استفحل حتى تفحل: أما أن يكون قد استفحل فهذا لا مِراءَ فيه؛ بدءا من الخطب الملكية التي تترى -في الموضوع وأخواته- آمرة ومنبهة، مُشفَّرة وصريحة؛ ووصولا إلى الإعلام النزيه الذي لا يلوك كلامه في فضح الفساد أنى لاح؛ فيلا كان أم فأرا. أما الشعب، المفعول به -لكنه، وبدوره، فاعل أحيانا- فإن الفساد يسرح بين حاراته، وفي شوارعه: دجاجا، أكباشا، أبقارا وزرافاتٍ؛ وأحيانا ديناصورات جوراسية حقيقية. انه بهذا أشبه بجمهور كرة القدم؛ يتفرج على فرقاء الفساد، يشجب ويصرخ؛ لكنه في كل مرة يغادر الملعب حزينا منهزما؛ لأن صناع فرجته لا ينهزمون أبدا، مهما اختلفت ألوانهم. ولا أشدَّ من استفحال الفساد إلا تَفحّلُه؛ والتفحل من الفحولة الحيوانية الولادة، والمكثرة لنسل الفساد؛ ومن هنا الخطورة: استفْحل حتى تفحَّل. بمعنى أنه اطمأن إلى مراتعه فرتع واسترتع وما شبع. وعاث في إناثه تفحّلا، حتى لا يكون مجرد فسادٍ مستفحل، ممكن الاجتثاث؛ بل بعرق دسَّاس ينتقل من جيل إلى جيل. وكأنني بهذا أتحدث عن جزيرة نائية لا تمضي فيها غير أعراف القراصنة؛ والحال أن الدولة المغربية في حِرزٍ؛ قوية الملكية، الدستور، والترسانة القانونية. وفي خلفية اللوحة تاريخ عريق، وبطولات وأمجاد. أما منظومة القيم، الدينية والوضعية، الوطنية والعالمية، فبحجم جبال الأطلس علوا وقوة. أما المؤسسات فقد شاخت عمرا وتجذرت في وجدان المواطنين، حتى لم يعد هناك حيز لغيرها؛ مما هو متروك للتحلل والزوال: القبلية، الطرقية وما في حكمهما. أين الخلل؟ "لوكان الفقر رجلا لقتلته" قالها صاحبها -عادلا- وهو يشهر سيفه؛ فما بالنا لا نفعلها، ولو في حدها الأدنى، وقد غدا الفساد رجالا، ومتفحلين زيادة؟ طبعا في وطننا هذا، الذي نمقت زواياه الفاسدة، حيث التفحل، يوجد نزهاء وفضلاء -دينيا ومدنيا- في كل المؤسسات؛ فكيف قهروا في أنفسهم كل منازع الشهوانية والاستمتاع والتريع -ومنهم من قضى نزيها طاهرا- في حين فشلت أذرع الدولة، بكل عتادها القانوني، في الإمساك بحُجَزِ المفسدين، لكبح جماحهم وتفحلهم؟ وكما لجبهة النزهاء حق -على الدولة- في أن يكون الجميع مثلهم، وهذا شرط المواطنة الصالحة والمكتملة؛ فإن للفاسدين المفسدين، بدورهم، حق في أن تحميهم الدولة من أنفسهم، وما يعتمل فيها من دمار شامل؛ يزداد حدة كلما سما المنصب ضمن مؤسسات الدولة. إذا لم نفهم ما تعنيه مقولة: "العدل أساس الملك" بهذه الكيفية؛ فما وقفنا إلا ببابها دون النفاذ إلى روحها. سيتدخل العدل الحقيقي -وهو أساس الدولة- حتى حق الفاسد: أولا: في التربية حتى لا ينجذب إلا للصلاح المواطني. وثانيا: في التأديب المتدرج، بتدرج المفسدة. من قال: أنا فاسد لأن الدولة لم تردعني -بدءا ومسارا وانتهاء- فما كذب. لو قست الدولة على سارق البيضة، ما وقعت على سارق الثور أبدا. عريس البرلمان.. مستحضرا قرينة البراءة إلى أن تسقط في نازلة رئيس لجنة العدل والتشريع -عريس البرلمان- كل خيوط حكاية الفساد ببلادنا: – تجدد انتخابه من طرف ساكنة العرين، مرات عديدة. – توالي مؤشرات إخراج الملايير لأعناقها، ثراء وبذخا غير مبررين. "أبت الدنانير إلا أن تخرج أعناقها" قالها الفاروق عمر -مرة أخرى- وهو يرى مساكن ولاته تعلو بالمدينة. – توالي تقارير المجلس الأعلى للحسابات "المدينة"؛ وهي مبنية على الخبرة القانونية والمحاسبة الدقيقة. – تولي الوزارة، وهي ما هي وزنا ومساءلة؛ والمفترض ألا تقدم لصاحب الجلالة لوائح لا تدقق وتنخل تنخيلا؛ لكنها الحزبية العاشقة حتى لخضراء الدمن. – انتخاب الرجل -أخيرا- من أغلب البرلمانيين، الموالين والمعارضين، رئيسا للجنة العدل والتشريع؛ والحال أنه خاضع لمسطرة التحقيق من طرف فرق الشرطة القضائية. هذه -الأخيرة- والله قاصمة الظهر، ولو سلمنا بقرينة البراءة؛ فحتى في فقه الولاية يقدم الفاضل على المفضول. لماذا تمسكتم بقرينة البراءة، والحال أن بينكم أبرياء فعلا، لا شِيَّة فيهم؟ وما رأيكم في الحرج الذي سببتموه لفرق الشرطة القضائية، المنهمكة في بحث ملفات الرجل؛ وهي -اعتبارا- واقعة دون مكانة رئيس لجنة العدل والتشريع بالبرلمان؟ ولولا تدارك الجهات العليا لمضيتم إلى حد التأثير حتى على القضاء وإحراجه. وإنها لمفسدة كبرى أن يقع هذا من أغلب نواب الأمة؛ وطوبى للنزهاء منهم. كل خيوط الحكاية توجد في هذه النازلة، التي كشفت عن حجم الفساد المتفحل، والذي أضحى مؤسسيا. هل من "سينوفارم" آخر لتفحل الفساد؟ طبعا الدولة في حِرز الملكية، لأنها المعنية بتفتيل عضلات الدولة "التي لا تزول بزوال الرجال" كانت هنا مع أجدادنا وأجدادهم، وهي هنا معنا، وستكون مع الأبناء والأحفاد ما توالت القرون. هذا اختيار نهائي، تام وناجز. والأعرابي بالباب، كما كان النحاة يقولون؛ لقد توج الرجل عريسا للعدالة حتى من نواب الأمة؛ وقبل هذا استفحل ازوراره حتى تفحل. وعليه فكل المؤسسات ذات الصلة بمساره، والعالمة به؛ يصيبها بعض الروث من اسطبله؛ فتدبروا. واذا أضفنا هذه النازلة إلى أخريات، قداحات وعظيمات؛ فإن أفعال الاستفحال والتفحل.. تغدو متواضعة جدا. وفي الختم أصبح مملا المطالبة بالضرب على أيادي المفسدين؛ ولهذا أقترح مقاربة جديدة: ما دامت الدولة عالمة بكل النوازل والأثافي والأشباح، فلماذا لا تدفع في اتجاه متوازن: أولا: تستند في رحمتها بالمفسدين إلى تقصيرها في تمكينهم من حقهم في التربية والتأديب والردع للارتقاء بهم إلى المواطنة الصالحة. ثانيا: تحفزهم بكل الوسائل لتقديم أنفسهم طوعا للعدالة لتقول كلمتها في حقهم. وللدولة بعد هذا واسع النظر، بشرط تحقق استرجاع الأموال المنهوبة، والامتناع عن الفساد وشبهاته نهائيا. ثالثا: الإعلاء من قيم النزاهة من خلال حملات إعلامية، وقرارات هادفة قابلة للتنزيل. قد يبدو هذا سورياليا، خصوصا وبعض المفسدين يتفلتون من القضاء والسجون تفلت السمك في البحر؛ رغم صدور الأحكام في حقهم. كيف تنتظر يا هذا ممن هو في العسل أن ينصرف إلى البصل؟ ممكن إذا أعددنا لكل متفحل ما يخصيه. وفي الوطن شرفاء نشد على أياديهم؛ وهم الملح الذي لا يفسد.