركه الاستعداد الفكري لقبول الآخر ومحاورته لا معاداته وشيطنته، وتثمين القيم المشتركة بين الشعوب في كل مكان وتسهيل عملية عبورها وفق إستراتيجية تواصلية خلاقة تقوم على مبدأ "كل متكامل-كل رابح"، وهي إستراتيجية أوسع-قيميا وتداوليا- من خِطة الهيمنة التي ابتدعها غرامشي، لأنها خِطة جعلت مثقفه العضوي مثقفا متعصبا ومستلبا، رؤيته إلى الوجود تحكمها رؤية الجماعة الإيديولوجية التي ينتمي إليها والطبقة الاجتماعية التي ينتسب إليها، فهو مثقف بأفق ضيق تحدده الجماعة/ الطبقة، وتسلب منه قوة الفعل الخلاق والمبادرة الحرة، وتجعله -أي المثقف العضوي- مجرد قناع تقدمي للمثقف التقليدي الخاضع لسلطة الجماعة، وسلطان الإيديولوجية، يأتمر بأمرها، ويبرر أفعال جماهيرها، ويطبل لدعاويها، ويحجب آفاتها وممارساتها السلبية. من هنا، نجد أننا اليوم في حاجة إلى مشروع مثقف ما بعد مثقف غرامشي العضوي، والمشاريع الثقافية التي تفرعت عنه وتبنت رؤيته للفعل النضالي واختزلتها في مبدأ الهيمنة الثقافية والإيديولوجية الواحدة المعادية لكل من خالفها التصور والممارسة. نحن في الحاجة إلى مثقف شارعي تكوثر وتناغم مع حراك الشارع نضاليا ورؤيويا، لا المثقف المحاصر بسياج فكري يصيب بصر بصيرته بعمى الألوان الذي يحجبه من تدبير الاختلاف وتثمين التنوع. نحن في حاجة إلى مثقف شارعي يزدوج لديه البعد الشعبي بالبعد الكوني، والقضايا الوطنية بالقضايا العالمية، والهم الحضاري لأمته بالهم الوجودي الذي تشترك فيه جميع الأمم. نحن في حاجة إلى المثقف الشارعي الإنسان، لا المثقف المقيد بأغلال الإيديولوجيا الواحدية، والطبقة الواحدة، والحزب الواحد، وهلم واوات وأغلالا.